.: النبي داوود (ع) :.
تعلّم من داوود:
نبي الله داوود (ع) أحد كبار أنبياء بني إسرائيل وحاكمًا لدولة كبيرة، وقد ورد ذكر مقامه العالي في عدّة آيات بيّنات من القرآن الكريم.
وكان يتمتّع بقوة جسدية مكّنته من أن يقتل الطاغية جالوت بضربة قويّة واحدة بواسطة حجر رماه من مقلاعه على جالوت، فأسقطه من فرسه مضرّجًا بدمه خلال إحدى المعارك.
وقال البعض: إن الحجر مزّق صدر جالوت وخرج من ظهره.
أمّا من حيث قدرته السياسية، فقد كانت حكومته قويّة ومستعدّة دائمًا لمواجهة الأعداء، بكل قوّة واقتدار، حتى قيل أن الآلاف من جنده كانت تقف على أهبة الاستعداد من المساء حتى الصباح في أطراف محراب عبادته.
ومن حيث قدرته الأخلاقية والمعنوية والعبادية، فإنه كان يقوم معظم الليل في عبادة الله، ويصوم نصف أيام السنة.
وأمّا من حيث النعم الإلهيّة، فقد أنعم عليه الباري عزّ وجلّ بالكثير من النعم الظاهرية والباطنيّة.
خلاصة الحديث، إنّ داوود كان رجلاً ذا قوة وقدرة في الحروب والعبادات والعلم والمعرفة وفي السياسة، وكان أيضًا صاحب نعمة كبيرة.
نعم الله على داوود:
القرآن الكريم يشرح أنواعًا من تلك النعم، قال تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾.
كذلك سخّرنا له مجاميع الطيور كي تسبّح الله معه ﴿وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً﴾.
فكل الطيور والجبال مسخّرة لداوود ومطيعة لأوامره، وتسبّح معه الباري عزّ وجلّ، وتعود إليه ﴿كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾(1)(2).
ومع إن كل ذرّات الوجود تذكر الله وتسبّح بحمده، سواء أسبَّحَ داوود (ع) معها أو لم يسبِّح، ولكن الميزة التي خُصّ بها داوود هي أنه ما أن يرفع صوته ويبدأ التسبيح، إلاّ ويظهر ما كان خفيًّا وكامنًا في الموجودات، وتتبدّل الهمهمة الباطنة إلى نغمة علنية منسجمة، كما ورد في الروايات من تسبيح الحصاة في يد الرسول الأكرم (ص).
وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) عند ذكره لقصة داوود (إنه خرج يقرأ الزبور، وكان إذا قرأ الزبور ولا يبقى جبل ولا حجر ولا طائرًا إلا أجابه).
وبعد ذكر هذه الفضيلة المعنوية، يذكر القرآن فضيلة ماديّة أخرى فيقول: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾(3).
يمكن القول بأن الله تعالى علّم داوود – إعجازًا – ما استطاع بواسطته تليين الحديد حتّى يمكنه من صنع أسلاك رقيقة وقويّة لنسج الدروع منها، أو أنه كان قبل داوود يستفاد من صفائح الحديد لصناعة الدروع والإفادة منها في الحروب، ممّا كان يسبّب حرجًا وإزعاجًا للمحاربين نتيجة ثقل الحديد من جهة، وعدم قابلية تلك الدروع للانحناء أو الالتواء حين ارتدائها، ولم يكن أحد قد استطاع حتى ذلك اليوم نسج الدروع من أسلاك الحديد الرفيعة المحكمة، ليكون لباسًا يمكن ارتداؤه بسهولة والإفادة من قابليته على التلّوي والانحناء مع حركة البدن برقّة وانسياب.
ولكن ظاهر القرآن يدلّل على أن ليونة الحديد تمّت لداوود بأمر إلهي، فما يمنع الذي أعطى لفرن النار خاصية إلانة الحديد، أن يعطي هذه الخاصية لداوود بشكل آخر.
إن الله أوحى إلى داوود: نعم العبد إلا أنك تأكل من بيت المال، فبكى داوود أربعين صباحًا، فألان الله له الحديد، وكان يعمل كل يوم درعًا فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستّين درعًا فباعها بثلاثمائة وستين ألفًا فاستغنى عن بيت المال) (4).
على كل حال، فإن داوود وجّه هذه القدرة التي وهبها إيّاه الله في أفضل الطرق وهي صناعة وسائل الجهاد والدفاع ضدّ الأعداء، ولم يحاول الاستفادة منها في صناعة وسائل الحياة العادية، وعلاوة على الاستفادة من دخله منها في تصريف أمور حياته المعيشية البسيطة، فقد هيّأ جزءًا منه للإنفاق على المحتاجين. وفوق كل هذا فقد كان عمله بحدّ ذاته معجزة ارتبطت به.
وآخر نعمة إلهية أُنعمت على داوود هي تمكنّه من القضاء والحكم بصورة صحيحة وعادلة ﴿وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾(5).
داوود والامتحان الكبير:(6)
يبيّن القرآن المجيد أحداث قضيّة عرضت على داوود.
ففي البداية يخاطب القرآن المجيد الرسول الأكرم (ص): ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾.
فرغم أن داوود (ع) كان محاطًا بأعداد كبيرة من الجند والحرس، إلا أن طرفي النزاع تمكّنا – من طريق غير مألوف – تسوّر جدران المحراب، والظهور أمام داوود (ع) فجأة، ففزع عند رؤيتهما، إذ دخلا عليه بدون استئذان ومن دون إعلام مسبق ، وظن داوود أنهم يكّنون له السوء، ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾.
إلاّ أنهما عمدا بسرعة إلى تطبيب نفسه وإسكان روعه، وقالا له: لا تخف نحن متخاصمان تجاوز أحدنا على الآخر ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾.
من المسلّم به أن قلق وروع (داوود) قلّ بعض الشيء عندما وضّح الأخوان هدف مجيئهما إليه، ولكن بقي هناك سؤال واحد في ذهنه هو، إذا كنتما لا تكنّان السوء، فما هو الهدف من مجيئكما إليّ عن طريق غير مألوف؟
تقدّم أحدهما وطرح المشكلة على داوود، وقال: هذا أخي، يمتلك (99) نعجة، وأنا لا أمتلك إلاّ نعجة واحدة، وإنه يصرّ عليّ أن أعطيه نعجتي ليضمها إلى بقيّة نعاجه، وقد شدّد عليّ في القول وأغلظ ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾.
وهنا التفت داوود (ع) إلى المدّعي قبل أن يستمع كلام الآخر وقال: من البديهي أنه ظلمك بطلبه ضمّ نعجتك إلى نعاجه ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾.
فالظاهر أن طرفي الخصام اقتنعا بكلام داوود (ع) وغادرا المكان.
ولكن داوود غرق في التفكير بعد مغادرتهما، رغم أنه كان يعتقد أنه قضى بالعدل بين المتخاصمين، فلو كان الطرف الثاني مخالفًا لادّعاءات الطرف الأول – أي المدّعي – لكان قد اعترض عليه، إذن فسكوته هو خير دليل على أن القضية هي كما طرحها المدّعي.
ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داوود أن يتريّث في إصدار الأحكام ولا يتعجّل في إصدارها، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضًا ثم يحكم بينهما، فلذا ندم كثيرًا على عمله هذا، وظنّ أنما فتنه الباري عزّ وجلّ بهذه الحادثة ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾.
وهنا أدركته طبيعته، وهي أن أوّاب إذ طلب العفو والمغفرة من ربه وخرّ راكعًا تائبًا إلى الله العزيز الحكيم ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾(7).
على أية حال، فالله سبحانه وتعالى شمل عبده داوود بلطفه وعفا عن زلّته من حيث ترك العمل بالأولى، ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾. وإن له منزلة رفيعة عند الله ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾.
ما هي حقيقة وقائع قصّة داوود؟
الذي وضّحه القرآن المجيد في هذا الشأن لا يتعدّى أن شخصين تسوّرا جدران محراب داوود (ع) ليحتكما عنده، وأنه فزع عند رؤيتهما، ثم استمع إلى أقوال المشتكي الذي قال: إنّ لأخيه (99) نعجة وله نعجة واحدة، وإن أخاه طلب منه ضمّ هذه النعجة إلى بقيّة نعاجه، فأعطى داوود (ع) الحق للمشتكي، واعتبر طلب الأخ ذلك من أخيه ظلمًا وطغيانًا، ثم ندم على حكمه هذا، وطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه ويغفر له، فعفا الله عنه وغفر له.
وهنا تبرز مسألتان دقيقتان أيضًا: الأولى مسألة الامتحان، والثانية مسألة الاستغفار.
القرآن الكريم لم يفصّل الحديث بشأن هاتين المسألتين، إلا أن الدلائل الموجودة في هذه الآيات والروايات الإسلامية الواردة بشأن تفسيرها تقول، إن داوود كان ذا علم واسع وذا مهارة فائقة في أمر القضاء، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحنه، فلذا أوجد له مثل تلك الظروف غير الاعتيادية، كدخول الشخصين عليه من طريق غير اعتيادي وغير مألوف، إذ تسورا جدران محرابه، وابتلائه بالاستعجال في إصدار الحكم قبل الاستماع إلى أقوال الطرف الثاني، رغم أن حكمه كان عادلاً.
ورغم أنه انتبه بسرعة إلى زلّته، وأصلحها قبل مضيّ الوقت، ولكن مهما كان فإن العمل الذي قام به لا يليق بمقام النبوة الرفيع، ولهذا فإن استغفاره إنّما جاء لتركه العمل بالأولى، وإن الله شمله بعفوه ومغفرته.
والشاهد على هذا الكلام إضافة إلى ما ذكرناه قبل قليل – هو قوله سبحانه الذي يأتي مباشرة بعد تلك الآيات، والذي يخاطب داوود (ع): ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾(8). وهذا الكلام يبيّن أن زلّة داوود كانت في كيفيّة قضائه وحكمه.
وبهذا الشكل فإن القرآن لا يذكر شيئًا يقلّل من شأن ومقام هذا النبي الكبير(9).
1- سورة ص، 18-19
2- هناك سؤال يطرح، وهو: كيف ترددّ الطيور والجبال صوت التسبيح مع داوود؟
اختلف المفسرون في الإجابة على هذا السؤال:
احتمل البعض أن تسبيحها كان توأمًا مع صوت ظاهري، مرافقًا لنوع من الإدراك والشعور الذي هو في باطن ذرّات العالم، وطبقًا لهذا الاحتمال، فإنّ كل موجودات العالم تتمتّع بنوع من العقل والشعور، وحينما تسمع صوت مناجاة هذا النبي الكبير ترددّ معه المناجاة، ليمتزج تسبيحها مع تسبيح داوود (ع). وما ذكر فيه غير مستبعد قياسًا بقدرة الله.
فالمناجاة موجودة داخل جميع مخلوقات الكون، وترانيمها تتردّد على الدوام في بواطنها، وقد أظهرها الله سبحانه وتعالى لداوود (ع)، كما في الحصاة التي كانت تسبّح الله وهي في يد رسول الله (ص).
3- سبأ، 11
4- صحيح أن بيت المال يؤمن مصارف الأشخاص الذين يقدّمون خدمة مجانية للأُمة، ويتحملّون الأعباء التي لا يتحملّها غيرهم، ولكن ما أروع أن يستطيع الإنسان تقديم هذه الخدمة، وتأمين معاشه – في حال الاستطاعة – من كد يمينه، وداوود (ع) أراد أن يكون ذلك العبد الممتاز.
5- سورة ص، 20
6- طرحت هذه الآيات بحث بسيط وواضح عن قضاء داوود، ونتيجة لتحريف وسوء تعبير بعض الجهلة فقد أُثيرت ضجّة عظيمة في أوساط المفّسرين، وكانت أمواج هذه الضجّة من القوّة بحيث جرفت معها بعض المفسّرين، وجعلتهم يحكمون بشيء غير مقبول، ويقولون ما لا يليق بهذا النبي الكبير.
وفي هذا المجال بعد الانتهاء من تفسير الآيات باختصار نتطرق إلى الآراء المختلفة التي قيلت بشأنها.
7- سورة ص، 21-25
8- سورة ص، 26
9- التوراة والقصص الخرافية بشأن داوود:
الآن نتصفح كتاب التوراة لنشاهد ماذا ذكر فيه عن هذه الواقعة، لنعثر على الأساس الذي اعتمد عليه بعض المفسرين والجهلة وغير المطّلعين في تفسير هذه الآيات.
جاء في (التوراة) وفي الكتاب الثاني (اشموئيل) الإصحاح الحادي عشر من الجملة الثانية وحتى السابعة والعشرين:
خلاصة هذه القصة إلى هنا تكون كالآتي: في إحدى الأيام صعد داوود إلى سطح القصر فوقعت عيناه على البيت المجاور فرأى امرأة عارية تغتسل، فأحبّها، وتمكّن بإحدى الطرق من جلبها إلى بيته، فاضطجع معها فحملت منه.
وزوج هذه المرأة كان أحد الضّباط المشهورين في جيش داوود وكان طاهرًا نقيًا، قتله داوود (نعوذ بالله من هذا الكلام) بمؤامرة جبانة عندما بعثه إلى منطقة خطرة جدًا في ساحة الحرب، ثم تزّوج داوود زوجته.
والآن نواصل سرد بقية القصة على لسان التوراة الحالي إذ جاء في الإصحاح الثاني عشر من كتاب صموئيل الثاني (أن الرب أرسل (ناثان) أحد أنبياء بني إسرائيل ومستشار داوود في نفس الوقت، وقال له: كان رجلان في مدينة واحدة، واحد منهما غني والآخر فقير، وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدًا، وأمّا الفقير فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وربّاها، فجاء ضيف إلى الرجل الغني فأبى أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيئ للضيف الذي جاء إليه فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأ لضيفه.
فحمى غضب داوود، وقال لناثان، أقسم بالرب أن الشخص الذي ارتكب هذا العمل يستحق القتل، وعليه أن يرد النعجة أربعة أضعاف، وهنا قال ناثان لداوود، إن ذلك الرجل هو أنت!
فانتبه داوود للعمل غير الصحيح الذي قام به، فدعا الله ليتوب عليه، فتاب الله عليه، وأنزل في نفس الوقت ابتلاءات كبيرة على داوود.
هذا وقد استخدمت التوراة عبارات يجلّ القلم عن ذكرها لهذا نصرف النظر عنها.
وفي هذه الجزء من القصة التي استعرضتها التوراة يمكن للمتتبع ملاحظة ما يلي:
1- لم يأت أحد متظلمًا أو شاكيًا إلى داوود ، وإنما جاء أحد أنبياء بني إسرائيل، الذي هو مستشار داوود في نفس الوقت، وذكر له قصة يستهدف منها وعظ داوود، والقصة هي بشأن شخصين الأول غني والثاني فقير، الغني يملك أعدادًا كبيرة من الغنم والبقر، أمّا الفقير فلا يملك سوى نعجة واحدة صغيرة، والغني أخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأها لضيفه.
إلى هذا المقدار من القصة لا يوجد أي تطرّق لتسوّر جدران المحراب وفزع داوود وتخاصم الشخصين عنده، إضافة إلى طلب العفو والمغفرة.
2- داوود (ع) اعتبر الغني طاغية ويستحق القتل لماذا يقتل من أجل نعجة واحدة؟!
3- لماذا تسرّع داوود (ع) في إصدار الحكم، إذ قال: يجب على الغني أن يردّ النعجة بأربعة أضعاف؟
4- داوود يعترف بذنبه مع زوجة أوريا.
5- لماذا يعفو الله عزّ وجلّ عنه وبهذه السهولة؟!
6- الله سبحانه وتعالى يذكر عقوبات عجيبة ستطال داوود من الأفضل عدم ذكرها هنا.
7- هذه المرأة (مع ماضيها المشهور) هي أُم سليمان (ع)!
رغم أن نقل مثل هذه القصص مؤلم حقًا، ولكن ما العمل، إذ أن بعض الجهلة غير المطّلعين من المتأثرين بالروايات الإسرائيلية، أساءوا إلى تفسير القرآن الكريم الطاهر، بإقحامهم مثل هذه الروايات فيه، ولا يوجد أمامنا سبيل إلا ذكر أجزاء من تلك القصص الفاضحة لرّدها.
والآن نسأل:
1- هل يمكن اتّهام نبي مدحه الباري عزّ وجلّ في قرآنه الكريم بعشر صفات عظيمة، ودعا نبينا الأكرم محمد إلى أن يستلهم من سيرتهن هل يمكن اتّهامه بتلك التهم.
2- هل تتطابق هذه الأراجيف مع آيات القرآن التالية: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾.
3- إذا ارتكب شخص عادي – وليس أحد الأنبياء – مثل هذا العمل الإجرامي للاعتداء على زوجة ضابط وفيّ وطاهر ومؤمن ومن خلال عملية خبيثة، بماذا سيحكم الناس عليه وما هي عقوبته؟ فالفاسق يتنزّه عن هذا العمل الشنيع، فكيف بنبي الله داوود؟
ومما يجدر ذكره أن التّوراة لا تعتبر داوود نبيًّا، وإنما تعتبره ملكًا عادلاً له مكانة مرموقة، وأنه مشيّد المعبد الكبير لبني إسرائيل.
4- الطريف في الأمر أن كتاب (مزامير داوود) هو أحد كتاب التوراة، وقد جمعت فيه مناجات وأحاديث داوود، فهل يمكن درج أحاديث ومناجاة مثل هذا الإنسان في طيّات الكتب السماوية؟
5- لو طرحت هذه القصص على شخص لا يمتلك سوى القليل من العقل والإدراك، لاعترف بأن قصص التوراة المحرّفة حاليًا ما هي إلا خرافات، وأن أعداء نهج الأنبياء أو أشخاص جهلة غير مطّلعين صاغوا مثل هذه الخرافات معيارًا للبحث؟ نعم فعظمة القرآن المجيد تبرز من خلال حلّوه من هذه الخرافات.
ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يقول فيه: (لا أُوتي برجل يزعم أن داوود تزوج امرأة أوريا إلا جلدته حدين حدًا للنبوة وحدًا للإسلام).
لماذا، لأن المزاعم المذكورة تتهم من جهة إنسانًا مؤمنًا بارتكاب عمل محرّم، ومن جهة أخرى تنتهك حرمة مقام النبوّة، ومن هنا حكم الإمام بجلد من يفتري عليه (ع) مرتين (كل مرّة 80 سوطًا) وقال الأمام الرضا (ع) في جواب من سأله: يا ابن رسول الله، ما قصة داوود مع أوريا؟
قال: (إن المرأة في أيام داوود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدًا، فأوّل من أباح الله عزّ وجلّ أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داوود (ع) فتزوّج بامرأة أوريا لمّا قتل وانقضت عدّتها، فذلك الذي شقّ على الناس من قتل أوريا).
يستفاد من هذا الحديث أن مسألة أوريّا كانت لها جذور حقيقية بسيطة، وأن داوود نفّذ ما جاء في الرسالة الإلهية، إلا أن أعداء الله من جهة أخرى، إضافةً إلى مؤلفي القصص الخيالية الذين يكتبون دائمًا قصص عجيبة وكاذبة من جهة ثالثة، اختلقوا سيقانًا وأغصانًا وأوراقًا لهذه القصة كي ينفروا الإنسان من داوود.
فأحدهم قال: لا يمكن أن يتم هذا الزواج ما لم تكن هنالك مقدّمات له؟
والآخر قال: يحتمل أن بيت أوريا كان مجاورًا لبيت داوود!
وفي النهاية اتّهموا أحد أنبياء الله الكبار بارتكاب مختلف أنواع الذنوب الكبيرة والمخزية، وتناقلتها ألسنة الجهلاء والبُلهاء، ولو أنها مذكورة في الكتب المعروفة لكان من الخطأ ذكرها والتعرّض لها.