نهج من كلام له عليه السّلام في قتل عثمان لو أمرت به لكنت قاتلا، أو نهيت عنه لكنت ناصرا، غير أنّ من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه، و من خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خير منّي، و أنا جامع لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة، و جزعتم فأسأتم الجزع، و للّه حكم واقع في المستأثر و الجازع.
بيان قال ابن أبي الحديد معناه أنّ خاذليه كانوا خيرا من ناصريه، لأنّ الذين نصروه كانوا فسّاقا كمروان بن الحكم و أضرابه، و خذله المهاجرون و الأنصار. و المستأثر بالشّيء المستبدّ به.. أي أساء عثمان في استقلاله برأيه في الخلافة و إحداث ما أحدث. قوله عليه السلام للّه حكم واقع.. أي ثابت محقّق في علمه تعالى، فالحكم يحتمل الدنيوي و الأخروي أو سيقع و يتحقّق خارجا في الآخرة أو في الدنيا، لأنّ مجموعه لم يتحقّق بعد و إن تحقّق بعضه.
نهج من كلام له عليه السلام لمّا بلغه اتّهام بني أميّة له بالمشاركة في دم عثمان أ و لم ينه بني أميّة علمها بي عن قرفي، أ ما وزع الجهّال سابقتي عن تهمتي و لما وعظهم اللّه به أبلغ من لساني، أنا حجيج المارقين، و خصيم المرتابين، على كتاب اللّه تعالى تعرض الأمثال، و بما في الصّدور تجازى العباد.
توضيح قرفه كضربه.. أي اتّهمه. و وزعه عنه صرفه و كفّه. و السّابقة الفضيلة و التّقدّم، و المراد باللسان القول. و الحجيج المغالب بإظهار الحجّة. و المارقون الخارجون من الدّين. و الخصيم المخاصم. و المرتابون الشّاكّون في الدين أو في إمامته، أو في كلّ حقّ. و المحاجّة المخاصمة إمّا في الدنيا، أو فيها، و في الآخرة.
و قال بعض الشارحين للنهج روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن قوله تعالى )هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ(، فقال عليّ و حمزة و عبيدة و عتبة و شيبة و الوليد...
إلى آخر ما مرّ في الأخبار الكثيرة في غزوة بدر. قال و كان عليّ عليه السلام يكثر من قوله أنا حجيج المارقين.. و يشير إلى هذا المعنى، و أشار إلى ذلك بقوله على كتاب اللّه تعرض الأمثال.. يريد قوله )هذانِ خَصْمانِ..( الآية، و قال بعضهم لمّا كان في أقواله و أفعاله عليه السلام ما يشبه الأمر بالقتل أو فعله فأوقع في نفوس الجهّال شبهة القتل نحو ما
روي عنه عليه السلام اللّه قتله و أنا معه
و كتخلّفه في داره عن الخروج يوم قتل، فقال ينبغي أن يعرض ذلك على كتاب اللّه، فإن دلّ على كون شيء من ذلك قتلا فليحكم به و إلّا فلا. و يحتمل أن يراد بالأمثال الحجج أو الأحاديث كما ذكرها في القاموس.. أي ما احتجّ به في مخاصمة المارقين و المرتابين و ما يحتجّون به في مخاصمتي ينبغي عرضها على كتاب اللّه حتى يظهر صحّتهما و فسادهما، أو ما يسندون إليّ في أمر عثمان و ما يروى في أمري و أمر عثمان يعرض على كتاب اللّه. و بما في الصدور.. أي بالنيّات و العقائد، أو بما يعلمه اللّه من مكنون الضمائر لا على وفق ما يظهره المتخاصمان عند الإحتجاج يجازي اللّه العباد.
نهج من كلام له عليه السّلام بعد ما بويع بالخلافة و قال له قوم من الصّحابة لو عاقبت قوما ممّن أجلب على عثمان. فقال عليه السّلام يا إخوتاه إنّي لست أجهل ما تعلمون، و لكن كيف لي بقوّة و القوم المجلبون على حدّ شوكتهم، يملكوننا و لا نملكهم، و ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، و التفت إليهم أعرابكم، و هم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، و هل ترون موضعا لقدرة على شيء تريدونه إنّ هذا الأمر أمر جاهليّة، و إنّ لهؤلاء القوم مادّة، إنّ النّاس من هذا الأمر إذا حرّك على أمور فرقة ترى ما ترون، و فرقة ترى ما لا ترون، و فرقة لا ترى لا هذا و لا هذا، فاصبروا حتّى يهدأ النّاس، و تقع القلوب مواقعها، و تؤخذ الحقوق مسمحة، فاهدءوا عنّي، و انظروا ما ذا يأتيكم به أمري، و لا تفعلوا فعلة تضعضع قوّة و تسقط منّة، و تورث وهنا و ذلّة، و سأمسك الأمر ما استمسك، و إذا لم أجد بدّا، فآخر الدّواء الكيّ.
إيضاح لو عاقبت.. جزاء الشرط محذوف.. أي لكان حسنا و نحوه. و أجلبوا عليه.. تجمّعوا و تألّبوا. قوله عليه السلام على حدّ شوكتهم.. أي لم ينكسر سورتهم، و الحدّ منتهى الشّيء، و من كلّ شيء حدّته، و منك بأسك. و الشّوكة شدّة البأس و الحدّ في السّلاح.
و روي أنّه عليه السلام أجمع الناس و وعظهم، ثم قال لتقم قتلة عثمان، فقام الناس بأسرهم إلّا قليل، و كان ذلك الفعل منه عليه السلام استشهادا على قوله.
و العبدان جمع عبد. و التفّت.. أي انضمّت و اختلطت. و هم خلالكم.. أي بينكم. يسومونكم.. أي يكلّفونكم. قوله عليه السلام إنّ هذا الأمر.. أي أمر المجلبين عليه، كما قال ابن ميثم، و المعنى أنّ قتلهم لعثمان كان عن تعصّب و حميّة لا لطاعة أمر اللّه و إن كان في الواقع مطابقا له. و يمكن أن يكون المراد أنّ ما تريدون من معاقبة القوم أمر جاهليّة نشأ عن تعصّبكم و حميّتكم و أغراضكم الباطلة، و فيه إثارة للفتنة و تهييج للشرّ، و الأول أنسب بسياق الكلام، إذ ظاهر أنّ إيراد تلك الوجوه للمصلحة و إسكات الخصم، و عدم تقوية شبه المخالفين الطالبين لدم عثمان. قوله مسمحة... أي منقادة بسهولة. و يقال ضعضعه.. أي هدمه حتّى الأرض. و المنّة بالضّم القوّة. قوله عليه السلام فآخر الدواء الكيّ كذا في أكثر النسخ المصحّحة، و لعلّ المعنى بعد الداء الكيّ إذا اشتدّ الداء و لم يزل بأنواع المعالجات فيزول بالكيّ و ينتهي أمره إليه. و قال ابن أبي الحديد آخر الدواء الكيّ مثل مشهور، و يقال آخر الطبّ، و يغلط فيه العامّة فتقول آخر الداء الكيّ، ثم قال ليس معناه و سأصبر عن معاقبة هؤلاء ما أمكن فإذا لم أجد بدّا عاقبتهم، و لكنّه كلام قاله عليه السلام أوّل مسير طلحة و الزبير إلى البصرة، فإنّه حينئذ أشار عليه قوم بمعاقبة المجلبين فاعتذر عليه السلام بما ذكر، ثم قال سأمسك نفسي عن محاربة هؤلاء الناكثين و أقنع بمراسلتهم و تخويفهم، فإذا لم أجد بدّا فآخر الدواء الحرب. أقول و يحتمل أن يكون ذلك تورية منه عليه السلام ليفهم بعض المخاطبين المعنى الأول، و مراده المعنى الثاني.
ما أبو عمرو، عن ابن عقدة، عن أحمد بن يحيى، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أحمد بن أبي العالية، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال إن شاء الناس قمت لهم خلف مقام إبراهيم فحلفت لهم باللّه ما قتلت عثمان و لا أمرت بقتله، و لقد نهيتهم فعصوني.
قب روي أنّ أصحاب أمير المؤمنين كانوا فرقتين إحداهما اعتقدوا أنّ عثمان قتل مظلوما و يتوالاه و يتبرّأ من أعدائه، و الأخرى و هم جمهور أهل الحرب و أهل الغناء و البأس اعتقدوا أنّ عثمان قتل لأحداث أوجبت عليه القتل، و منهم من يصرّح بتكفيره، و كلّ من هاتين الفرقتين تزعم أنّ عليّا عليه السلام موافق له على رأيه، و كان يعلم أنّه متى وافق إحدى الطائفتين باينته الأخرى و أسلمته، و تولّت عنه و خذلته، فكان يستعمل في كلامه ما يوافق كلّ واحدة من الطائفتين.
أقول قد مرّ القول في ذلك في سياق مطاعنه، و لا يخفى على أحد أنّ أقواله و أفعاله عليه السلام في تلك الواقعة تدلّ على أنّه عليه السلام كان منكرا لأفعاله و خلافته راضيا بدفعه، لكن لم يأمر صريحا بقتله لعلمه بما يترتّب عليه من المفاسد أو تقيّة، و لم ينه القاتلين أيضا لأنّهم كانوا محقّين، و كان عليه السلام يتكلّم في الإحتجاج على الخصوم على وجه لا يخالف الواقع و لا يكون للجهّال و أهل الضلال أيضا عليه حجّة، و كان هذا ممّا يخصّه من فصل الخطاب و ممّا يدلّ على وفور علمه في كلّ باب.