ما روته العامّة و الخاصّة أنّه أراد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في مرضه أن يكتب لأمّته كتابا لئلّا يضلّوا بعده و لا يختلفوا، فطلب دواة و كتفا أو نحو ذلك، فمنع عمر من إحضار ذلك و قال إنّه ليهجر، أو ما يؤدّي هذا المعنى،
و قد وصفه اللّه سبحانه بأنّه لا ينطق عن الهوى، و أنّ كلامه ليس إلّا وحيا يوحى، و كثر اختلافهم و ارتفعت أصواتهم حتّى تسأّم و تزجّر. فقال بعضهم أحضروا ما طلب. و قال بعضهم القول ما قال عمر، و قد قال اللّه سبحانه وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً، و قال تعالى فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً، و قد قدّمنا في باب وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ذلك أخبارا كثيرة من طرق الخاصّ و العامّ و لنذكر هنا زائدا على ما تقدّم ما يؤيّد تلك الأخبار من الجانبين. فأمّا الروايات العاميّة
فروى البخاري في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب من كتاب الجهاد و السير، و مسلم في كتاب الوصايا، عن سفيان، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير، أنّه سمع ابن عباس يقول يوم الخميس و ما يوم الخميس ثم بكى حتّى بلّ دمعه الحصى، قلت يا ابن عباس ما يوم الخميس. قال اشتدّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجعه، فقال ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا، فتنازعوا و لا ينبغي عند نبيّ تنازع، فقالوا ما له أ هجر استفهموه. فقال ذروني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه. فأمرهم بثلاث، قال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، و أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، و الثالثة إمّا أن سكت عنها و إمّا أن قالها فنسيتها، قال قال سفيان هذا من قول سليمان.
و في باب جوائز الوفد من الكتاب المذكور، عن سليمان الأحول، عن ابن جبير، عن ابن عباس، أنّه قال يوم الخميس و ما يوم الخميس ثم بكى حتّى خضب دمعه الحصباء، فقال اشتدّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجعه يوم الخميس، فقال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا، فتنازعوا و لا ينبغي عند نبيّ تنازع، فقالوا هجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه، و أوصى عند موته بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، و أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، و نسيت الثالثة.
و روى البخاري في باب كتابة العلم من كتاب العلم، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن ابن عباس، قال لمّا اشتدّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ وجعه، قال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده. قال عمر إنّ النبيّ غلبه الوجع و عندنا كتاب اللّه.. حسبنا، فاختلفوا و كثر اللغط، فقال قوموا عنّي و لا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و بين كتابه.
و في باب مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مثل الرواية الأولى.
و في هذا الباب، عن الزهري، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، عن ابن عباس، قال لمّا حضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و في البيت رجال فقال النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ هلمّوا أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده. فقال بعضهم إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ قد غلبه الوجع و عندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّه، فاختلف أهل البيت و اختصموا، فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده، و منهم من يقول غير ذلك، فلمّا أكثروا اللغو و الاختلاف، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ قوموا. قال عبيد اللّه فكان ابن عباس يقول إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، لاختلافهم و لغطهم.
و روى البخاري أيضا في باب قول المريض قوموا عنّي، من كتاب المرضى.
و مسلم في كتاب الوصايا، عن الزهري، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن ابن عباس، قال لمّا حضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ هلمّ أكتب لكم كتابا.. و ساق الحديث مثل ما مرّ آنفا.
و روى مسلم في الكتاب المذكور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنّه قال يوم الخميس و ما يوم الخميس، ثم جعل تسيل دموعه حتّى رأيت على خدّيه كأنّها نظام اللؤلؤ، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ ائتوني بالكتف و الدواة أو اللوح و الدواة أكتب كتابا لن تضلّوا بعده أبدا. فقالوا إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ يهجر.
و قد حكى في جامع الأصول الأخبار في هذا المعنى، عن البخاري و مسلم.
و روى السيد ابن طاوس قدّس اللّه روحه في كتاب كشف اليقين من كتاب الجمع بين الصحيحين جمع الحافظ محمد بن أبي نصر بن عبد اللّه الحميدي من نسخة عليها عدّة سماعات و إجازات تاريخ بعضها سنة إحدى و أربعين و خمسمائة ما هذا لفظه قال قال ابن عباس يوم الخميس و ما يوم الخميس في رواية ثم بكى حتّى بلّ دمعه الحصى، فقلت يا ابن عباس و ما يوم الخميس. قال اشتدّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ وجعه، فقال ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا. فتنازعوا و لا ينبغي عند نبيّ تنازع. فقالوا ما شأنه، هجر استفهموه. فذهبوا يردّدون عليه، فقال ذروني.. دعوني، فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه.
و في رواية من الحديث الرابع من الصحيحين فكان ابن عباس يقول إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و بين كتابه.
و روى حديث الكتاب الذي أراد أن يكتبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأمّته لأمانهم من الضلالة عن رسالته جابر بن عبد اللّه الأنصاري في المتّفق عليه من صحيح مسلم فقال في الحديث السادس و التسعين من أفراد مسلم من مسند جابر بن عبد اللّه ما هذا لفظه قال و دعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ بصحيفة عند موته فأراد أن يكتب لهم كتابا لا يضلّون بعده، و كثر اللغط و تكلّم عمر، فرفضها صلّى اللّه عليه ]و آله[.
و قال رضي اللّه عنه في كتاب الطرائف من أعظم طرائف المسلمين أنّهم شهدوا جميعا أنّ نبيّهم أراد عند وفاته أن يكتب لهم كتابا لا يضلّون بعده أبدا و أنّ عمر بن الخطاب كان سبب منعه من ذلك الكتاب و سبب ضلال من ضلّ من أمّته، و سبب اختلافهم و سفك الدماء بينهم، و تلف الأموال، و اختلاف الشريعة، و هلاك اثنتين و سبعين فرقة من أصل فرق الإسلام، و سبب خلود من يخلد في النار منهم، و مع هذا كلّه فإنّ أكثرهم أطاع عمر بن الخطاب، الذي قد شهدوا عليه بهذه الأحوال في الخلافة و عظّموه و كفّروا بعد ذلك من يطعن فيه و هم من جملة الطاعنين و ضلّلوا من يذمّه و هم من جملة الذامّين و تبرّءوا ممّن يقبّح ذكره و هم من جملة المقبّحين.. فمن روايتهم في ذلك
ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث الرابع من المتّفق عليه في صحّته من مسند عبد اللّه بن عباس قال لمّا احتضر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و في بيته رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هلمّوا أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا. فقال عمر بن الخطاب إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد غلبه الوجع و عندكم القرآن، حسبكم كتاب ربّكم.
و في رواية ابن عمر من غير كتاب الحميدي، قال عمر إنّ الرجل ليهجر. و في كتاب الحميدي قالوا ما شأنه، هجر.
و في المجلد الثاني من صحيح مسلم فقال إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ يهجر....
قال الحميدي فاختلف الحاضرون عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فبعضهم يقول القول ما قاله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقرّبوا إليه كتابا يكتب لكم، و منهم من يقول القول ما قاله عمر، فلمّا أكثروا اللغط و الاختلاط، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قوموا عنّي فلا ينبغي عندي التنازع، فكان ابن عباس يبكي حتّى تبلّ دموعه الحصى، و يقول يوم الخميس و ما يوم الخميس. قال راوي الحديث فقلت يا ابن عباس و ما يوم الخميس. فذكره عبد اللّه بن عباس يوم منع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك الكتاب، و كان يقول الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين كتابه.
أقول الهجر الهذيان. قال في جامع الأصول في شرح غريب الميم الهجر بالفتح الهذيان، و هو النطق بما لا يفهم، يقال هجر فلان إذا هذى، و أهجر نطق بالفحش، و الهجر بالضم النطق بالفحش. و في القاموس هجر في نومه و مرضه هجرا بالضم.. هذى، و في الصحاح الهجر.. الهذيان، و قد هجر المريض يهجر هجرا فهو هاجر و الكلام مهجور. قال أبو عبيد يروى عن إبراهيم ما يثبّت هذا القول في قوله تعالى إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً قال قالوا فيه غير الحقّ، أ لم تر إلى المريض إذا هجر قال غير الحقّ. و عن مجاهد نحوه. فظهر أنّ إنكار بعضهم كون الهجر بمعنى الهذيان من أفحش الهذيان. و قد اعترف ابن حجر مع شدّة تعصّبه بأنّه بمعنى الهذيان، في مقدمة شرحه لصحيح البخاري. و اللغط بالتسكين و التحريك الصّوت و الجلبة أو أصوات مبهمة لا تفهم. و الرّزيّة المصيبة. ثم اعلم أنّ قاضي القضاة في المغني لم يتعرّض لدفع هذا الطعن عن عمر ابن الخطاب، و كذلك كثير من العامّة كشارح المقاصد و غيره، و لم يذكره السيد الأجلّ رضي اللّه عنه في الشافي لكون نظره فيه مقصورا على دفع كلام صاحب المغني، و قد تصدّى القاضي عياض المالكي في كتابه الموسوم ب الشفاء لدفعه و توجيه الاختلاف الصادر عن الأصحاب بوجوه نذكرها مع ما يرد على كلامه، قال أولا فإن قلت قد تقرّرت عصمة النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم في أقواله في جميع أحواله، و أنّه لا يصحّ منه فيها خلف و لا اضطراب في عمد و لا سهو، و لا صحّة و لا مرض، و لا جدّ و لا مزاح، و لا رضى و لا غضب، فما معنى
الحديث في وصيّته صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم الذي حدّثنا به القاضي أبو علي، عن أبي الوليد، عن أبي ذرّ، عن أبي محمد و أبي الهيثم و أبي إسحاق جميعا، عن محمد بن يوسف، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن عبد اللّه، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن ابن عباس، قال لمّا احتضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم و في البيت رجال قال النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم هلمّوا أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده. فقال بعضهم إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم غلبه الوجع.. الحديث.
و في رواية ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعدي أبدا، فتنازعوا، فقالوا ما له أ هجر استفهموه. فقال دعوني فإنّ الذي أنا فيه خير.
و في بعض طرقه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم هجر، و في رواية هجر، و يروى أهجر، و يروى أ هجرا، و فيه
فقال عمر إنّ النبيّ )ص( قد اشتدّ به الوجع، و عندنا كتاب اللّه حسبنا، و كثرت اللغط. فقال قوموا عنّي.
و في رواية و اختلف أهل البيت و اختصموا، فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم كتابا، و منهم من يقول القول ما قال عمر
قال أئمّتنا في هذا الحديث النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم غير معصوم من الأمراض، ما يكون من عوارضها من شدّة وجع و غشي.. و نحوه ممّا يطرأ على جسمه، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته، و يؤدّي إلى فساد في شريعته من هذيان و اختلال في كلام، و على هذا لا يصحّ ظاهر رواية من روى في الحديث هجرا إذ معناه هذى، يقال هجر هجرا إذا هذى، و أهجر هجرا إذا أفحش، و أهجر تعدية هجر، و إنّما الأصحّ و الأولى أ هجر على طريق الإنكار، على من قال لا يكتب، و هكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرواة، و في حديث الزهري المتقدّم و في حديث محمد بن سلام، عن ابن عيينة و قد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام و التقدير أ هجرا، و أن يحمل قول القائل هجرا و أهجر على دهشة من قائل ذلك و حيرة لعظم ما شاهد من حال الرسول صلّى اللّه عليه ]و آله[ و شدّة وجعه، و هول المقام الذي اختلف فيه عليه، و الأمر الذي همّ بالكتاب فيه حقّ لم يضبط هذا القائل لفظه، و أجرى الهجر مجرى شدّة الوجع، لا أنّه اعتقد أنّه يجوز عليه الهجر كما حملهم الإشفاق على حراسته، و اللّه تعالى يقول وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ و نحو هذا، و أمّا على رواية أ هجرا فقد يكون هذا راجعا إلى المختلفين عنده صلّى اللّه عليه و آله و مخاطبة لهم من بعضهم، أي جئتم باختلافكم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين يديه هجرا و منكرا من القول، و الهجر بضم الهاء الفحش في المنطق. و قد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، و كيف اختلفوا بعد أمره لهم أن يأتوه بالكتاب، فقال بعضهم أوامر النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ يفهم إيجابها من ندبها و ندبها من إباحتها بقرائن، فلعلّه قد ظهر من قرائن قوله صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم لبعضهم ما فهموا أنّه لم يكن منه عزمة بل ردّه إلى اختيارهم، و بعضهم لم يفهم ذلك. فقال استفهموه فلمّا اختلفوا كفّ عنه إذ لم يكن عزمة، و لمّا رأوه من صواب رأي عمر، ثم هؤلاء قالوا و يكون امتناع عمر إمّا إشفاقا على النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم من تكلّفه في تلك الحال إملاء الكتاب، و أن تدخل عليه مشقّة من ذلك كما قال إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم اشتدّ به الوجع. و قيل خشي عمر أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون في الحرج و العصيان بالمخالفة، و رأى أنّ الأوفق بالأمّة في تلك الأمور سعة الاجتهاد و حكم النظر، و طلب الثواب، فيكون المخطئ و المصيب مأجورا. و قد علم عمر تقرّر
الشرع و تأسّس الملّة، و أنّ اللّه تعالى قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، و قوله صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم أوصيكم بكتاب اللّه و عترتي. و قول عمر حسبنا كتاب اللّه، ردّ على من نازعه لا على أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و قد قيل إنّ عمر قد خشي تطرّق المنافقين و من في قلبه مرض و لمّا كتب في ذلك الكتاب في الخلوة و أن يتقوّلوا في ذلك الأقاويل، كادّعاء الرافضة الوصيّة و غير ذلك. و قيل إنّه كان من النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم على طريق المشورة و الاختبار، هل يتّفقون على ذلك أم يختلفون فلمّا اختلفوا تركه. و قالت طائفة أخرى إنّ معنى الحديث أنّ النبي صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم كان مجيبا في هذا الكتاب لما طلب منه لا أنّه ابتداء بالأمر به بل اقتضاه منه بعض أصحابه فأجاب رغبتهم و كره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها، و استدلّ في مثل هذه القصّة بقول العباس لعليّ )ع( انطلق بنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم فإن كان الأمر فينا علمناه، و كراهة عليّ )ع( هذا، و قوله و اللّه لا أفعل و استدلّ بقوله )ص( دعوني فالذي أنا فيه خير.. أي الذي أنا فيه خير من إرسال الأمر و ترككم كتاب اللّه و أن تدعوني من الذي طلبتم، و ذكر أنّ الذي طلب كتابة أمر الخلافة بعده و تعيين ذلك. انتهى كلامه. و يرد على ما ذكره أولا، و ما نقله عن القوم ثانيا وجوه من الإيراد فأمّا ما اختاره في تفسير الهجر و توجيهه فهو هجر تبع فيه إمامه، فإنّ ما رواه البخاري في باب العلم صريح في أنّ عمر نسب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قد غلبه الوجع، و لا يلزمنا إجابته في إحضار الكتاب، و ظاهر أنّ قائل ما له أ هجر استفهموه، هو قائل قد غلبه الوجع، و إنّ مفاد العبارتين واحد، و معلوم من سياق مجموع الأخبار أنّ اللغط و الاختلاف لم يحصلا إلّا من قول عمر، و أنّ ترك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الكتابة لم يكن إلّا من جهته، و أنّه آذاه و أغاظه. و أمّا الاعتذار بأنّه صدر منه هذا الكلام من الدهشة فهو باطل، لأنّه لو كان كذلك لكان يلزمه أن يتدارك ذلك بما يظهر للناس أنّه لا يستخفّ بشأنه صلّى اللّه عليه و آله. و أيضا لو كان في هذه الدرجة من المحبّة له صلّى اللّه عليه و آله بحيث يضطرب بسماع ما هو مظنّة وفاته صلّى اللّه عليه و آله إلى حدّ يختلّ نظام كلامه لكان تلك الحالة أشدّ بعد تحقّق الوفاة، و لو كان كذلك لم يبادر إلى السقيفة قبل تجهيزه صلّى اللّه عليه و آله و غسله و دفنه، و لو سلّم ذلك فهو لا ينفعه، لأنّ مناط الطعن مخالفة أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ممانعته فيما يوجب صلاح عامّة المسلمين إلى يوم القيامة، و السهو في خصوص عبارة لا ينفع في ذلك. و أمّا ما نقله عن القوم في ذلك فالاعتراض عليه من وجوه الأول أنّ ما ذكره أولا من أنّ فهم البعض أنّ أمره صلّى اللّه عليه و آله بإحضار ما طلب كان مردودا إلى اختيارهم ظاهر الفساد، فإنّ الأمر مع أنّه ظاهر في الوجوب كما حرّر في محله قد اقترن به في المقام ما يمنع من أن يراد به الندب أو الإباحة، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله علّل الكتاب بأن لا يضلّوا بعده، و ظاهر أنّ الأمر الذي يكون في تركه ضلال الأمّة لا يكون مباحا و لا مندوبا، و ليس مناط الوجوب إلّا قوّة المصلحة و شدّة المفسدة، و قد علّل من منع الإحضار بأنّه صلّى اللّه عليه و آله يهجر، كما صرّحت به الرواية الثانية المتقدّمة، أو أنّه قد غلبه الوجع، و ظاهر أنّ هذا الكلام لا ارتباط له بفهم الإباحة أو الندب. و يؤيّده قول ابن عباس مع اعتراف الجمهور له بجودة الفهم و إصابة النظر
أنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين الكتابة، و هل يسمّى فوت أمر مباح أو مندوب رزيّة كلّ الرزيّة، و يبكي عليه حتّى يبلّ الدمع الحصى. و لا ينكر من له أدنى ألفة بكلام العرب أنّهم يكتفون في فهم المعاني المجازية و نفي الحقائق بقرائن أخفى من هذا، فكيف بالمعنى الحقيقي إذا اقترن بمثل تلك القرينة على أنّ اشتغال الرسول صلّى اللّه عليه و آله في حال المرض و شدّة الوجع، و دنوّ الرحيل، و فراق الأمّة التي بعثه اللّه تعالى بشيرا و نذيرا لهم بكتابة ما كان نسبة الخير و الشرّ إليه على حدّ سواء، حتّى يكون ردّه و قبوله مفوّضا إليهم و مرجوعا إلى اختيارهم، ممّا لا يقول به إلّا من بلغ الغاية في السفه و النوك، فبقي أن يكون من الأمور المستحسنة، و إن كان على وجه الندب فظاهر أنّ ردّ ما استحسنه له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و حكم به و لو على وجه الندب و ظنّ أنّ الصواب في خلافه، و عدّه من الهذيان تقبيح قبيح لرأي من لا ينطق عن الهوى، و تجهيل و تضليل لمن لا يضلّ و لا يغوى، و ليس كلامه إلّا وحيا يوحى، و هو في معنى الردّ على اللّه سبحانه، و على حدّ الشرك باللّه. و لعلّ المجوّزين للاجتهاد في مقابلة النصّ و لو على وجه الاستحباب لا يقولون بجواز الردّ عليه على هذا الوجه المشتمل على إساءة الأدب و تسفيه الرأي. فإن قيل إذا كان أمره صلّى اللّه عليه و آله بإحضار ما طلب على وجه الإيجاب و الإلزام للخوف في ترك الكتابة من ترتّب مفسدة عظيمة هي ضلال الأمّة فكيف تركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يصرّ على المطلب و هل هذا إلّا تقصير في هداية الأمّة و اللطف بهم. قلنا لعلّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا رأى من حال الحاضرين أمارة العصيان، و شاهد منهم إثارة الفتنة و تهييج الشرّ خاف من أن يكون في الوصية و تأكيد التنصيص على من عيّنه للإمامة و جعله أولى بالناس من أنفسهم تعجيل للفتنة بين المسلمين و تفريق كلمتهم، فيتسلّط بذلك الكفّار و أهل الردّة عليهم، و ينهدم أساس الإسلام، و ينقلع دعائم الدين، و ذلك لأنّ الراغبين في الإمامة و الطامعين في الملك و الخلافة قد علموا من مرضه صلّى اللّه عليه و آله و إخباره تصريحا و تلويحا في غير موقف بأنّه قد دنى أجله و لا يبرأ من مرضه، فوطّنوا أنفسهم لإلقاء الشبهة بين المسلمين لو كتب الكتاب و أكّد الوصية، بأنّه كان على وجه الهجر و الهذيان، فيصدّقهم الذين في قلوبهم مرض، و يكذّبهم المؤمنون بأنّ كلامه ليس إلّا وحيا يوحى، فيقوم فيهم المحاربة و القتال و ينتهي الحال إلى استيصال أهل الإيمان و ظهور أهل الشرك و الطغيان، فاكتفى صلّى اللّه عليه و آله بنصّه يوم الغدير و غيره، و قد بلّغ الحكم و أدّى رسالة ربّه كما أمره بقوله يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فلم يكن في ترك الكتابة تقصير في التبليغ و الرسالة، و إنّما منعت الطائفة من الأمّة لشقاوتهم ذلك الفعل، و سدّوا باب الرحمة، فضلّوا عن سواء الصراط و أضلّوا كثيرا وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ الثاني أنّ ما يظهر كلامه من أنّ استفهامهم كان لاستعلام أنّ الأمر على وجه العزم، أو ردّ الأمر إلى اختيارهم مردود، بأنّ قولهم ما شأنه أ هجر استفهموه لا يفهم منه من له أدنى فطانة، إلّا أنّ هذا الاستفهام عبارة عن استعلام أنّ كلامه ذلك كان من الهجر و كلام المرضى و الهذيان، أو هو كلام صحيح، لا أنّ أمره كان على وجه العزم أو الردّ إلى الاختيار، و هو واضح. و أمّا ما علّل به الكفّ من صواب رأي عمر، ففيه أنّه ليس في الكلام ما يدلّ على تصويب رأي عمر، فإنّ قوله صلّى اللّه عليه و آله في الرواية الثالثة من
روايات البخاري قوموا عنّي و لا ينبغي عندي التنازع.. صريح في الغيظ و التأذّي بتلك المخالفة، و هل يجوّز عاقل أن ينطق بمثل هذا الكلام في مقام تصويب الرأي من وصفه اللّه سبحانه بالخلق العظيم، و بعثه رحمة للعالمين و كيف لم يأمر صلّى اللّه عليه و آله من كان يؤذيه بطول الجلوس في بيته بالقيام و الخروج و يستحي من إظهار ذلك، حتّى نزل قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فكيف استحيا من الأمر بقيام من كان يؤذيه و أمر به من اهتدى إلى الصواب في مثل ذلك الأمر الذي يعمّ نفعه الأمّة طرّا و يعظم بلواه، و مع قطع النظر عن ذلك فسقم هذا الرأي ممّا لا ريب فيه، فإنّ قوله حسبنا كتاب اللّه.. يدلّ على أنّه لا خوف على الأمّة من الضلال بعد كتاب اللّه في حكم من الأحكام، و إلّا لم يصحّ الاستناد إليه في منع كتابة ما أراده النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لم يصرّح بتعيينه، و الآيات التي يستنبط منها الأحكام كما ذكروا خمسائة آية أو قريب منها، و ظاهر أنّها ليست في الظاهر مدركا لكثير من الأحكام، و ليس دلالتها على وجه يقدر على استنباط الحكم منها كلّ أحد، و لا يقع في فهمه اختلاف بين الناس حتّى ينسدّ باب الضلال، و من راجع كلام المفسّرين أدنى مراجعة علم أنّه ليس آية إلّا و قد اختلفوا في فهمها و استخراج الأحكام منها على أقوال متضادّة و وجوه مختلفة، و الكتاب الكريم مشتمل على ناسخ و منسوخ، و محكم و متشابه، و ظاهر و مؤوّل، و عامّ و خاصّ، و مطلق و مقيّد.. و غير ذلك ممّا لا يصيب في فهمه إلّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ المعصومون من الزيغ و الضلال، و من ذلك يعلم أنّه لم يكن غرضه صلّى اللّه عليه و آله إلّا تعيين الأوصياء إلى يوم القيامة، لأنّه إذا كان كتاب اللّه عزّ و جلّ بطوله و تفصيله لم يرفع الاختلاف بين الأمّة، فكيف يتصوّر في مثل هذا الوقت منه صلّى اللّه عليه و آله إملاء كتاب يشتمل على أسطر قلائل يرفع الاختلاف في جميع الأمور عن الأمّة، إلّا بأن يعيّن في كلّ عصر من يرجعون إليه عند الاختلاف، و يرشدهم إلى جميع مصالح الدين و الدنيا، و يفسّر القرآن المجيد لهم بحيث لا يقع منهم اختلاف فيه. و ينطق بما ذكرنا
قول أمير المؤمنين عليه السلام أنا كلام اللّه الناطق و هذا كلام اللّه الصامت.
و قد قيل إنّ قوله هذا كقول المريض لا حاجة لنا إلى الطبيب لوجود كتب الطبّ بين أظهرنا، و ظاهر أنّها أشمل للفروع الطبيّة من الكتاب الكريم لتفاصيل الأحكام الشرعيّة، فاتّضح أنّ المنع عن كتابة ما يمنع عن الضلال عين الضلال و الإضلال، و كثرة الخلاف بين الأمّة و تشتّت طرقه مع وجود كتاب اللّه بينهم دليل قاطع على ما ذكرنا. الثالث أنّ ما ذكره من أنّ عمر أشفق على الرسول صلّى اللّه عليه و آله من تحمّل مشقّة الكتابة مع شدّة الوجع فاسد، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم تجر عادته في أيّام صحّته بأن يكتب الكتاب بيده، و إنّما كان يملي على الكاتب ما يريد، إمّا لكونه أميّا لا يقرأ و لا يكتب، أو لغير ذلك، و لم يكن ذلك مستورا على عمر، فكيف أشفق عليه من الكتابة. و أمّا الإملاء، فمن أين علم أنّه لا يمكن للرسول صلّى اللّه عليه و آله التعبير عمّا يريد بلفظ مختصر و عبارة وجيزة لم يكن في إلقائها إلى الكاتب مشقّة لا يقدر على تحمّلها، على أنّه تحمّله صلّى اللّه عليه و آله للمشاقّ في هداية الأمّة لم تكن هذه الكتابة مبدأه، فكيف لم يشفق عمر في شيء من المواضع إلّا فيما فهم فيه أنّ المراد تأكيد النصّ في أمير المؤمنين عليه السلام كما سيجيء تصريحه بذلك إن شاء اللّه. و لا ريب في أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان أشفق على نفسه و أعلم بحاله من عمر بن الخطاب. و بالجملة، برودة مثل هذا الاعتذار ممّا لا يرتاب فيه ذو فطنة. و أمّا اشتداد الوجع، فإنّما استند إليه عمر لإثبات كلامه أنّ كلامه صلّى اللّه عليه و آله ليس ممّا يجب الإصغاء إليه، لكونه ناشئا من اختلال العقل لغلبة الوجع و شدّة المرض كما يظهر من قولهم في الروايات السابقة ما شأنه هجر أو إنّه ليهجر لا لما زعمه هذا القائل، و هو واضح. الرابع أنّ ما ذكره من الاعتلال بأنّ عمر رأى أنّ الأوفق بالأمّة ترك البيان ليكون المخطئ أيضا مأجورا، و أنّه خاف من أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون في الحرج و العصيان بالمخالفة يرد عليه، أنّه لو صحّ الأول لجاز للناس منع الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن تبليغ الأحكام، و كان الأخرى أن لا يبعث اللّه الرسل إلى الخلق و يكلّفهم المشاقّ و احتمال الأذى في تبليغ الأحكام، و يترك الناس حتّى يجتهدوا و يصيبوا الأجر، مصيبين أو مخطئين، و لا يرى المصلحة في خلاف ما حكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأنّ في تركه خوف الضلال على الأمّة إلّا من خرج عن ربقة الإيمان، و قد قال تعالى فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً، و قال سبحانه وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً. و أمّا الخوف من أن يكتب أمرا يعجز الناس عنه، فلو أريد به الخوف من أن يكلّفهم فوق الطاقة فقد بان له و لغيره بدلالة العقل، و قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها و بغيره من الأدلّة النقليّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يكلّف أمّته إلّا دون طاقتهم، و لو أريد الخوف من تكليفهم بما فيه مشقّة فلم لم يمنع عمر و غيره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن فرض الحجّ و الجهاد و النهي عن وطء امرأة جميلة تأبى عن النكاح أو كان لها بعل مع شدّة العزوبة و ميل النفس، و ظاهر أنّ كثيرا من الناس يعصون اللّه في الأوامر الشاقّة و يخالفون الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و أمّا المشقّة البالغة التي تعدّ في العرف حرجا و ضيقا و إن كان دون الطاقة فقد نفاه اللّه تعالى بقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، و
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعثت إليكم بالحنفيّة السمحة السهلة البيضاء.
و كيف فهم من قوله أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعدي.. إنّه أراد أن يكتب لهم ما يعجزون عن القيام به، و أيّ ارتباط لهذا الاعتذار بقوله إنّه قد غلبه الوجع، أو إنّه ليهجر. و بالجملة، لم يكن عمر بن الخطاب و لا غيره أعلم بشأن الأمّة و ما يصلحهم ممّن تواتر عليه الوحي الإلهي و أيّده اللّه بروح القدس، و لا أشفق عليهم و أرأف بهم ممّن أرسله رحمة للعالمين. الخامس أنّ ما ذكره من أنّ عمر علم تقرّر الشرع و الملّة بقوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...، و
قوله صلّى اللّه عليه و آله أوصيكم بكتاب اللّه و عترتي..
يرد عليه أنّه لو كان المراد بكمال الدين ما فهمه لزم غناء الناس عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و عدم احتياجهم إليه بعد نزول الآية في حكم من الأحكام، و أمّا
قوله صلّى اللّه عليه و آله أوصيكم بكتاب اللّه و عترتي.
فليس فيه دلالة على أنّه لم يبق أمر مهمّ للأمّة أصلا حتى تكون الكتابة التي أراد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لغوا عبثا، و يصحّ منعه عنها و قد كان المراد من الكتابة تأكيد الأمر باتّباع الكتاب و العترة الطاهرة الحافظة له و العالمة بما فيه على وجهه خوفا من ترك الأمّة الاعتصام بهما فيتورّطوا في أودية الهلاك، و يضلّوا كما فعل كثير منهم وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ، و لو فرضنا أنّ مراده صلّى اللّه عليه و آله كان أمرا وراء ذلك، فليس هذا الاعتذار إلّا التزاما للمفسدة و قولا بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حاول أن يكتب عبثا لا فائدة فيه أصلا، و كان قوله لا تضلّوا بعده.. هجرا من القول و هذيانا محضا، و لو كان الغناء بهذه الوصية فلم لم يتمسّك عمر بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالعترة المطهّرة و لا رآهم أهلا للخلافة و لا للمشورة فيها فترك الرسول صلّى اللّه عليه و آله و العترة صلوات اللّه عليهم و سارع إلى السقيفة لعقد الخلافة لحليفه و صديقه و لم لم يرتدع و لم يرجع عمّا فعل بعد ما رأى من سيّد العترة إنكاره لخلافة أبي بكر و عدم الانقياد له و قد مضى من صحاح أخبارهم ما يدلّ على أنّه عليه السلام و سائر بني هاشم لم يبايعوا ستة أشهر، و لم لم يقل في مقام المنع عن إحضار ما طلبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسبنا كتاب اللّه و عترة الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و لا يذهب على ذي البصيرة أنّ ذكر العترة في هذا المقام ممّا أجراه اللّه تعالى على لسان هذا المعتذر تفظيعا لشأنه و إظهارا لضلال إمامه. السادس أنّ قوله، و قول عمر حسبنا كتاب اللّه.. ردّ على من نازعه لا على أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.. كلام ظاهر الفساد، فإنّ الرواية التي رواها البخاري في باب كتابة العلم صريحة في أنّه ردّ على قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ الاختلاف من الحاضرين إنّما وقع بعد قوله ذلك، و كذلك روايته في باب قول المريض قوموا عنّي.. و لو سلّمنا أنّه لم يواجه بكلامه ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بل أحد المنازعين فالرواية الأخيرة للبخاري تضمّنت أنّ أحد الفرقتين المتخاصمتين كانوا يقولون قرّبوا.. يكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده.. و الآخرون يقولون ما قال عمر، فلم يبق إلّا أن يكون كلامه ردّا عليه صلّى اللّه عليه و آله و إن واجه به المنازعين، و هو مثل الأول في استلزام الإنكار و الكفر، و إن كانت المواجهة أبلغ في سوء الأدب و ترك الحياء. السابع أنّ ما ذكره من أنّ عمر قد خشي تطرّق المنافقين و من في قلبه مرض لمّا كتب ذلك الكتاب في الخلوة و أن يتقوّلوا في ذلك الأقاويل كادّعاء الرفضة الوصيّة.. يرد عليه أوّلا أنّ كون الكتابة في الخلوة كذب مخالف للمشهور، فإنّ المشهور اجتماع بني هاشم و وجوه المهاجرين و الأنصار عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يومئذ، و يؤيّده قول ابن عباس في الروايات السابقة و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب.. و قوله و كثر اللغط و أكثروا اللغو و الاختلاف.. و ثانيا أنّه لو كان عمر خائفا من ذلك لما قال حسبنا كتاب اللّه.. و أنّ
النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد غلبه الوجع.. و إنّه ليهجر.. و كان المناسب أن يعرض على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه ينبغي إحضار طائفة ممّن يثق الناس بهم و تكون شهادتهم حجّة عند العامّة ليشهدوا الكتابة، و يقيموا الشهادة، دفعا لاختلاف الناس. و ثالثا أنّ غاية ما يلزم من تطرّق المنافقين أن يقع فيها الاختلاف فلا يعمل بعض الناس بها، و ليس ذلك بأبلغ في الضرر من منع الكتابة حتّى لا يعمل بها أحد، و أمّا الخوف من وقوع الفتنة بين المسلمين فهو موجود في صورة ترك الكتابة و الوصية، بل هو أحرى و أقرب بوقوع الفتنة و ثوران الشرور. و رابعا أنّه لو أراد بتطرّق المنافقين مجرّد قدحهم في الوصيّة من دون أن يلحق الإسلام و المسلمين ضرر و تزلزل فليس به بأس، و لا ينقطع به طعنهم و قدحهم بها و لا بعدمها. و لو أراد به لحوق الضرر.. ففساده ظاهر، كيف و لو كانت جهة الفساد فيها أغلب لما أرادها من هو أعلم بأمّته و أرأف بهم من كلّ رءوف عليم، و لما علّلها بعدم ضلالهم. و أمّا الاجتهاد بخلاف قوله.. فقد تبيّن بطلانه في محلّه و سيأتي، على أنّ دفع هذا الضرر الذي توهّموه بنسبة الهجر و الهذيان إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و تقبيح رأيه، و الردّ عليه بأنّ كتاب اللّه حسبنا دفع للفاسد بمثله. و خامسا أنّ تشبيهه ادّعاء الرافضة بتطرّق المنافقين في غاية الركاكة و البرودة، فإنّ الظاهر منهم أنّه زعم أنّ ادّعاء الرافضة أعظم من الفساد من تطرّق المنافقين و تقوّلهم الأقاويل أو مثله، و ظاهر أنّ هذا الادّعاء إنّما لزم من منع الكتابة لا من كتابة ما أراده النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بزعمهم، و
قد رووا عن عائشة أنّه قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مرضه ادعي لي أباك و أخاك حتّى أكتب كتابا، و إنّي أخاف أن يتمنّى متمنّ
و يقول قائل.. فلولا منع عمر بن الخطاب لانسدّ باب ادّعاء الرافضة. و بالجملة، لا ريب في أنّ ترك الوصية و الكتابة أولى بتقوّل الأقاويل و ادّعاء الأباطيل، و اللّه لقد تطرّق المنافقون و من في قلبه مرض في أوّل الأمر، فقال أحدهم إنّه قد غلبه الوجع.. و حسبنا كتاب اللّه.. و صدقه الآخرون، و قالوا القول ما قال عمر، فثلموا في الإسلام و هدموا الإيمان، كما أفصح عن ذلك
ابن عباس بقوله إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب.
الثامن أنّ ما حكاه من قول طائفة أخرى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في هذا الكتاب كان مجيبا لما طلب عنه فأجاب رغبتهم و كره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها يرد عليه أنّه لا فرق باتّفاق المسلمين فيما حكم اللّه و رسوله به بين ما كان ابتداء و بين ما طلبه أحد فنصّ عليه و جرى الحكم به، و كما أنّ إنكار الأول و ردّه ردّ على اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و في حكم الشرك باللّه كذلك الثاني، و قد سبقت الدلالة على أنّ الأمر لم يكن مردودا إلى اختيار القوم، بل كان على وجه الحتم و الإيجاب، و أمّا كراهة من كره الكتابة للعلل المذكورة ففسادها يظهر لك ممّا عرفت من فساد العلل. التاسع أنّ ما استدلّ به من كراهة عليّ عليه السلام لسؤال الخلافة و رغبة العباس و طلبه. يرد عليه أنّه لا نزاع في وقوع الخلاف في كثير من الأمور بين الصحابة و غيرهم، و ذلك ممّا لا حاجة له إلى شاهد، بل لا نزاع في وقوع الخلاف فيما حكم به الرسول صلّى اللّه عليه و آله أيضا، و لكنّ الكلام في أنّ خلاف الرسول و الردّ عليه في معنى الكفر و هذا الدليل لا تعلّق له بنفي ذلك، على أنّ الرواية في كلام عليّ عليه السلام و العباس في طلب الخلافة و السؤال عنها ممّا وضعوه و تمسّكوا به في إبطال النصّ، كما عرفت. العاشر أنّ ما تمسّك به في إثبات كون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مجيبا إلى ما سألوه من كتابة الوصيّة من قوله دعوني فالذي أنا فيه خير.. يرد عليه أنّ المخاطب بقوله صلّى اللّه عليه و آله دعوني.. إمّا جميع الحاضرين من الطالبين للكتابة و المانعين عنها أو بعضهم. فإن كان الأول، كان المراد بقوله صلّى اللّه عليه و آله ما تدعونني إليه استماعه لمشاجرتهم و منازعتهم، و يؤيّد ذلك أمره صلّى اللّه عليه و آله إيّاهم بأجمعهم بالخروج بقوله قوموا عنّي.. و زجرهم بقوله لا ينبغي عندي التنازع.. على ما سبق في بعض الروايات السابقة، و حينئذ فسقوط الاحتجاج به واضح. و إن كان الثاني، لم يجز أن يكون المخاطب من طلب الكتابة، بل من منع عنها، و إلّا لناقض كلامه أخيرا أمره بالإحضار ليكتب لهم ما لا يضلّوا بعده، و حيث تنقلب الحجّة عليهم و يكون المراد بما كانوا يدعون إليه ترك الكتابة، و يكون الأفضليّة المستفادة من قوله صلّى اللّه عليه و آله فالذي أنا فيه خير.. مثلها في قوله تعالى قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ. و لو سلّمنا أنّ المراد بما تدعونني إليه طلب الكتاب، نقول يجب أن يحمل الردع عن الكتابة على أنّها صارت مكروهة له صلّى اللّه عليه و آله لممانعة المانعين و ظهور إثارة الفتنة من المعاندين و إلّا لزم التناقض في كلامه )ص( كما عرفت، فالتمسّك بهذا الكلام على أيّ وجه كان لا يجديهم نفعا. و أمّا ما ذكره من أنّ المطلوب منه )ص( كان تعيين الخليفة و كتاب الوصيّة في ذلك فهو و إن كان باطلا من حيث إنّ إرادة الرسول صلّى اللّه عليه و آله للكتابة كان ابتداء منه، لا إجابة لرغبة أحد، كما هو الظاهر من خلوّ الروايات بأجمعها عن ذلك الطلب، إلّا أنّه لا شكّ في أنّ مراده صلّى اللّه عليه و آله كان الوصية في أمر الخلافة و تأكيد النصّ في عليّ عليه السلام. و ممّا يدلّ على ذلك
ما رواه ابن أبي الحديد في الجزء الثاني عشر من شرحه على النهج في سلك الأخبار التي رواها عن عمر، قال روى ابن عباس، قال خرجت مع عمر إلى الشام، فانفرد يوما يسير على بعير فاتّبعته، فقال لي يا ابن عباس أشكوا إليك ابن عمّك، سألته أن يخرج معي فلم يفعل، و لا أزال أراه واجدا، فيما تظنّ موجدته قلت يا أمير المؤمنين إنّك لتعلم، قال أظنّه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة قلت هو ذاك، إنّه يزعم أنّ رسول اللّه )ص( أراد الأمر له. فقال يا ابن عبّاس و أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ الأمر له فكان ما ذا إذا لم يرد اللّه تعالى ذلك، إنّ رسول اللّه )ص( أراد أمرا و أراد اللّه غيره، فنفذ مراد اللّه و لم ينفذ مراد رسول اللّه، أ و كلّما أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان إنّه أراد إسلام عمّه و لم يرده اللّه تعالى فلم يسلم. قال و قد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ، و هو قوله إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أراد أن يذكّره للأمر في مرضه، فصددته عنه خوفا من الفتنة و انتشار أمر الإسلام، فعلم رسول اللّه )ص( ما في نفسي و أمسك، و أبى اللّه إلّا إمضاء ما حتم.
و روى أيضا في الموضع المذكور، عن ابن عباس، قال دخلت على عمر في أوّل خلافته و قد ألقي له صاع من تمر على خصفة، فدعاني إلى الأكل، فأكلت تمرة واحدة و أقبل يأكل حتّى أتى عليه، ثم شرب من جرّة كانت عنده، و استلقى على مرفقة له و طفق يحمد اللّه.. يكرّر ذلك، ثم قال من أين جئت يا عبد اللّه. قلت من المسجد. قال كيف خلّفت ابن عمّك. فظننته يعني عبد اللّه بن جعفر، قلت خلّفته يلعب مع أترابه. قال لم أعن ذلك، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت. قلت خلّفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان و يقرأ القرآن. قال يا عبد اللّه عليك دماء البدن إن كتمتنيها، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة. قلت نعم. قال أ يزعم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ نصّ عليه. قلت نعم، و أزيدك، سألت أبي عمّا يدّعيه، فقال صدق. فقال عمر لقد كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ في أمره ذرء من قول لا يثبت حجّة و لا يقطع عذرا، و لقد كان يزيغ في أمره وقتا ما، و لقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعته من ذلك إشفاقا و حيطة على الإسلام، لا و ربّ هذا البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا، و لو وليها لا انتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ أنّي علمت ما في نفسه فأمسك، و أبي اللّه إلّا إمضاء ما حتم.
قال ابن أبي الحديد ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا. قوله على خصفة هي بالتّحريك الجلّة من الخوص تعمل للتّمر. و عليك دماء البدن قسم بوجوب نحر البدن لو كتم ما سأله من أمر الخلافة. و ذرء من قول.. أي طرف منه و لم يتكامل، و المراد القول غير الصريح، و ذرء من خير بالهمزة بمعنى شيء منه. و الزّيغ بالزاي و الياء المثناة من تحت و الغين المعجمة الجور و الميل عن الحقّ، و الضمير في أمره راجع إلى عليّ عليه السلام، أي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخرج عن الحقّ في أمر عليّ عليه السلام لحبّه إيّاه أو إليه صلّى اللّه عليه و آله، و المراد الاعتذار عن صرفه عمّا أراد بأنّه كان يقع في الباطل أحيانا. و الإشفاق الخوف. و الحيطة الحفظ و الصّيانة. قال الجوهري مع فلان حيطة لك، و لا تقل عليك.. أي تحنّن. و استدلّ بعض الأصحاب على ذلك بما سبق في رواياتهم من تحسّر ابن عباس و تحزّنه عند تذكّر تلك الواقعة و بكائه حتّى بلّ دمعه الحصى، إذ من الظاهر أنّه لم يقع بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رزيّة و مصيبة توجب هذا النوع من الحزن و الأسف، و لم تصب الأمّة عامّة و بني هاشم خاصّة آفة إلّا خلافة ابن أبي قحافة. و يؤيّد ذلك أنّه لا شكّ في اقتضاء المقام و الحال أن يكون مراده عليه السلام كتابة الوصية في أمر الخلافة و الإمامة، إذ العادة قد جرت قديما و حديثا في كلّ من ظهر له أمارة الارتحال من بين قومه و ظنّ بدنوّ موته و حضور أجله بأن يوصي فيهم و يفوّض أمرهم إلى من يحميهم عن الفتن و الآفات، و يكون مرجعا لهم في نوائبهم، و يدفع عنهم شرّ الأعداء، و كلّما تكثّرت جهات المنافع و تشتتّت وجوه المضار كانت الوصية أوجب و تركها أقبح، و لا ريب في أنّ الأمّة يخاف عليهم بتركهم سدى من غير راع يقيمهم و هاد يهديهم أنواع الضرر في الدنيا و الآخرة، فهل يظنّ عاقل بمن أرسله اللّه رحمة للعالمين أنّه لا يهتمّ بأمر الإسلام و المسلمين و لا يوصي فيهم و لا ينصب لهم واليا يدفع عنهم شرّ أعدائهم و يهديهم إلى ما يصلحهم، و يكون خيرا لهم في آخرتهم و دنياهم مع أنّه قد أمر أمّته بالوصيّة و رغّبهم فيها. و إذا ظهر أنّ مراده صلّى اللّه عليه و آله كان تعيين الخليفة كما اعترف به هذا القائل أيضا فإن كان مقصوده صلّى اللّه عليه و آله تأكيد نصّ الغدير و غيره في أمير المؤمنين عليه السلام، و تجديد ما عهد إلى الأمّة فيه، ثبت المدّعى، و تمّ الطعن. و إن كان المراد الوصية لأبي بكر كما رووه عن عائشة فكيف يتصوّر من عمر بن الخطاب الممانعة في إحضار ما كان وسيلة إلى استخلافه مع شدّة رغبته فيه. و قد قال شارح المقاصد في قصّة الفلتة كيف يتصوّر من عمر القدح في إمامة أبي بكر مع ما علم من مبالغته في تعظيمه و انعقاد البيعة له، و من صيرورته خليفة باستخلافه.
و روى أنّه لمّا كتب أبو بكر وصيّته في عمر و أرسله بيد رجلين ليقرأه على الناس، قالا للناس هذا ما كتبه أبو بكر، فإن قبلتموه نقرأه و إلّا نردّه. فقال طلحة اقرأه و إن كان فيه عمر. فقال له عمر من أين عرفت ذكري فيه. فقال طلحة ولّيته بالأمس و ولّاك اليوم.
على أنّه لا حاجة في مقام الطعن إلى إثبات خصوص ما كان مرادا له صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ الردّ عليه و ظنّ أنّ الصواب في خلاف ما قضى به في معنى الشرك باللّه، و لو كان في استخلاف أبي بكر أو عمر. لكن كان الغرض التنبيه على فساد ما ذكره بعض المتعصّبين من أنّ القول بأنّه صلّى اللّه عليه و آله أراد أن يؤكّد النصّ على خلافة عليّ عليه السلام من باب الإخبار بالغيب، و لم لا يريد أن ينصّ بخلافة أبي بكر و قد وافق هذا ما روينا عن عائشة أنّه قال ادعي لي أبا بكر أباك حتّى أكتب له كتابا. و من تأمّل بعين البصيرة فيما سبق مع ما سبق من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم الغدير و غيره ظهر له أنّ المراد كان تأكيد النصّ بالكتاب، و ليس الفهم من القرائن و الدلائل من الإخبار بالغيب. ثم إنّ ابن أبي الحديد في شرح الخطبة الشقشقيّة تصدّى للاعتذار عن قول عمر، فقال قد كان في أخلاق عمر فظاظة و عنجهيّة ظاهرة بحسب السامع لكلماته إن أراد بها ما لم يكن قد أراد، و يتوّهم من يحكى له أنّه قصد بها ما لم يقصده، فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، و معاذ اللّه أن يقصد بها ظاهرها، و لكنّه أرسلها على مقتضى خشونة غريزيّة و لم يتحفّظ منها، و كان الأحسن أن يقول مغمور أو مغلوب بالمرض، و حاشاه أن يعني بها غير ذلك، و لجفاة الأعراب من هذا الفنّ كثير، سمع سليمان بن عبد الملك أعرابيّا يقول في سنة قحط
ربّ العباد ما لنا و ما لكا قد كنت تستقينا فما بدا لكاأنزل علينا القطر لا أبا لكا
فقال سليمان أشهد أنّه لا أب له و لا صاحبة و لا ولد، فأخرجه أحسن مخرج. و على نحو هذا يحمل
كلامه في صلح الحديبيّة لمّا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله أ لم تقل لنا ستدخلونها.. في ألفاظ نكره حكايتها، حتّى شكاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي بكر، و حتّى قال له أبو بكر الزم بغرزه، فو اللّه إنّه لرسول اللّه. انتهى.
و يرد عليه أوّلا أنّه لا وجه لحمل الكلام على المحامل البعيدة و إخراجه عن ظاهره من غير دليل، و ظاهر الكلام تقبيح لرأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ردّ لقوله على أقبح وجه، و لم يقم برهان على عدم جواز الخطإ و الارتداد على عمر بن الخطاب حتّى يأوّل كلامه بالتأويلات البعيدة، و ما رووه في فضله من الأخبار فمع أنّه من موضوعاتهم و لا حجّة فيها على الخصم لتفردّهم بروايتها فأكثرها لا دلالة فيها على ما يجديهم في هذا المقام، و العجب أنّهم يثبتون أنواع الخطايا و الذنوب للأنبياء عليهم السلام لظواهر الآيات الواردة فيهم و ينكروه علينا حملها على ترك الأولى و غيره من الوجوه كما سبق ذكر كثير منها في المجلد الخامس مع قيام الأدلّة العقلية و النقلية على عصمتهم و جلالة قدرهم عمّا يظنّون بهم، و لا يرضون بمثله في عمر بن الخطاب مع عدم دليل على عصمته و اشتمال كتبهم و رواياتهم على ما تسمع من مطاعنه و لو جانبوا الاعتساف لم يجعلوه أجلّ قدرا من أنبياء اللّه عليهم السلام. و ثانيا أنّ الطعن ليس مقصورا على سوء الأدب و التعبير بالعبارة الشنيعة، بل به و بالردّ لقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الإنكار عليه، و هو في معنى الردّ على اللّه عزّ و جلّ و الشرك به، و إن كان بأحسن الألفاظ و أطيب العبارات، و ما ذكره لو تمّ فإنّما ينفع في دفع الأول دون الثاني. و أمّا قصّة صلح الحديبيّة التي أشار إليها فليس الطعن فيها بلفظ يشتمل على سوء الأدب حتّى يجري فيه تأويل، بل بالإنكار لقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و عدم تصديقه بعد
قوله أنا رسول اللّه )ص(، أفعل ما يأمرني به..
و هو إمّا تكذيب صريح للرسول صلّى اللّه عليه و آله لو لم يصدّقه في قوله ذلك، أو تقبيح صريح لما قضى اللّه به لو صدّق الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و
قد ذكر الموجّه نفسه شرح هذه القصّة في الجزء الثاني عشر في سلك الأخبار التي رواها عن عمر، قال لمّا كتب النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ كتاب الصلح في الحديبيّة بينه و بين سهيل بن عمرو، و كان في الكتاب أنّ من خرج من المسلمين إلى قريش لا يردّ و من خرج من المشركين إلى النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ يردّ إليهم، غضب عمر و قال لأبي بكر ما هذا يا أبا بكر أ يردّ المسلمون إلى المشركين، ثم جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ فجلس بين يديه، و قال يا رسول اللّه أ لست رسول اللّه حقّا. قال بلى. قال و نحن المسلمون حقّا. قال نعم. قال و هم الكافرون. قال نعم. قال فعلى م نعطي الدنيّة في ديننا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنا رسول اللّه )ص( أفعل ما يأمرني به و لن يضيّعني، فقام عمر مغضبا، و قال و اللّه لو أجد أعوانا ما أعطيت الدنيّة أبدا، و جاء إلى أبي بكر، فقال له يا أبا بكر أ لم يكن وعدنا، أنّا سندخل مكّة، فأين ما وعدنا به. فقال أبو بكر أ قال لك إن العامّ ندخلها. قال لا. قال فسندخلها. قال فما هذه الصحيفة التي كتبت و كيف نعطي الدنيّة في أنفسنا. فقال يا هذا الزم غرزه فو اللّه إنّه لرسول اللّه، إنّ اللّه لا يضيّعه، فلمّا كان يوم الفتح و أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مفتاح الكعبة، قال ادعوا لي عمر، فجاء، فقال هذا الذي كنت وعدت به.
و روى البخاري في صحيحه في باب الشروط في الجهاد و المصالحة مع أهل الحروب، عن الزهري، عن عروة بن الزهير، عن المسوّر بن مخرمة و مروان يصدّق كلّ واحد منهما حديث صاحبه قالا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ من الحديبيّة.. و ساق الحديث.. إلى أن قال عمر بن الخطاب فأتيت نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فقلت أ لست نبيّ اللّه حقّا. قال بلى. قلت أ لسنا على الحقّ، و عدوّنا على الباطل. قال بلى. قلت فلم نعطي الدنيّة في ديننا إذا. قال إنّي رسول اللّه و لست أعصيه، و هو ناصري. قلت أ و لست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به. قال بلى، فأخبرتك أنّا نأتيه العام. قلت لا. قال فإنّك آتيه و تطوف به. قال فأتيت أبا بكر، فقلت يا أبا بكر أ ليس هذا نبيّ اللّه حقّا. قال بلى. قلت أ لسنا على الحقّ و عدوّنا على الباطل. قال بلى. قلت فلم نعطي الدنيّة في ديننا إذا. قال أيّها الرجل إنّه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و ليس يعصي ربّه و هو ناصره، فاستمسك بغرزه، فو اللّه إنّه على الحقّ. قلت أ ليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت و نطوف به. قال بلى، أ فأخبرك أنّك تأتيه العام. قلت لا. قال فإنّك آتيه و تطوف به. قال الزهري قال عمر فعملت لذلك أعمالا.
و روى البخاري في تفسير سورة الفتح من كتاب تفسير القرآن، و مسلم في كتاب القضاء، عن حبيب بن أبي ثابت، قال أتيت أبا وائل أسأله، فقال كنّا بصفّين، فقال رجل أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ... فقال عليّ ]عليه السلام[ نعم، فقال سهل بن حنيف اتّهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبيّة يعني الصلح الذي كان بين النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و المشركين و لو نرى قتالا لقاتلنا، فجاء عمر، فقال أ لسنا على الحقّ و هم على الباطل أ ليس قتلانا في الجنّة و قتلاهم في النار. قال بلى. قال ففيم نعطي الدنيّة في ديننا و نرجع و لما يحكم اللّه بيننا. فقال يا ابن الخطاب إنّي رسول اللّه )ص( و لن يضيّعني اللّه أبدا. فرجع متغيّظا فلم يصبر حتّى جاء إلى أبي بكر، فقال يا أبا بكر أ لسنا على الحقّ و هم على الباطل. قال يا ابن الخطاب إنّه رسول اللّه )ص( و لن يضيّعه اللّه أبدا..، فنزلت سورة الفتح
كذا في رواية البخاري. و في رواية مسلم بعد قوله و لن يضيّعه اللّه أبدا نزل القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إيّاه، فقال يا رسول اللّه )ص( أ و فتح هو. فقال نعم. فطابت نفسه و رجع.
و قد ذكر الروايات في جامع الأصول في كتاب الغزوات من حرف الغين.
و روى الشيخ الطبرسي رضي اللّه عنه في مجمع البيان قصّة الحديبيّة بنحو ممّا سبق، و فيه قال عمر بن الخطاب و اللّه ما شككت منذ أسلمت إلّا يومئذ، فأتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقلت أ لست نبيّ اللّه.. إلى آخر الخبر.
و من نظر في هذه الأخبار لم يشكّ في أنّه لم يرض بقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان في صدره حرج ممّا قضى به الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و قد قال اللّه عزّ و جلّ فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً، و ظنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وعده كاذبا، و إلّا فلا معنى لقيامه مغضبا متغيّظا غير صابر حتّى جاء إلى أبي بكر، و قوله لو وجدت أعوانا ما أعطيت الدنيّة أبدا، و إعادته كلامه في معرض الإنكار لأبي بكر بعد قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّي رسول اللّه )ص( و لست أعصيه، أو أنا رسول اللّه )ص( أفعل ما يأمرني به.. على اختلاف ألفاظ الروايات السابقة، و كذلك يدلّ على ظنّه الكذب برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوله له هذا الذي كنت وعدت به.. بعد أخذ مفتاح الكعبة و إرساله إليه ليقرأ عليه آية الفتح. و يدلّ على شدّة غضبه صلّى اللّه عليه و آله و غيظه على عمر
ما رواه البخاري في باب غزوة الحديبيّة من كتاب المغازي، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ كان يسير في بعض أسفاره و عمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، ثم سأله فلم يجبه بشيء، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب ثكلتك أمّك يا عمر نزرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ ثلاث مرّات كلّ ذلك لا يجيبك. قال عمر فحرّكت بعيري ثم تقدّمت أمام المسلمين و خشيت أن ينزل فيّ قرآن، فما نسيت أن سمعت صارخا يصرخ بي. قال فقلت لقد خشيت أن ينزل فيّ قرآن و جئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فسلّمت عليه، فقال لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس، ثم قرأ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
و قال في النهاية حديث عمر »أنّه سأل رسول اللّه )ص( عن شيء مرارا فلم يجبه فقال لنفسه ثكلتك أمّك إنّك يا عمر نزرت رسول اللّه )ص( مرارا لا يجيبك«،..
أي ألححت عليه في المسألة إلحاحا أدّبك بسكوته عن جوابك، يقال فلان لا يعطي حتّى ينزر.. أي يلحّ عليه. انتهى. و لا يخفى على ذي بصيرة أنّ ما ظهر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الغضب و الغيظ عليه في الحديبيّة و في مرضه صلّى اللّه عليه و آله، حيث أمره بالخروج من البيت مع المتنازعين لم يظهر بالنسبة إلى أحد من الصحابة، و كذلك ما ظهر عنه ]كذا[ من سوء الأدب لم يظهر عن غيره، و لا شكّ أنّ ظهور ذلك الغيظ منه صلّى اللّه عليه و آله مع خلقه العظيم، و عفوه الكريم، و خوفه في الفظاظة و الغلظة من انفضاضهم، كما قال سبحانه وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لم يكن إلّا لشدّة تفاحشه في ترك الأدب و الوقاحة، و بلوغ تأذّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الغاية، و قد قال اللّه تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، و قال سبحانه و تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصبر على كثير من الأذى و يستحي من زجرهم، كما يدلّ عليه قوله تعالى مشيرا إلى دخولهم بيوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من دون الإذن و غيره إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ كما سبق. هذا مع أنّ أتباع عمر بن الخطاب و حزبه قد ستروا كثيرا من كلماته الشنيعة و ما قال فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما يظهر من قول ابن أبي الحديد في ألفاظ نكره حكايتها حتى شكاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي بكر. و يؤيّد هذا المعنى أنّ قصّة منع الكتابة لم يروها أحد ممّن حضرها إلّا ابن عباس، و قد صرّحت الرواية بأنّه كان في البيت رجال، و قالوا بعضهم قرّبوا يكتب لكم، و بعضه قال ما قال عمر، و كثر لغطهم و ارتفعت أصواتهم. و ثالثا أنّ ما اعتذر به من أنّ عمر كان يرسل في تلك الألفاظ على مقتضى غريزته و خشونة جبلّته و لم يكن يقصد بها ظواهرها فيه اعتراف بأنّه كان لا يملك لسانه حتى يتكلّم بما يحكم به عقله، و ظاهر أنّ رجلا لم يقدر على ضبط لسانه في مخاطبة مثل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في علوّ شأنه في الدنيا و الآخرة معدود عند العقلاء في المجانين، و مثله لا يصلح للرئاسة العامّة و خلافة من اصطفاه اللّه على العالمين، و من رضي بإمامة من يكره حكاية ألفاظه كما مرّ من كلام الموجّه فقد بلغ الغاية في السفاهة و فاز بالقدح المعلّى من الحماقة. و أمّا من استشهد الشارح بشعره من الأعراب فهو ممّن قال اللّه تعالى فيه الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ، و مثله أحرى بأن يعدّ من البهائم، و لم يقل أحد بأنّ مثله يصلح للإمامة حتى يقاس بفعله فعل من ادّعى الإمامة. و ما ذكره من أنّ الأحسن كان أن يقول مغمور أو مغلوب بالمرض فهو هذيان كقول إمامه، إذ الكلام في أنّه لا يجوز الردّ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و إنكار قوله صلّى اللّه عليه و آله مطلقا، سواء كان في حال المرض أو غيره، للآيات و الأخبار الدالّة على وجوب الانقياد لأوامره و نواهيه، و أنّه لا ينطق عن الهوى و لا يقول إلّا حقّا، و الهجر و غلبة المرض و إن كان أمرا شائعا في أكثر البشر إلّا أنّه لا استبعاد في براءة من اصطفاه اللّه على العالمين عنه، كما أنّ غلبة النوم يعمّ سائر الخلق.
و قد روى الخاصّ و العامّ أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا ينام قلبه إذا نامت عيناه
و قد اعترف النووي على ما نقله عنه الكرماني في شرح صحيح البخاري بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان معصوما من الكذب و من تغيير الأحكام الشرعيّة في حال الصحّة و المرض. و من الغرائب أنّهم يستدلّون على خلافة عمر بن الخطاب بما نصّ عليه أبو بكر في مرضه و كتب له، و لم يجوّز أحد فيه أن يكون هجرا و ناشئا من غلبة المرض، مع أنّه أغمي عليه في أثناء كتابته العهد كما
رواه ابن أبي الحديد في كيفيّة عقده الخلافة لعمر من أنّه كان يجود بنفسه فأمر عثمان أن يكتب عهدا، و قال اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، هذا ما عهد به عبد اللّه بن عثمان إلى المسلمين، أمّا بعد.. ثم أغمي عليه، فكتب عثمان قد استخلفت عليكم ابن الخطاب.. و أفاق أبو بكر، فقال اقرأ، فقرأه، فكبّر أبو بكر و قال أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي. قال نعم. قال جزاك اللّه خيرا عن الإسلام و أهله، ثم أتمّ العهد و أمره أن يقرأ على الناس.
و جوّزوا في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يكون عهده هجرا و هذيانا، و قد كان في كتاب أبي بكر و وصيّته على ما ذكره شارح المقاصد و غيره نوع من التردّد في شأن عمر، حيث قال إنّي استخلفت عمر بن الخطاب فإن عدل فذاك ظنّي به و رأيي فيه، و إن بدل و جار فلكلّ امرئ ما اكتسب، و الخير أردت و لا أعلم الغيب، وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ و كان
قوله صلّى اللّه عليه و آله ائتوني بكتاب ]كذا[ أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده..
خاليا من التردّد صريحا في بعدهم عن الضلال بعد الكتاب، فكتاب أبي بكر من حيث المتن أولى بالشكّ، كما أنّ احتمال الهجر و غلبة المرض في شأنه كان أظهر، و لم يدلّ دليل من العقل و النقل على براءته من الهذيان، و كان كتاب اللّه بين أظهرهم، فكان اللائق بديانة عمر بن الخطاب أن لا يرضى بذلك الكتاب و يقول حسب الناس كتاب اللّه، و كان الأنسب لأشياعه الذين يجوّزون الهذيان على سيّد الأنام صلّى اللّه عليه و آله تصحيحا لقول عمر بن الخطاب أن يتردّدوا في إمامته و لا يستندوا إلى وصيّة أبي بكر في شأنه. ثم إنّ في قول عمر بن الخطاب في مقام الردّ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله حسبنا كتاب اللّه.. يدلّ على أنّه لا حاجة إلى الخليفة مطلقا، فكيف سارع إلى السقيفة لعقد البيعة و جعله أهمّ من دفن سيّد البريّة عليه و آله أكمل الصلاة و التحيّة. و الحاصل، أنّ من لم يطبع اللّه على قلبه لم يشكّ في أنّهم لم يهتمّوا إلّا بنيل حطام الدنيا و زخارفها، و صرف الإمارة و الخلافة عن أهاليها و معادنها. و اعلم أنّهم عدّوا من فضائل عمر بن الخطاب أنّه كان يرد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كثير من المواطن، و كان يرجع إلى قوله و يترك ما حكم به. فمن ذلك
ما رواه ابن أبي الحديد في أخبار عمر في الجزء الثاني عشر، و رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، عن أبي هريرة، قال كنّا قعودا حول النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و معنا أبو بكر و عمر في نفر، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ من بين أظهرنا فأبطأ علينا، فخشينا أن يقطع دوننا و فزعنا و قمنا، فكنت أوّل من فزع، فخرجت أبتغي رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ حتى أتيت حائطا للأنصار لقوم من بني النجّار فلم أجد له بابا، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة و الربيع الجدول فاحتفزت فدخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فقال أبو هريرة. فقلت نعم يا رسول اللّه، قال ما شأنك. قلت كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقطع دوننا، ففزعنا فكنت أوّل من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما تحتفز الثعلب و هؤلاء الناس ورائي، فقال يا أبا هريرة و أعطاني نعليه، قال اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من رواء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلّا اللّه مستيقنا بها قلبه فبشّره بالجنّة، فكان أوّل من لقيت عمر، فقال ما هاتان النعلان يا أبا هريرة. قلت هاتان نعلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلّا اللّه مستيقنا بها قلبه بشّرته بالجنّة، فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لاستي، فقال ارجع يا أبا هريرة. فرجعت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ فأجهشت ببكاء و ركّبني عمر، فإذا هو على أثري، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ ما لك يا أبا هريرة. قلت لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي، قال ارجع. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ ما حملك على ما فعلت. فقال يا رسول اللّه بأبي أنت و أمّي، أ بعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلّا اللّه مستيقنا بها قلبه بشّره بالجنّة. قال نعم. قال فلا تفعل، فإنّي أخشى أن يتّكل الناس عليها فخلّهم يعملون. قال رسول اللّه )ص( فخلّهم.
قوله من بين أظهرنا.. أي من بيننا. و يقطع دوننا.. أي يصاب بمكروه من عدوّ و غيره. و بئر خارجة على التوصيف.. أي قليب خارجة عن البستان، و قيل البئر هو البستان، كقولهم بئر أريس، و بئر بضاعة، و قيل الخارجة اسم رجل فيكون على الإضافة. و احتفزت بالزاي.. أي تضاممت ليسعني المدخل كما يفعل الثعلب، و قيل بالراء.
و روى البخاري في تفسير سورة براءة من كتاب تفسير القرآن، و رواه مسلم في باب فضائل عمر بن الخطاب، عن ابن عمر، قال لمّا توفي عبد اللّه ابن أبي جاء ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلّي عليه، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليصلّي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ فقال يا رسول اللّه أ تصلّي عليه و قد نهاك ربّك أن تصلّي عليه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ إنّما خيّرني اللّه، فقال اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً... و سأزيد على السبعين، فقال إنّه منافق. قال فصلّى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فأنزل اللّه تعالى وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ.
و في رواية أخرى له عن عمر أنّه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ أخّر عنّي يا عمر فلمّا أكثرت عليه قال إنّي خيّرت فاخترت، لو أعلم إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال فصلّى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ ثم انصرف، فلم يمكث إلّا يسيرا حتّى نزلت الآيتان من براءة... قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و اللّه و رسوله أعلم.
و روى ابن أبي الحديد في أخبار عمر قريبا من الرواية الأولى، و فيها فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ بين يدي الصف، فجاء عمر فجذبه من خلفه، و قال أ لم ينهك اللّه عن الصلاة على المنافقين.. قال فعجب الناس من جرأة عمر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[.
و لا يذهب عليك أنّ الرواية الأولى مع أنّ راويها أبو هريرة الكذّاب ينادي ببطلانها سخافة أسلوبها، و بعث أبي هريرة مبشّرا للناس، و جعل النعلين علامة لصدقه، و قد أرسل اللّه تعالى رسوله صلّى اللّه عليه و آله مبشّرا و نذيرا للناس، و أمره بأن يبلّغ ما أنزل إليه من ربّه، و لم يجعل أبا هريرة نائبا له في ذلك، و لم يكن القوم المبعوث إليهم أبو هريرة غائبين عنه صلّى اللّه عليه و آله حتّى يتعذّر عليه أن يبشّرهم بنفسه، و كان الأحرى تبليغ تلك البشارة في المسجد و عند اجتماع الناس لا بعد قيامه من بين القوم و غيبته عنهم و استتاره بالحائط، و لم تكن هذه البشارة ممّا يفوت وقته بالتأخير إلى حضور الصلاة و اجتماع الناس، أو رجوعه صلّى اللّه عليه و آله عن الحائط، و كيف جعل النعلين علامة لصدق أبي هريرة مع أنّه يتوقّف على العلم بأنّهما نعلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد جاز أن لا يعلم ذلك من يلقاه أبو هريرة فيبشّره، و إذا كان ممّن يظنّ الكذب بأبي هريرة أمكن أن يظنّ أنّه سرق نعلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلا يعتمد على قوله، و لو فرضنا صدق أوّل الخبر أمكن أن يكون ما رواه أخيرا من رجوعه صلّى اللّه عليه و آله إلى قول عمر من أكاذيبه. و يؤيّده
ما رواه مسلم في الموضع المذكور و رواه غيره في عدّة روايات أنّه صلّى اللّه عليه و آله بشّر الناس بأنّه من مات و هو يعلم أنّه لا إله إلّا اللّه دخل الجنّة
و قد روى أبو هريرة نفسه ما يقرب من هذا المعنى. ثم لو سلّمنا صدق الخبر إلى آخره فلا شكّ في أنّه يتضمّن أنّ عمر ردّ قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أخشن الوجوه و أقبحها كما هو دأب الطغام و الأجلاف، و مع قطع النظر عمّا عرفت و ستعرف من عدم جواز الاجتهاد في مقابلة النصّ، و أنّ الردّ عليه صلّى اللّه عليه و آله ردّ على اللّه و على حدّ الشرك باللّه، كيف يجوز هذا النوع من سوء الأدب و الغلظة في مقام الردّ على المجتهد و لو كان مخطئا و هو مأجور في خطئه، و قد أمكنه أن يردّ أبا هريرة برفق و يناظر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يوقفه على خطئه. ثم من أين استحقّ أبو هريرة أن يضرب على صدره حتّى يقع على استه و لم يقدم على أمر سوى طاعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و طاعة اللّه، و قد أمر اللّه تعالى بها في زهاء عشرين موضعا من كتابه بقوله أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ. و أمّا رجوعه صلّى اللّه عليه و آله عن الأمر بتبشير الناس فعلى تقدير صحّته لا دلالة فيه على اجتهاده صلّى اللّه عليه و آله و خطئه في رأيه، و لا ينفي الشناعة عن فعل عمر، لجواز أن يكون الرجوع من قبيل النسخ بالوحي لمصلحة يعلمها اللّه تعالى، و يمكن أن تكون مصلحة تأليف قلب هذا الفظّ الغليظ، كما أمر اللّه سبحانه بذلك في سائر المنافقين لئلّا ينفضّوا عن رسوله صلّى اللّه عليه و آله فيلحق الإسلام ضرر أعظم من فوت المصلحة بترك التبشير في ذلك الوقت، و لا يخفى أنّ الاجتهاد المذكور ممّا لم يجوّزه كثير من العامّة، لكون المسألة ممّا يتعلّق بأمور الدين لا الحروب و أمور الدنيا، و قد صرّح بذلك شارح صحيح مسلم في شرح هذا الخبر، و قال عدم جواز الخطإ عليه صلّى اللّه عليه ]و آله[ في الأمور الدينيّة مذهب المحقّقين، و حكى عن شيخه أبي عمرو بن الصلاح توجيه النافين للاجتهاد المذكور بأنّه كان لوحي ناسخ للوحي السابق. و أمّا الرواية الثانية فسوء الأدب فيها بالأخذ بالثوب و جذبه صلّى اللّه عليه و آله من خلفه واضح، و كذلك الإنكار على قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله كما يظهر من قوله إنّه منافق بعد قوله صلّى اللّه عليه و آله إنّي خيّرت و قوله فلمّا أكثرت عليه.. بعد قوله صلّى اللّه عليه و آله أخّر عنّي، و نزول الآية، و النهي عن الصلاة على المنافقين لا يدلّ على تصويبه كما مرّ، و يمكن أن تكون المصلحة في اختياره صلّى اللّه عليه و آله الصلاة و نزول النهي أن يظهر للمنافقين أو غيرهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يتنفّر عنهم لما يعود إلى البشريّة و الطبع بل لمحض الاتّباع لما أمره اللّه سبحانه، و في ذلك نوع من الاستمالة و تأليف القلوب. ثم إنّهم رووا في أخبارهم من إنكاره و ردّه على الرسول صلّى اللّه عليه و آله ما لا يتضمّن الرجوع.
روى البخاري في صحيحه في باب ما جاء في المتأوّلين من كتابة استتابة المرتدّين عن سعيد بن عبيدة، قال تنازع أبو عبد الرحمن و حبّان بن عطيّة، فقال أبو عبد الرحمن لحبّان لقد علمت ما الذي جرّأ صاحبك على الدماء يعني عليّا عليه السلام. قال ما هو لا أبا لك. قال شيء سمعته يقوله. قال ما هو. قال بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الزبير و أبا مرثد و كلّنا فارس، فقال انطلقوا حتّى تأتوا روضة حاج...، فإنّ فيها امرأة معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فأتوني بها، فانطلقنا على أفراسنا حتى أدركناها حيث قال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تسير على بعير لها، و كان كتب إلى أهل مكة بمسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ إليهم، فقلنا أين الكتاب الذي معك. قالت ما معي كتاب، فأنخنا بها بعيرها، فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئا، فقال صاحباي ما نرى معها كتابا. قال فقلت لقد علمنا ما كذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ ثم حلف عليّ و الذي يحلف به لتخرجنّ الكتاب أو لأجردنّك، فأهوت إلى حجزتها و هي محتجزة بكساء فأخرجت الصحيفة، فأتوا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فقال عمر يا رسول اللّه قد خان اللّه و رسوله و المؤمنين، دعني فأضرب عنقه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ يا حاطب ما حملك على ما صنعت. قال يا رسول اللّه ما بي أن لا أكون مؤمنا باللّه و رسوله، و لكنّي أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع اللّه بها عن أهلي و مالي، و ليس من أصحابك أحد إلّا و له هناك من قومه من يدفع اللّه به عن أهله و ماله، قال صدق، لا تقولوا له إلّا خيرا، قال فعاد عمر، فقال يا رسول اللّه قد خان اللّه و رسوله و المؤمنين، دعني فلأضرب عنقه. قال أ و ليس من أهل بدر، و ما يدريك لعلّ اللّه اطّلع عليهم، فقال اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنّة، فاغرورقت عيناه، فقال اللّه و رسوله أعلم.
قال أبو عبد اللّه خاخ يعني بخاءين معجمتين أصحّ، و لكن كذا قال أبو عوانة حاج بالحاء المهملة ثم الجيم و هو تصحيف، و هو موضع.
و روى البخاري في باب فضل من شهد بدرا من كتاب المغازي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عليّ عليه السلام مثله بتغيير في اللفظ.
قوله فأهوت إلى حجزتها.. الحجزة بضم الحاء المهملة ثم الجيم الساكنة ثم الزاي معقد الإزار، و حجزة السّراويل تكّتها. و اغرورقت عيناه.. أي دمعتا. و أبو عبد اللّه هو البخاري. و قال الواقدي روضة خاخ بالمعجمتين قريب من ذي الحليفة على بريد من المدينة. أقول ما في هذه الرواية من عود عمر إلى قوله قد خان اللّه و رسوله.. دعني فلأضرب عنقه، بعد اعتذار حاطب و تصديق الرسول صلّى اللّه عليه و آله إيّاه، و قوله لا تقولوا له إلّا خيرا.. ردّ صريح لقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ارتكاب لنهيه. و اعتذار بعض المتعصّبين بأنّه ظنّ أنّ صدقه في عذره لا يدفع عنه ما يجب عليه من القتل في غاية السخافة، فإنّ قوله )ص( لا تقولوا له إلّا خيرا، بعد قوله صدق، يهدم أساس هذه الأوهام، و لا ريب في أنّ من ردّ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله في وجهه أحرى بضرب العنق ممّن تلقّى الرسول صلّى اللّه عليه و آله عذره بالقبول، و نهى الناس عن تقريعه و توبيخه. و ممّا يدلّ على أنّ عمر كان يخالف صريحا قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله
ما حكاه في كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري في باب من ترك قتال الخوارج للتأليف قال أخرج أحمد بسند جيّد، عن أبي سعيد الخدري، قال جاء أبو بكر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فقال يا رسول اللّه إنّي مررت بوادي.. كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشّع يصلّي فيه، فقال اذهب إليه فاقتله، قال فذهب إليه أبو بكر فلمّا رآه يصلّي كره أن يقتله، فرجع. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم لعمر اذهب فاقتله، فذهب فرآه في تلك الحالة، فرجع. فقال يا عليّ اذهب إليه فاقتله، فذهب عليّ ]عليه السلام[ فلم يره، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم إنّ هذا و أصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يعودون فيه، فاقتلوهم فهم شرّ البرية.
قال و له شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى و رجاله ثقات.
و روى ابن أبي الحديد في الجزء الثاني في شرح خطبته عليه السلام في تخويف أهل النهر. قال في بعض الصحاح إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لأبي بكر، و قد غاب الرجل يعني ذا الخويصرة عن عينه قم إلى هذا فاقتله، فقام ثم عاد، و قال وجدته يصلّي، فقال لعمر مثل ذلك، فعاد و قال وجدته يصلّي، فقال لعليّ عليه السلام مثل ذلك، فعاد فقال لم أجده. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لو قتل هذا لكان أوّل الفتنة و آخرها، أما إنّه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.. الحديث.
و قال الجزري، في حديث الخوارج »يخرج من ضئضئ هذا قوم... يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة«، الضّئضئ الأصل يقال ضئضئ صدق و ضؤضؤ صدق، و حكى بعضهم ضئضيء بوزن قنديل يريد أنّه يخرج من نسله و عقبه، و رواه بعضهم بالصّاد المهملة و هو بمعناه. يمرقون من الدّين.. أي يجوزونه و يخرقونه و يتعدّونه كما يمرق السّهم الشّيء المرميّ به و يخرج منه، و ستأتي الأخبار في ذلك مشروحة في باب كفر الخوارج.
و قال في الصراط المستقيم ذكر الموصليّ في مسنده، و أبو نعيم في حليته، و ابن عبد ربّه في عقده، و أبو حاتم في زينته، و الشيرازي في تفسيره المستخرج من الاثني عشر تفسيرا أنّ الصحابة مدحوا رجلا بكثرة العبادة فدفع النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ سيفه إلى أبي بكر و أمره بقتله، فدخل فرآه يصلّي فرجع، فدفعه إلى عمر و أمره بقتله، فدخل فرجع، فدفعه إلى عليّ عليه السلام فدخل فلم يجده، فقال صلّى اللّه عليه ]و آله[ لو قتل لم يقع بين أمّتي اختلاف أبدا. و في رواية أخرى لكان أوّل الفتنة و آخرها.
فما أقدم عليه أبو بكر من الرجوع من دون أن يقتله لكونه يصلّي لا ريب في أنّه مخالفة ظاهرة للرسول صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ أمره بقتله كان بعد أن وصفه أبو بكر بالصلاة و الخشوع، فلم يكن صلاته شبهة توهم دفع القتل، بل هو تقبيح صريح لأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقتله، و تكذيب لما يتضمّنه ذلك من وجوب قتله، و أفحش منه رجوع عمر بن الخطاب معتذرا بعين ذلك الاعتذار الذي ظهر بطلانه ثانيا أيضا بأمره بالقتل بعد رجوع أبي بكر، و اعتذاره و لزمهما بتلك المخالفة الشركة في آثام من خرج من ضئضئ هذا الرجل من الخوارج إلى يوم القيامة. و من أمعن النظر فيما سبق من الأخبار و غيرها علم أنّ ردّ عمر على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلوكه مسلك الجفاء، و خلعه جلباب الحياء لم يكن مخصوصا بما أقدم عليه في مرضه )ص(، و منعه عن الوصيّة لم يكن بدعا منه، بل كان ذلك عادة له، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصفح عنه و عن غيره من المنافقين و غيرهم خوفا على الإسلام و إشفاقا من أن ينفضّوا عنه لو قابلهم بمقتضى خشونتهم، و كافاهم بسوء صنيعهم. و قد تبيّن من تفاسيرهم و صحاحهم أنّ عمر كان داخلا فيمن أريد بقوله تعالى وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فيكون من الذين قال اللّه تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ، و قد علم أيضا ممّا سبق أنّ الصحابة إلّا الأصفياء منهم لم يقدروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حقّ قدره، و لذلك مال طائفة إلى قول عمر و طائفة إلى قوله صلّى اللّه عليه و آله، و سوّوا بينه و بين عمر، و جعلوه كواحد من المجتهدين و القائلين برأيهم ما شاءوا فجوّزوا ردّ ما قضى به و الإنكار لقوله صلّى اللّه عليه و آله.
الثاني التخلّف عن جيش أسامة.
و لا خلاف في أنّ عمر بن الخطاب كان من الجيش، و قد لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المتخلّف عنه. و قد سبق في مطاعن أبي بكر ما فيه كفاية في هذا المعنى، و لا يجري هاهنا ما سبق من الأجوبة الباطلة في منع الدخول في الجيش، فتوجّه الطعن على عمر أظهر.
الثالث
أنّه بلغ في الجهل إلى حيث لم يعلم بأنّ كلّ نفس ذائقة الموت، و أنّه يجوز الموت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّه أسوة الأنبياء في ذلك،
فقال و اللّه ما مات حتّى يقطع أيدي رجال و أرجلهم، فقال له أبو بكر أ ما سمعت قول اللّه عزّ و جلّ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، و قوله تعالى وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ قال فلمّا سمعت ذلك أيقنت بوفاته، و سقطت إلى الأرض، و علمت أنّه قد مات.
أقول و يؤيّد ذلك ما ذكره ابن الأثير في النهاية حيث قال أسن الماء يأسن فهو آسن إذا تغيّرت ريحه، و
منه حديث العبّاس في موت النّبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم، قال لعمر خلّ بيننا و بين صاحبنا، فإنّه يأسن كما يأسن النّاس.. أي يتغيّر، و ذلك أنّ عمر كان قد قال إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم لم يمت و لكنّه صعق كما صعق موسى و منعهم عن دفنه.
و أجاب عنه قاضي القضاة بأنّه
قد روي عن عمر أنّه قال كيف يموت و قد قال اللّه تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، و قال وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
فلذلك نفى موته صلّى اللّه عليه و آله، لأنّه حمل الآية على أنّه خبّر عن ذلك في حال حياته حتى قال له أبو بكر إنّ اللّه وعد بذلك و سيفعله، و تلا عليه فأيقن عند ذلك بموته، و إنّما ظنّ أنّ موته متأخّر عن ذلك الوقت، لا أنّه منع من موته. ثم قال فإن قيل فلم قال لأبي بكر عند سماع الآية كأنّي لم أسمعها، و وصف نفسه بأنّه أيقن بالوفاة. قلنا لمّا كان الوجه في ظنّه ما أزال الشبهة أبو بكر فيه جاز أن يتيقّن. ثم سأل نفسه عن سبب يقينه في ما لا يعلم إلّا بالمشاهدة، و أجاب بأنّ قرينة الحال عند سماع الخبر أفادته اليقين، و لو لم يكن في ذلك إلّا خبر أبي بكر و ادّعاؤه لذلك و الناس مجتمعون لحصل اليقين. و قوله كأنّي لم أسمع بهذه الآية و لم أقرأها.. تنبيه على ذهابه عن الاستدلال بها، لا أنّه على الحقيقة لم يقرأها و لم يسمعها، و لا يجب فيمن ذهب عن بعض أحكام الكتاب أن يكون لا يعرف القرآن، لأنّ ذلك لو دلّ لوجب أن لا يحفظ القرآن إلّا من يعرف جميع أحكامه. و أجاب بنحو ذلك الرازي في نهاية العقول، و بمثله أجاب صاحب المقاصد. و أجاب السيد رضي اللّه عنه في الشافي عن جواب القاضي بأنّه ليس يخلو خلاف عمر في وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أن يكون على سبيل الإنكار لموته )ص( على كلّ حال، و الاعتقاد لأنّ الموت لا يجوز عليه أو يكون منكرا لموته في تلك الحال من حيث لم يظهر دينه على الدين كلّه.. و ما أشبه ذلك ممّا قال صاحب الكتاب أنّها كانت شبهة في تأخّر موته عن تلك الحال. فإن كان الوجه الأول، فهو ممّا لا يجوز خلاف العقلاء فيه، و العلم بجواز الموت على سائر البشر لا يشكّ فيه عاقل، و العلم من دينه صلّى اللّه عليه و آله بأنّه سيموت كما فات من قبله ضروريّ، و لا يحتاج في مثل هذا إلى الآيات التي تلاها أبو بكر من قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و ما أشبهه. و إن كان خلافه على الوجه الثاني، فأوّل ما فيه أنّ هذا الخلاف لا يليق بما احتجّ به أبو بكر من قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ لأنّه لم ينكر على هذا جواز الموت، و إنّما خالف في تقدّمه و إن كان يجب أن يقول و أيّ حجّة في هذه الآيات على من جوّز عليه صلّى اللّه عليه و آله الموت في المستقبل و أنكره في هذه الحال. و بعد، فكيف دخلت الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق و من أين زعم أنّه لا يموت حتّى يقطع أيدي رجال و أرجلهم و كيف حمل معنى قوله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، و قوله تعالى وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، على أنّ ذلك لا يكون في المستقبل و بعد الوفاة، و كيف لم يخطر هذا إلّا لعمر وحده و معلوم أنّ ضعف الشبهة إنّما يكون من ضعف الفكرة و قلّة التأمّل و البصيرة، و كيف لم يوقن بموته لمّا رأى عليه أهل الإسلام من اعتقاد موته و ما ركبهم من الحزن و الكآبة لفقده و هلّا دفع بهذا اليقين ذلك التأويل البعيد فلم يحتج إلى موقف و معرف، و قد كان يجب إن كانت هذه شبهة أن يقول في حال مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد رأى جزع أهله و أصحابه و خوفهم عليه الوفاة، حتى يقول أسامة بن زيد معتذرا من تباطئه عن
الخروج في الجيش الذي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يكرّر و يردّد الأمر بتنفيذه لم أكن لأسأل عنك الركب ما هذا الجزع و الهلع و قد أمّنكم اللّه من موته.. بكذا، و من وجه.. كذا، و ليس هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظنّه صاحب الكتاب، انتهى كلامه قدّس اللّه روحه. و أقول و أعجب من قول عمر قول من يتوجّه لتوجيه كلامه و أيّ أمر أفحش من إنكار مثل هذا الأمر عن مثل عمر مع اطّلاعه على مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله منذ حدث إلى أوان اشتداده، و انتهاء حاله إلى حيث انتهى و كانت ابنته زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من ممرّضاته، و قد رجع عن جيش أسامة بعد أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له بالخروج في الخارجين خوفا من أن يحضره الوفاة فينقل الأمر إلى من لا يطيب نفسه به، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد بيّن للناس في مجالس عديدة دنوّ أجله و حضور موته، و أوصى للأنصار و أمر الناس باستيفاء حقوقهم كما هو دأب من حضره الموت، كما روي مفصّلا في صحيح البخاري و صحيح مسلم و صحيح الترمذي و كتاب جامع الأصول و كامل ابن الأثير و غيرها من كتب السير و الأخبار.
و قد روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم أنّه قال قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة و المدينة فحمد اللّه و أثنى عليه و وعظ و ذكّر، ثمّ قال أمّا بعد، ألا أيّها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب، و أنا تارك فيكم الثقلين، أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى و النور، فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به.. فحثّ على كتاب اللّه و رغّب فيه، ثم قال و أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي.. أذكّركم اللّه في أهل بيتي...
و قد روي متواترا من الطريقين قوله لعليّ عليه السلام ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين.
و روى في جامع الأصول، أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال عليّ وليّ كلّ مؤمن بعدي.
و قد رووا في المفتريات اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر.
و قد كان كثير ممّا ذكر ممّا خطب به صلّى اللّه عليه و آله على رءوس الأشهاد، فهل يجوّز عاقل أن لا يقرع شيء من ذلك سمع عمر مع شدّة ملازمته للرسول صلّى اللّه عليه و آله و من شكّ في مثل ذلك هل يجوّز من شمّ رائحة من العقل أن يفوّض إليه أمر بهيمة فضلا عن أن يفوّض إليه أمر جميع المسلمين، و يرجع إليه في جميع أحكام الدين. و أمّا اعتذار ابن أبي الحديد بأنّه لم ينكر ذلك عمر على وجه الاعتقاد، بل على الاستصلاح، و للخوف من ثوران الفتنة قبل مجيء أبي بكر، فلمّا جاء أبو بكر قوي به جأشه فسكت عن هذا الدعوى، لأنّه قد أمن بحضوره من خطب يحدث أو فساد يتجدّد. فيرد عليه أوّلا أنّه لو كان إنكاره ذلك إيقاعا للشبهة في قلوب الناس حتّى يحضر أبو بكر لسكت عن دعواه عند حضوره. و قد روى ابن الأثير في الكامل أنّ أبا بكر أمره بالسكوت فأبى، و أقبل أبو بكر على الناس، فلمّا سمع الناس كلامه أقبلوا عليه و تركوا عمر. و ثانيا أنّه لو كان الأمر كما ذكر لاقتصر على إنكار واحد بعد حضور أبي بكر، و قد اعترف ابن أبي الحديد بتكرّر الإنكار بعد الحضور أيضا. و ثالثا
أنّه قال ابن أبي الحديد روى جميع أرباب السيرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا توفّي كان أبو بكر في منزله بالسّنح، فقام عمر بن الخطاب فقال ما مات رسول اللّه )ص( و لا يموت حتّى يظهر دينه على الدّين كلّه، و ليرجعنّ فليقطّعنّ أيدي رجال و أرجلهم ممّن أرجف بموته، و لا أسمع رجلا يقول مات رسول اللّه )ص( إلّا ضربته بسيفي، فجاء أبو بكر و كشف عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال بأبي و أمّي طبت حيّا و ميّتا، و اللّه لا يذيقك اللّه الموتتين أبدا، ثم خرج و الناس حول عمر و هو يقول لهم إنّه لم يمت، و يحلف، فقال له أيّها الحالف على رسلك، ثم قال من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، و من كان يعبد اللّه، فإنّ اللّه حيّ لا يموت، قال اللّه تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، و قال أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، قال عمر فو اللّه ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض، و قد علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد مات.
و قد روى البخاري في صحيحه، عن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ مات و أبو بكر بالسنح، قال قال إسماعيل تعني بالعالية، فقام عمر يقول و اللّه ما مات رسول اللّه )ص(. قالت و قال عمر و اللّه ما كان يقع في نفسي إلّا ذاك، و ليبعثنّه اللّه فليقطّعنّ أيدي رجال و أرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول اللّه )ص( فقبّله، و قال بأبي أنت و أمّي طبت حيّا و ميّتا، و الذي نفسي بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبدا، ثم خرج فقال أيّها الحالف على رسلك، فلمّا تكلّم أبو بكر جلس عمر، فحمد اللّه أبو بكر و أثنى عليه، و قال ألا من كان يعبد محمّدا... الخبر.
فقوله في رواية عائشة و اللّه ما كان يقع في نفسي إلّا ذاك.. صريح في نفي ما ذكره، إذ ظاهر أنّه حكاية كلام عمر بعد تلك الواقعة مؤكّدا بالحلف عليه، بل لا يرتاب ذو فطنة في أنّ قوله فو اللّه ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض و علمت أنّ رسول اللّه قد مات.. ممّا قاله عمر بعد ذلك اليوم و حكاية لما جرى فيه، فلو كان للمصلحة لا على وجه الاعتقاد لبيّن ذلك للناس بعد مجيء أبي بكر، أو بعد ذلك اليوم و زوال الخوف، و لم ينقل أحد من نقلة الأخبار ذلك، بل رووا ما يدلّ على خلافه.
قال المفيد قدّس اللّه روحه في المجالس روي عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن أنس أنّه لمّا بويع أبو بكر في السقيفة و كان الغد جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلّم قبل أبي بكر، فحمد اللّه عزّ و جلّ و أثنى عليه و قال يا أيّها الناس إنّي كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلّا عن رأي، و ما وجدتها في كتاب اللّه، و لا كانت لعهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لكن قد كنت أرى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مستدبر أمرنا حتى يكون آخرنا موتا.
قال و روى عكرمة، عن ابن عباس، قال و اللّه إنّي لأمشي مع عمر في خلافته و ما معه غيري، و هو يحدّث نفسه و يضرب قدميه بدرّته إذ التفت إليّ، فقال يا ابن عباس هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قال قلت لا أدري، أنت أعلم يا أمير المؤمنين، قال فإنّه و اللّه ما حملني على ذلك إلّا أنّي كنت أقرأ هذه الآية وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، فكنت أظنّ أنّه سيبقى بعد أمّته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، فإنّه الذي حملني على أن قلت ما قلت.
و الظاهر أنّه جعل المخاطب بقوله تعالى وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً.. جميع الأمّة، فيلزم على ما فهم من دلالة الشهادة على البقاء و تأخّر الموت أن يعتقد تأخّر موت كلّ واحد من الأمّة عن الناس، فكان عليه أن لا يذعن بموت أحد من الأمّة، و لو سامحنا في كون المراد بعض الأمّة لانهدم أساس إنكاره، إذ لا شكّ في تأخّر موته صلّى اللّه عليه و آله عن بعض أمّته، و أنّه قد مات قبله كثير من أمّته، و لو كان المراد ب )البعض( الصحابة لزمه أن لا يذعن بموت أحد منهم، و لم يتعينّ ذلك البعض بوجه آخر حتى يزعم تأخّر موته صلّى اللّه عليه و آله عنهم. و بالجملة، سوء الفهم و سخافة الرأي في مثل هذا الاستنباط ممّا لا يريب فيه عاقل، و الظاهر أنّ هذا الاعتلال ممّا تفطّن به بعد حال الإنكار فدفع به بزعمه شناعة إنكاره. ثم إنّه أجاب شارح المقاصد بوجه آخر، و هو أنّ ذلك الاشتباه كان لتشوّش البال، و اضطراب الحال، و الذهول عن جليّات الأحوال. و حكى شارح كشف الحقّ عن بعضهم أنّه قال كان هذا الحال من غلبة المحبّة، و شدّة المصيبة، و إنّ قلبه كان لا يأذن له أن يحكم بموت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.. و هذا أمر كان قد عمّ جميع المؤمنين بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتّى جنّ بعضهم، و أغمي على بعضهم من كثرة الهمّ، و اختبل بعضهم، فغلب عمر شدّة حال المصيبة، فخرج عن حال العلم و المعرفة و تكلّم بعدم موته و أنّه ذهب إلى مناجاة ربّه.. و أمثال هذا لا يكون طعنا. و يرد عليه أنّه من الضروريات العادية أنّ من عظمت عليه المصيبة و جلّت الرزيّة بفقد حبيبه حتى اشتبهت عليه الأمور الضروريّة لا يترك تجهيزه و تكفينه و الصلاة عليه و دفنه، و لا يسرع إلى السقيفة لعقد البيعة و الطمع في الخلافة و الإمارة و لم لم يتكلّم في ذلك المجلس من شدّة الحزن و الوجد ما ينافي غرضه و لا يلائم في تدبيره الميشوم، و لم يأت في أمر الرئاسة و غصب الخلافة بهجر و لا هذيان، و لم يتخلّل من الزمان ما يسع لاندمال الجرح و نسيان المصيبة و كيف لم يأذن قلبه في الحكم بموته صلّى اللّه عليه و آله مع أنّه لم يضق صدره بأن يقول في وجهه الكريم إنّه ليهجر، و يمنعه من إحضار ما طلب، و يقول حسبنا كتاب اللّه، الذي هو في قوّة قوله لا حاجة لنا بعد موتك إلى كتاب تكتبه لنا و من بلغ به الحبّ إلى حيث يخرجه من حدّ العقل لا يجبه حبيبه بمثل هذا القول الشنيع، و لا يرفع صوته في الردّ عليه، و منازعة المنازعين من حدّ العقل إلى حدّ يخرجه الحبيب و إيّاهم عن البيت و يقول اعزبوا عنّي و لا ينبغي التنازع عندي، و لا ينكر ذلك إلّا متعنّت لم يشم رائحة الإنصاف، و ما ذكره من جنون بعض الصحابة، و إغماء بعضهم، و خبل الآخرين فشيء لم نسمعه إلى الآن، نعم، لو عدّ ما أتوا به من ترك جسده المطهّر و المسارعة إلى السقيفة طمعا في الرئاسة و شوقا إلى الإمارة من فنون الجنون و ضروب الخبل لكان له وجه.
الرابع أنّه حرّم المتعتين، متعة الحجّ و متعة النساء.
و لم يكن له أن يشرّع في الأحكام و ينسخ ما أمر به سيّد الأنام صلّى اللّه عليه و آله، و يجعل اتّباع نفسه أولى من اتّباع من لا ينطق عن الهوى، و تفصيل القول في ذلك أنّ متعة النساء لا خلاف بين الأمّة قاطبة في أصل شرعيّتها و إن اختلفوا في نسخها و دوام حكمها، و فيها نزلت قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً على أكثر التفاسير و أصّحها. و قد أجمع أهل البيت عليهم السلام على دوام شرعيّتها، كما ورد في الأخبار المتواترة. و قال الفخر الرازي في التفسير اتّفقت الأمّة على أنّها كانت مباحة في ابتداء الإسلام، قال
و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم أنّه لمّا قدم مكة في عمرته تزيّن نساء مكة، فشكا أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله طول العزبة، فقال استمتعوا من هذه النساء.
و قد صرّح بهذا الاتّفاق كثير من فقهاء الإسلام.
و روى مسلم في صحيحه، و ابن الأثير في جامع الأصول، عن قيس، قال سمعت عبد اللّه يقول كنّا نغزو مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ ليس لنا نساء، فقلنا أ لا نستخصي فنهانا عن ذلك، ثم رخّص لنا أن نستمتع، فكان أحدنا ينكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
و قد روى هذا الخبر في المشكاة و عدّه من المتّفق عليه.
و روى البخاري و مسلم في صحيحهما، و ابن الأثير في جامع الأصول، عن سلمة بن الأكوع و عن جابر، قالا خرج علينا منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ فقال إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا.. يعني متعة النساء.
و عنهما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ أتانا فأذن لنا في المتعة.
و روى مسلم في صحيحه عن عطاء، قال قدم جابر بن عبد اللّه معتمرا فجئناه في منزله، فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة، فقال نعم استمتعنا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أبي بكر و عمر.
و روى مسلم أيضا و ذكره في جامع الأصول، عن أبي الزبير، قال سمعت جابر بن عبد اللّه يقول كنّا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و أبي بكر و عمر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث.
و عن أبي نضرة قال كنت عند جابر بن عبد اللّه فأتاه آت، فقال إنّ ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر فعلناهما مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، ثم نهانا عمر عنهما فلم نعد لهما.
و روى مسلم، عن قتادة، عن أبي نضرة، قال كان ابن عباس يأمر بالمتعة و كان ابن الزبير ينهى عنها، قال فذكرت ذلك لجابر بن عبد اللّه، فقال على يدي دار الحديث، تمتّعنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا قام عمر قال إنّ اللّه كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء، و إنّ القرآن قد نزل منازله فأتمّوا الحجّ و العمرة للّه كما أمركم اللّه عزّ و جلّ واثبوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلّا رجمته بالحجارة.
و روى الترمذي في صحيحه على ما حكاه الشهيد الثاني، و العلّامة رحمهما اللّه أنّ رجلا من أهل الشام سأل ابن عمر عن متعة النساء. فقال هي حلال. فقال إنّ أباك قد نهى عنها. فقال ابن عمر أ رأيت إن كان أبي نهى عنها، وضعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، أ نترك السنّة و نتّبع قول أبي.
و روى شعبة، عن الحكم بن عتيبة، قال سألته عن هذه الآية فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ... أ منسوخة هي. فقال لا، ثم قال الحكم قال عليّ ابن أبي طالب عليه السلام لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شفا.
و قال ابن الأثير في النهاية في حديث ابن عبّاس »ما كانت المتعة إلّا رحمة رحم اللّه بها أمّة محمّد صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم لو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزّنا إلّا شفا«
أي إلّا قليل من النّاس، من قولهم غابت الشّمس إلّا شفا.. أي إلّا قليلا من ضوئها عند غروبها. قال و قال الأزهري قوله إلّا شفا.. أي إلّا أن يشفي، يعني يشرف على الزّنا و لا يواقعه، فأقام الاسم مقام المصدر الحقيقي، و هو الإشفاء على الشّيء، و حرف كلّ شيء شفاه.
و حكى الفخر الرازي في تفسير آية المتعة، عن محمد بن جرير الطبري، قال قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقيّ.
و عن عمران بن الحصين، أنّه قال نزلت هذه المتعة في كتاب اللّه لم تنزل بعدها آية تنسخها، و أمرنا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و تمتّعنا بها و مات و لم ينهنا عنه ثم قال رجل برأيه ما شاء.
و سيأتي في خبر طويل رواه المفضّل، عن الصادق )عليه السلام( أوردناه في المجلد الثالث عشر و هو مشتمل على سبب تحريمه المتعة، و أنّه كان لمكان أخته عفراء. و أمّا متعة الحجّ فلا خلاف بين المسلمين في شرعيّتها و بقاء حكمها. و اختلف فقهاء العامّة في أنّه هل هي أفضل أنواع الحجّ أم لا فقال الشافعي في أحد قوليه و مالك إنّ التمتّع أفضل، و قال الشافعي في قوله الآخر إنّ أفضلها الإفراد ثم التمتّع ثم القران. و يدلّ على شرعيّتها قوله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
و من الأخبار الواردة فيها ما رواه مسلم في صحيحه بأربعة أسانيد، و أورده في جامع الأصول أيضا، قال و أخرجه أبو داود بطوله، و أخرج النسائي أطرافا متفرقّة منه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام، قال دخلت على جابر بن عبد اللّه الأنصاري فسأل عن القوم حتى انتهى إليّ، فقلت أنا محمد بن عليّ بن الحسين، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زرّي الأعلى، ثم نزع زرّي الأسفل ثم وضع كفّه بين ثديي و أنا يومئذ غلام شاب فقال مرحبا بك يا ابن أخي، سل عمّا شئت. فسألته و هو أعمى و قد حضر وقت الصلاة، فقام في نساجه ملتحفا بها، كلّما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، و رداؤه إلى جنبه على المشجب فصلّى بنا فقلت أخبرني عن حجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[. فقال بيده فعقد تسعا، فقال إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ مكث تسع سنين لم يحجّ، ثم أذن في الناس في العاشرة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ حاجّ فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و يعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتّى إذا أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمّد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ كيف أصنع. قال اغتسلي و استشفري بثوب و أحرمي، فصلّى رسول اللّه )ص( في المسجد فركب القصواء حتّى إذا استوت به ناقته إلى البيداء، نظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب و ماش، و عن يمينه مثل ذلك، و عن يساره مثل ذلك، و من خلفه مثل ذلك، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ بين أظهرنا و عليه ينزل القرآن و هو يعرف تأويله و ما عمل به من شيء عملنا به، فأهلّ بالتوحيد »لبّيك اللّهمّ لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك إنّ الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك«، و أهلّ الناس بهذا الذي يهلّ به، فلم يزد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ شيئا منهم و لزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ تلبيته، قال جابر لسنا ننوي إلّا الحجّ، لسنا نعرف العمرة حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا و مشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم )ع(، فقرأ وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، فجعل المقام بينه و بين البيت، و كان أبي يقول و لا أعلمه ذكره إلّا عن النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ كان يقرأ في الركعتين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ و قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلمّا دنا من الصفا قرأ إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ابدءوا بما بدأ اللّه به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتّى رأى البيت فاستقبل القبلة، فوحّد اللّه و كبّره، و قال »لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كلّ شيء قدير، لا إله إلّا اللّه وحده أنجز وعده، و نصر عبده، و هزم الأحزاب وحده«، ثم دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتّى إذا انصبّت قدماه في بطن الوادي، رمل حتّى إذا صعدنا مشى حتّى أتى المروة.. ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتّى إذا كان آخر طوافه على
المروة قال لو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي و جعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ و ليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال يا رسول اللّه أ لعامنا هذا أم للأبد. فشبك رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ أصابعه واحدة في الأخرى، و قال دخلت العمرة في الحجّ هكذا.. مرّتين، لا، بل لأبد أبد. و قدم عليّ عليه السلام من اليمن ببدن النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ فوجد فاطمة عليها السلام ممّن حلّ و لبست ثيابا صبيغا و اكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت إنّ أبي أمرني بهذا. قال فكأنّ عليّ عليه السلام يقول بالعراق فذهبت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله محرشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ فيما ذكرت عنه فأخبرته أنّي أنكرت ذلك عليها، فقال صدقت.. صدقت، ما ذا قلت حين إذا فرضت الحجّ. قال قلت اللّهمّ إنّي أهلّ بما أهلّ به رسولك صلّى اللّه عليه ]و آله[. فقال فإنّ معي الهدي فلا تحلّ. قال فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليّ عليه السلام من اليمن و الذي أتى به النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ مائة، قال فحلّ الناس كلّهم و قصّروا إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و من كان معه هدي، فلمّا كان يوم التروية توجّهوا إلى منى فأهلّوا بالحجّ.. و ساق الحديث بطوله إلى قوله ثمّ انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا و ستين بدنة بيده، ثم أعطى عليّا فنحر ما بقي و أشركه في هديه، ثم أمر من كلّ بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها و شربا من مرقها، ثم ركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ فأفاض إلى البيت فصلّى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال انزعوا بني عبد المطلب، فلو لا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوا فشرب منه.
قال في النهاية في حديث جابر فقام في نساجة ملتحفا بها هي ضرب من الملاحف منسوجة كأنّها سمّيت بالمصدر، يقال نسجت أنسج نسجا و نساجة. و قال في حديث جابر فقام و ثوبه على المشجب هو بكسر الميم عيدان تضمّ رءوسها و يفرّج بين قوائمها و توضع عليها الثّياب، و قد يعلّق عليها الأسقية لتبريد الماء، و هو من تشاجب الأمر إذا اختلط.
و روى البخاري في صحيحه، عن جابر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ أهلّ و أصحابه بالحجّ و ليس مع أحد منهم هدي غير النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و طلحة، و كان عليّ عليه السلام قدم من اليمن و معه الهدي، فقال أهللت بما أهلّ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، و أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا بالبيت ثم يقصّروا و يحلّوا إلّا من معه الهدي، فقالوا أ ننطلق إلى منى و ذكر أحدنا يقطر، فبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[، فقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما هديت، و لو لا أنّ معي الهدي لأحللت.. و ساق الحديث إلى قوله و إنّ سراقة بن مالك بن جعثم لقي النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و هو بالعقبة و هو يرميها، فقال أ لكم هذه خاصّة يا رسول اللّه. فقال للأبد.
و قد روى البخاري و مسلم و النسائي و أبو داود قريبا من هذه الرواية بأسانيد متكثرة و ألفاظ متقاربة عن جابر، و هي مذكورة في جامع الأصول.
و روى البخاري، عن أبي موسى الأشعري، قال قدمت على النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ بالبطحاء و هو منيح فقال أ حججت. قلت نعم. قال بما أهللت. قلت لبّيك بإهلال النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[. قال أحسنت، طف بالبيت و بالصفا و المروة ثم أحلّ، فطفت بالبيت و بالصفا و المروة ثم أتيت امرأة من قيس، فقلت رأسي، ثم أهللت بالحجّ، فكنت أفتي به حتّى كان في خلافة عمر، فقال إن أخذنا بكتاب اللّه فإنّه يأمرنا بالتمام، و إن أخذنا بقول النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ فإنّه لم يحلّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
و مثله روى في موضع آخر بأدنى تغيير.
و روى في جامع الأصول، عن النسائي مثله.
و روى البخاري أيضا، عن عائشة، قالت خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلّا الحجّ، فلمّا دنونا من مكة أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ من لم يكن معه هدي إذا طاف و سعى بين الصفا و المروة أن يحلّ، قال فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت ما هذا. فقيل ذبح رسول اللّه عن أزواجه.
و قد حكى في جامع الأصول، عن البخاري و مسلم و أبي داود و الموطأ روايات كثيرة عن عائشة تؤدّي مؤدّى هذه الرواية.
و روى البخاري أيضا، عن ابن عباس، أنّه سئل عن متعة الحجّ، فقال أهلّ المهاجرون و الأنصار و أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ في حجّة الوداع و أهللنا، فلمّا قدمنا مكة، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ اجعلوا إهلالكم بالحجّ عمرة إلّا من قلّد الهدي، طفنا بالبيت و بالصفا و المروة و أتينا النساء و لبسنا الثياب، و قال من قلّد الهدي فإنّه لا يحلّ حتّى يبلغ الهدي محلّه، ثم أمرنا عشية التروية أن نهلّ بالحجّ، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت و بالصفا و المروة فقد تمّ حجّنا و علينا الهدي، كما قال اللّه تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أمصاركم الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحجّ و العمرة، فإنّ اللّه أنزله في كتابه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و أباحه ناس غير أهل مكة، قال اللّه ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و أشهر الحجّ الذي ذكر اللّه عزّ و جلّ شوال، و ذو القعدة، و ذو الحجّة، فمن تمتّع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم،
و الرفث الجماع، و الفسوق المعاصي، و الجدال المراء.
و عن أبي حمزة، قال سألت ابن عباس عن المتعة، فأمرني بها، و سألته عن الهدي، فقال جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم، قال و كان ناس كرهوها، فنمت فرأيت في المنام كأنّ إنسانا ينادي حجّ مبرور و عمرة متقبّلة، فأتيت ابن عباس فحدّثته، فقال اللّه أكبر سنّة أبي القاسم صلّى اللّه عليه ]و آله[.
و روى مسلم قريبا منها.
و روى في جامع الأصول، عن مسلم و النسائي، عن ابن عباس، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن معه الهدي فليحلّ الحلّ كلّه، فإنّ العمرة قد دخلت في الحجّ إلى يوم القيامة.
و روى البخاري أيضا، عن سعيد بن المسيّب، قال اختلف عليّ و عثمان و هم بعسفان في المتعة، فقال عليّ عليه السلام ما تريد إلّا أن تنهى عن أمر فعله النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ فلمّا رأى عليّ عليه السلام ذلك أهلّ بهما جميعا.
و روى البخاري و مسلم، عن مروان بن الحكم، أنّه شهد عليّا و عثمان بين مكة و المدينة، و عثمان ينهى عن المتعة و أن يجمع بينهما، فلمّا رأى ذلك عليّ أهلّ بهما لبيك بعمرة و حجّة، فقال عثمان تراني أنهى الناس و أنت تفعله فقال ما كنت لأدع سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ لقول أحد.
و روى النسائي روايتين في هذا المعنى.
و روى مسلم روايات في هذا المعنى.
و روى البخاري، عن عمران، قال تمتّعنا على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و نزل القرآن، و قال رجل برأيه ما شاء.
و روى مسلم، عن مطرف، قال قال لي عمران بن الحصين إنّي لأحدّثك بالحديث اليوم ينفعك اللّه به بعد اليوم، اعلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ قد أعمر طائفة من أهله في العشر فلم تنزل آية تنسخ ذلك، و لم ينه عنه حتّى مضى لوجهه، ارتأى كلّ امرئ بعد ما شاء أن يرتئي.
قال مسلم و حدّثنا إسحاق بن إبراهيم و محمد بن حاتم كلاهما، عن وكيع، عن سفيان، عن الجريري بهذا الإسناد.
و قال ابن حاتم في روايته ارتأى رجل برأيه ما شاء يعني عمر، و روى بستة أسانيد عن عمران ما يؤدّي هذا المعنى. و حكى في جامع الأصول ثلاث روايات في هذا المعنى عن عمران. منها
أنّه قال أنزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و لم ينزل قرآن يحرّمه و لم ينه عنها حتّى مات، قال رجل برأيه ما شاء. ثم قال قال البخاري يقال إنّه عمر.
و حكى عن النسائي أيضا روايتين في هذا المعنى.
و عن مسلم بإسناده عن ابن عباس، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده الهدي فليحلل الحلّ كلّه، فإنّ العمرة قد دخلت في الحجّ إلى يوم القيامة.
و عن عبد اللّه بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض و يجعلون المحرّم صفرا و يقولون إذا برأ الدبر، و عفا الأثر، و انسلخ صفر حلّت العمرة لمن اعتمر، قدم النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و أصحابه صبيحة رابعة مهلّين بالحجّ فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا يا رسول اللّه أيّ الحلّ. قال الحلّ كلّه.
و قد روى هذه الرواية البخاري، عن ابن عباس، و رواها أبو داود و النسائي و أوردها في جامع الأصول، قال و أخرج أبو داود في رواية أخرى، أنّه قال و اللّه ما أعمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ عائشة في ذي الحجّة إلّا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإنّ هذا الحيّ من قريش و من دان بدينهم كانوا يقولون إذا عفا الأثر، و برأ الدبر، و دخل صفر فقد حلّت العمرة لمن اعتمر، فكانوا يحرّمون العمرة حتّى ينسلخ ذو الحجّة و المحرّم.
و روى مسلم، عن إبراهيم، عن أبي موسى أنّه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل رويدك بعض فتياك، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد حتّى لقيه بعد فسأله، فقال عمر قد علمت أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ قد فعله هو و أصحابه، و لكن كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ في الأراك يروحون في الحجّ يقطر رءوسهم.
و روى مسلم، عن إبراهيم، عن أبي موسى هذا الخبر أبسط من ذلك و ساقه.. إلى أن قال فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر و إمارة عمر، و إنّي لقائم بالموسم إذ جاء رجل فقال إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك. فقلت أيّها الناس من كنّا أفتيناه بشيء فليتّئد، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فائتمّوا، فلمّا قدم قلت يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك. قال إن نأخذ بكتاب اللّه، فإنّ اللّه يقول وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ، و إن تأخذ بسنّة نبيّنا فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ لم يحلّ حتّى نحر الهدي.
و عن عائشة، قالت قدم النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ لأربع مضين من ذي الحجّة أو خمس، فدخل عليّ و هو غضبان، فقلت ما أغضبك يا رسول اللّه أدخله اللّه النار. قال أ و ما شعرت أنّي أمرت الناس بأمر فإذا هم يتردّدون، و لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتّى أشتريه، ثم أحلّ كما أحلّوا.
و روى ابن أبي الحديد، عن محمد بن جرير الطبري، قال روى عبد الرحمن بن أبي زيد، عن عمر بن زيد، عن عمران بن سوادة الليثي، قال صلّيت الصبح مع عمر فقرأ »سبحان« و سورة معها، ثم انصرف، فقمت معه، فقال أ حاجة. قلت حاجة. قال فالحق. فلحقت، فلمّا دخل أذن، فإذا هو على رمال سرير ليس فوقه شيء، فقلت نصيحة. قال مرحبا بالناصح غدوّا و عشيّا. قلت عابت أمّتك أو قال رعيّتك عليك أربعا، فوضع عود الدّرة ثم ذقن عليها هكذا روى ابن قتيبة و قال أبو جعفر فوضع رأس درّته في ذقنه، و وضع أسفلها على فخذه، و قال هات. قال ذكروا أنّك حرّمت المتعة في أشهر الحجّ و زاد أبو جعفر و هي حلال و لم يحرّمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و لا أبو بكر، فقال أجل إنّكم إذا اعتمرتم في أشهر حجّكم رأيتموها مجزئة من حجّكم، فقرع حجّكم، و كان قائبة قوب عامها، و الحجّ بهاء من بهاء اللّه، و قد أصبت. قال و ذكروا أنّك حرّمت متعة النساء، و قد كانت رخصة من اللّه يستمتع بقبضة و يفارق من ثلاث. قال إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ أحلّها في زمان ضرورة، و رجع الناس إلى السعة، ثم لم أجد أحدا من المسلمين عاد إليها و لا عمل بها، فالآن من شاء نكح بقبضة و فارقه عن طلاق بثلاث، و قد أصبت. قال و ذكروا أنّك أعتقت الأمة إن وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيّدها. قال ألحقت حرمته بحرمة، و ما أردت إلّا الخير، و أستغفر اللّه. قال و شكوا منك عنف السياق و نهر الرعية. قال فنزع الدّرّة ثمّ مسحها حتّى أتى على سيورها، و قال و أنا زميل رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ في غزاة قرقرة الكدر، ثم فو اللّه إنّي لأرتع فأشبع، و أسقى فأروي، و أضرب العروض، و أزجر العجول، و أؤدّب قدري، و أسوق خطوتي، و أردّ اللّفوت، و أضمّ العنود، و أكثر الزجر، و أقلّ الضرب، و أشهر بالعصا، و أدفع باليد، و لو لا ذلك لأعذرت. قال أبو جعفر و كان معاوية إذا حدّث بهذا الحديث يقول كان و اللّه عالما برعيّته.
قال ابن قتيبة رملت السّرير و أرملته إذا نسجته بشريط من خوص أو ليف. و ذقن عليها.. أي وضع عليها ذقنه يستمع الحديث. و قوله فقرع حجّكم.. أي خلت أيّام الحجّ من الناس، و كانوا يتعوّذون من قرع الفناء و ذلك ألّا يكون فيه أهل. و القائبة قشر البيضة إذا خرج منها الفرخ. و القوب الفرخ.. قوله إنّي لأرتع و أشبع و أسقي فأروي.. مثل مستعار من رعيّة الإبل،.. أي إذا أرتعت الإبل.. أي أرسلتها ترعى، تركتها حتّى تشبع، و إذا سقيتها تركتها حتّى تروى. و قوله أضرب العروض.. فالعروض النّاقة تأخذ يمينا و شمالا و لا تلزم الحجّة يقول أضربها حتّى يعود إلى الطريق، و مثله قوله و أضمّ العنود. و العجول البعير يندّ عن الإبل و يركب رأسه عجلا و يستقبلها. و قوله و أؤدّب قدري.. أي قدر طاقتي. و قوله و أسوق خطوتي.. أي قدر خطوتي. و اللّفوت البعير يلتفت يمينا و شمالا و يروغ. و قوله و أكثر الزّجر و أقلّ الضرب.. أي إنّه يقتصر من التأديب في السياسة على ما يكتفي به حتّى يضطرّ إلى ما هو أشدّ منه و أغلظ. و قوله و أشهر بالعصا و أدفع باليد.. يريد أنّه يرفع العصاء يرعب بها و لا يستعملها و لكنّه يدفع بيده. و قوله و لو لا ذلك لأعذرت.. أي لو لا هذا التدبير و السياسة لخلفت بعض ما أسوق، تقول أعذر الراعي الشاة أو النّاقة.. إذا تركها، و الشاة العذيرة، و عذرت هي.. إذا تخلّفت عن الغنم، انتهى. و قد ذكر ابن الأثير في النهاية كثيرا من ألفاظ هذه الرواية و فسّرها. قال في حديث عمر إنّ عمران بن سوادة قال له أربع خصال عاتبتك عليها رعيّتك، فوضع عود الدّرّة ثمّ ذقّن عليها و قال هات. يقال ذقن على يده و على عصاه بالتّشديد و التّخفيف إذا وضعه تحت ذقنه و اتّكأ عليها. و قال في قوب منه.. حديث عمر إن اعتمرتم في أشهر الحجّ رأيتموها مجزية من حجّتكم فكانت قائبة قوب عامها. ضرب هذا مثلا لخلوّ مكّة من المعتمرين في باقي السّنة، يقال قيبت البيضة إذا انفلقت عن فرخها و إنّما قيل لها قائبة، و هي مقوبة على تقدير ذات قوب.. أي ذات فرخ، و المعنى أنّ الفرخ إذا فارق بيضته لم يعد إليها و كذا إذا اعتمروا في أشهر الحجّ لم يعودوا إلى مكّة. و قال في العنود و في حديث عمر و يذكر سيرته »و أضمّ العنود« و هو من الإبل الّذي لا يخالطها و لا يزال منفردا عنها، و أراد من خرج عن الجماعة أعدته إليها و عطفته عليها.
و قال ابن أبي الحديد و في حديث عمر، أنّه قال في متعة الحجّ قد علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ فعلها و أصحابه و لكن كرهت أن يظلّوا بهنّ معرسين تحت الأراك، ثم يلبّون بالحجّ يقطر رءوسهم
قال المعرّس الذي يغشى امرأته. قال كره أن يحلّ الرجل من عمرته ثم يأتي النساء، ثم يهلّ بالحجّ. و قال في النهاية في الأعراس و منه حديث عمر نهى عن متعة الحجّ، و قال قد علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم فعله و لكن كرهت أن يظلّوا بها معرسين أي ملمّين بنسائهم.
و روى في جامع الأصول، عن الترمذي، عن سالم بن عبد اللّه، أنّه سمع رجلا من أهل الشام و هو يسأل عبد اللّه بن عمر عن التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فقال عبد اللّه بن عمر أ رأيت إن كان أبي ينهى عنها و صنعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، أمر أبي يتّبع أم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[. فقال الرجل بل أمر رسول اللّه )ص(، فقال لقد صنعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[.
و روى مسلم، عن سعد بن أبي وقّاص، قال لقد تمتّعنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، و هذا يعني معاوية كافر بالعرش يعني بالعرش.. بيوت مكة في الجاهليّة.
قال في جامع الأصول بعد حكايتها عن مسلم و في رواية الموطأ و الترمذي و النسائي، عن محمد بن عبد اللّه بن الحارث، أنّه سمع سعد بن أبي وقّاص و الضحّاك بن قيس عام حجّ معاوية يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحّاك لا يصنع ذلك إلّا من جهل أمر اللّه. فقال له سعد بئسما قلت يا ابن أخي. فقال الضحّاك إنّ عمر قد نهى عن ذلك. فقال سعد قد صنعناها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ بأمره، و صنعها هو صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم.
قال ليس عند الترمذي عام حجّ معاوية.
و روى في صحيح مسلم و في جامع الأصول و في المشكاة عن عطاء، عن جابر بن عبد اللّه، قال أهللنا أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه ]و آله[ بالحجّ خالصا وحده، فقدم النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ صبح رابعة مضت من ذي الحجّة فأمرنا أن نحلّ، قال عطا قال أحلّوا و أصيبوا النساء، و لم يعزم عليهم و لكن أحلّهنّ لهم. فقلنا لمّا لم يكن بيننا و بين عرفة إلّا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة يقطر مذاكيرنا المني. قال جابر بيده كأنّي أنظر إلى قوله بيده يحرّكها. قال فقام النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ فينا فقال قد علمتم أنّي أتقاكم للّه عزّ و جلّ و أصدقكم و أبرّكم، و لو لا هدي لحلّلت كما تحلّون، و لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلّوا، فحللنا و سمعنا و أطعنا.. إلى هنا رواية البخاري.
و في رواية مسلم، قال جابر فقدم عليّ عليه السلام من سعايته، فقال بما أهللت. قال بما أهلّ به النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ فأهد و امكث حراما، و أهدى له عليّ )عليه السلام( هديا، فقال سراقة بن مالك بن جعشم يا رسول اللّه لعامنا هذا أم لأبد. قال بل لأبد.
فهذه جملة من الأخبار العاميّة. و أخبار الخاصّة في ذلك أكثر من أن يمكن إيرادها هنا، و سيأتي بعضها في كتاب الحجّ، و كتب أخبارنا مشحونة بها. و أجاب المخالفون أمّا عن متعة النساء، فبأنّها كانت على عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله ثمّ نسخت، و عوّلوا في ذلك على روايات متناقضة أوردوها في كتبهم تركناها مخافة الإطناب، و أجيب عنها بوجوه الأول أنّ تناقض تلك الروايات تدلّ على كونها موضوعة، إذ بعضها يدلّ على أنّها نسخت يوم خيبر، و بعضها يدلّ على أنّ الإباحة و التحريم كانا في مكة قبل الخروج منها بعد الفتح، و بعضها يدلّ على أنّهم شكوا العزوبة في حجّة الوداع فأذن لهم في المتعة، و بعضها يدلّ أنّها ما حلّت إلّا في عمرة القضاء، و كانت بعد فتح خيبر، و قد دلّ بعض رواياتهم على أنّها نسخت يوم خيبر كما عرفت، و بعضها على أنّها نسخت في غزوة تبوك، و بعضها على أنّها كانت مباحة في أول الإسلام حتّى نسخت بقوله تعالى إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ. و لا ريب في أنّه لا يعبّر عن عام حجّة الوداع و الفتح و خيبر و تبوك بأوّل الإسلام، على أنّ هذه الآية التي تدلّ روايتهم عن ابن عباس على نسخ المتعة بها تكرّرت في سورتين سورة المعارج، و سورة المؤمنون، و هما مكيّتان كما ذكره المفسّرون، فكيف كان الإذن بها و النهي عنها في حجّة الوداع، و عام الفتح، و غيرهما و لهذا الاختلاف الفاحش التجئوا إلى التشبّث بوجوه فاسدة سخيفة في الجمع بينها، كالقول بتكرّر الإباحة و التحريم، و حمل التحريم في بعضها على التأبيد، و في بعضها على التأكيد، و ذكروا وجوها سخيفة أخرى لا نسوّد الكتاب بذكرها، و ما رووه عن الحسن أنّه ما حلّت إلّا في عمرة القضاء ظاهر المناقضة لتلك الوجوه. و بالجملة، هذا النوع من الاختلاف في الرواية دليل واضح على كذب الراوي. الثاني أنّ ما سبق من روايات جابر و غيرها صريح في أنّ العمل بإباحة المتعة كان مستمرا إلى منع عمر بن الخطاب عنها. و القول بأنّ جابر أو غيره من الصحابة لم يبلغهم النسخ إلى زمان عمر.. ظاهر الفساد، و هل يجوّز عاقل أن يبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مناديه ينادي بإباحة المتعة بين الناس كما مرّ و يبوح بإباحتها و يتلو الآية الدالّة على حلّها، ثم لمّا نسخ الحكم يخفيه عن طائفة من أصحابه و لا يعلن به بحيث لم يبلغ نسخ الحكم مثل جابر مع شدّة ملازمته للرسول صلّى اللّه عليه و آله في السفر و الحضر حتّى كانوا يداومون على منكر شنيع يرى عمر رجم من ارتكبه، كما رواه مالك في الموطأ. و بالجملة، دعوى كون الحكم في نسخ مثل هذا الحكم بحيث يخفى على مثل جابر و ابن مسعود و ابن عباس و أضرابهم، بل على أكثر الصحابة على ما هو الظاهر من قول جابر كنّا نستمتع على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أبي بكر و عمر دعوى واضح الفساد. الثالث
أنّ الرواية المشهورة بين الفريقين من أنّه قال في خطبته متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما..
صريحة في دوام الحكم بحلّها إلى ذلك الزمان، و كذلك يشهد بعدم نسخها عدم اعتذار عمر بالنسخ في الرواية السابقة، و اعتذاره بأنّ حلّها كان في زمان ضرورة، و هل يجوّز عاقل أنّه كان عالما بنسخها و نهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنها و مع ذلك يعتذر بمثل هذا العذر الظاهر الفساد فإنّ إباحة حكم في زمان لا يقتضي تقييد الإباحة بها، و ترك عمل الصحابة بأمر مباح على تقدير تسليمه لا يدلّ على عدم إباحته، على أنّ ذلك شهادة نفي في أمر محصور، و يكذّبه قول جابر و غيره كنّا نستمتع.. إلى زمن نهيه، و لو كان مستنده عدم اطّلاعه على عمل الصحابة بها بعد زمان الضرورة فبطلانه أوضح. الرابع أنّ المتعة لو كانت منسوخة لما خفي ذلك على أهل بيته صلّى اللّه عليه و آله و هم أعلم بما في البيت و قد أجمعوا على حلّها، و إجماعهم حجّة، و إنكار قولهم بذلك مكابرة واضحة. و أمّا متعة الحجّ، فقد عوّلوا في دفع الطعن فيها على أنّه نهى عنه عمر و كذلك عثمان كما سبق على وجه التنزيه، لكون الإفراد أفضل لا على وجه التحريم، و فيه نظر من وجوه الأول أنّ قول عمر أنا أحرّمهما.. ظاهر في التحريم، و لو سلّمنا كون بعض الروايات أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما.. فمع أنّ الظاهر من لفظ النهي أيضا التحريم، قد قرن بالتحريم و النهي قوله أعاقب عليهما، و لا ريب في أنّ المعاقبة تنافي التنزيه. الثاني أنّه لو كان نهيه عن متعة الحجّ للتنزيه لكان نهيه عن متعة النساء أيضا كذلك، للتعبير عنهما بلفظ واحد، و لم يقل أحد بأنّه نهى عن متعة النساء تنزيها، مع أنّه قد مرّ أنّه أوعد عليها بالرجم، و قد سبق في رواية عائشة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دخل عليها غضبان لذلك، و كيف يغضب صلّى اللّه عليه و آله لعدول الناس في عبادة ربّهم إلى الأفضل أو لتردّدهم فيه، بل لا يشكّ منصف في أنّ ما تضافرت به الروايات من
قوله صلّى اللّه عليه و آله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، و لو لا أنّ معي الهدي لأحللت..
دليل قاطع على بطلان أفضليّة الإفراد كما زعموه. و بالجملة، القول بأنّ أمره صلّى اللّه عليه و آله بالإحلال و العدول إلى التمتّع كان أمرا بالمرجوح لبيان الجواز، ظاهر الفساد. الثالث أنّ رواية عمران بن سوادة الليثي واضحة الدلالة على أنّ نهيه عنها كان على وجه التحريم، كما لا يخفى على من تأمّل فيها، و لو كان نهيه على وجه التنزيه لقال إنّي ما حرّمتها عليهم و لكنّي أمرتهم بأفضل الأفراد، و قد تقدّم في رواية ابن حصين قوله لم ينزل قرآن يحرّمه و لم ينه عنها حتّى مات. قال رجل برأيه ما شاء. و قال البخاري يقال إنّه عمر، و من تأمّل في الأخبار لا يشكّ في أنّه لم يكن الكلام في أفضليّة التمتّع أو الإفراد، بل في جواز التمتّع أو حرمته. الرابع أنّه لو كان نهي عمر و عثمان عن المتعة أمرا بالأفضل فلما ذا كان أمير المؤمنين عليه السلام ينازع عثمان، و عثمان ينازعه، كما مرّ.
و روى في جامع الأصول، عن الموطأ بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه ]عليهما السلام[ أنّه قال إنّ المقداد بن الأسود دخل على عليّ بن أبي طالب ]عليه السلام[ بالسقيا، و هو ينجع بكرات له دقيقا و خبطا. فقال هذا عثمان بن عفّان ينهى أن يقرن بين الحجّ و العمرة، فخرج عليّ ]عليه السلام[ و على يديه أثر الدقيق و الخبط، فما أنسى الخبط و الدقيق على ذراعيه حتى دخل على عثمان بن عفّان، فقال أنت تنهى عن أن يقرن بين الحجّ و العمرة. فقال عثمان ذلك رأي. فخرج عليّ ]عليه السلام[ مغضبا و هو يقول لبّيك اللّهمّ بحجّة و عمرة معا.
و معلوم من سيرته عليه السلام أنّه كان لا يجاهر الخلفاء بالخلاف و لا يعارضهم إلّا في عظائم الأمور، بل كان يداريهم و يتّقي شرّهم ما استطاع، و لا يظهر الخلاف إلّا في البدع الشنيعة، و هل يجوّز عاقل أن يأمر عثمان بطاعة اللّه تعالى بما هو أرضى عنده ثم يقول أمير المؤمنين عليه السلام ما تريد إلّا أن تنهى عن أمر فعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و يرفع صوته بين الناس بما نهى عنه مع علمه بأنّ ذلك يثمر العداوة و يثير الفتنة. و البكرة الفتية من الإبل. و الخبط بالتحريك الورق السّاقط من الشّجر، و هو من علف الإبل. و ينجع.. أي يعلفها النّجوع، و النّجيع و هو أن يخلط العلف من الخبط و الدّقيق بالماء ثمّ تسقى الإبل. و السّقيا بالضم منزل بين مكّة و المدينة. تذييل اعلم، أنّه لا يشكّ عاقل بعد التأمّل
فيما روت الخاصّة و العامّة في تلك القصّة أنّ هذا الشقيّ جبه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالردّ حين أدّى عن اللّه تعالى حكم التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، و واجهه صلّى اللّه عليه و آله بألفاظ ركيكة، بعد قوله صلّى اللّه عليه و آله هذا جبرئيل يأمرني أن آمر من لم يسق هديا أن يحلّ.. ولج في ذلك حتّى أغضبه و أحزنه كما مرّ في خبر عائشة و قال إنّك لم تؤمن بهذا أبدا،
كما ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام. ثم لمّا لم يمكنه رفع هذا الخبر أضمر في نفسه الخبيثة ذلك إلى أن استولى على الأمر و تمكّن، فقام خطيبا و صرّح بأنّه يحرّم ما أحلّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حثّ عليه، و أحيا سنّة أهل الشرك و الجاهليّة، و شنع عليه صلّى اللّه عليه و آله بالوجوه الركيكة التي ذكرها اعتذارا من ذلك، فكيف يكون مثل هذا مؤمنا و قد قال عزّ و جلّ فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. تتميم أجاب الفخر الرازي في تفسيره عن الطعن بنهيه عن متعة الحجّ بوجه آخر، حيث قال التمتّع بالعمرة إلى الحجّ هو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحجّ ثم يقيم حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحجّ فيحجّ في عامه ذلك..، و هذا صحيح و لا كراهة فيه، و هاهنا نوع آخر مكروه، و هو الذي خطب به عمر، و هو أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحجّ إلى العمرة فيتمتّع بها إلى الحجّ. و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم أذن لأصحابه في ذلك، ثم نسخ. و هو باطل بوجوه الأول أنّ هذا المعنى لا يفهم من التمتّع عند الإطلاق، و إنّما يفهم منه المعنى المعروف عند فقهاء الفريقين، و لا ريب في أنّ الناس قديما و حديثا لم يفهموا من المتعة و منعها غير المعنى المعروف، و إنّما ذلك معنى تكلّفه المتعصّبون لضيق الخناق. الثاني أنّ روايات عمران بن حصين في أنّ ما نهى عنه الرجل و قال فيه برأيه ما شاء، هو المعنى المعروف، و إيقاع العمرة في أشهر الحجّ، و ظاهر أنّ النهي عن المتعة و القول بالرأي فيها لم يكن من غير عمر، و لذا لم يصرّح عمران به تقيّة. الثالث أنّه قد مرّ في رواية أبي موسى، أنّه علّل عمر ما أحدثه في شأن النسك بقوله، كرهت أن يظلّوا معرسين.. و ظاهر أن هذا التعليل يقتضي المنع عن المتعة بالمعنى المعروف، و الرواية صريحة في أنّ أبا موسى كان يفتي بالمتعة فحذّره الرجل عن مخالفة عمر. الرابع أنّ رواية عمران بن سوادة صريحة في اعتراف عمر بأنّه حرّم المتعة في أشهر الحجّ معلّلا بما ذكر فيها، و كذا رواية الترمذي عن ابن عمر صريحة في أنّه نهى عن التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، و كذا غيرهما ممّا سبق من الروايات. الخامس أنّه لو كان ما نهى عنه و حرّمه عمر أمرا منسوخا في زمن الرسول )ص( لأنكر على عمران بن سوادة قوله لم يحرّمهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا أبو بكر، و قد صدّقه و علّل التحريم بما سبق. و بالجملة، لا مجال للشكّ في أنّ ما حرمه عمر هو التمتّع بالعمرة إلى الحجّ الذي صرّحت روايات الفريقين بأنّه حكمه باق إلى يوم القيامة، و أنّه للأبد، و أبد الأبد، بل إنّه نهى عن أعمّ منه و هو الاعتمار في أشهر الحجّ. و لنعم ما حكى الشهيد الثاني، قال وجدت في بعض كتب الجمهور أنّ رجلا كان يتمتّع بالنساء، فقيل له عمّن أخذت حلّها. قال عن عمر. قيل له كيف ذلك و عمر هو الذي نهى عنها و عاقب عليها. فقال
لقوله متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما، متعة الحجّ و متعة النساء
فأنا أقبل روايته في شرعيّتها على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا أقبل نهيه من قبل نفسه.
الخامس
إنّه عطّل حدّ اللّه في المغيرة بن شعبة لمّا شهدوا عليه بالزنا، و لقّن الشاهد الرابع الامتناع من الشهادة اتّباعا لهواه، فلمّا فعل ذلك عاد إلى الشهود و فضحهم و حدّهم، فتجنّب أن يفضح المغيرة و هو واحد و كان آثما و فضح الثلاثة، و عطّل حدّ اللّه و وضعه في غير موضعه.
قال ابن أبي الحديد روى الطبري في تاريخه، عن محمد بن يعقوب ابن عتبة، عن أبيه، قال كان المغيرة يختلف إلى أمّ جميل امرأة من بني هلال بن عامر و كان لها زوج من ثقيف هلك قبل ذلك يقال له الحجّاج بن عبيد، و كان المغيرة و هو أمير البصرة يختلف إليها سرّا، فبلغ ذلك أهل البصرة فأعظموا، فخرج المغيرة يوما من الأيّام فدخل عليها و قد وضعوا عليهما الرّصد فانطلق القوم الذين شهدوا عند عمر فكشفوا السّتر فرأوه قد واقعها، فكتبوا بذلك إلى عمر، و أوفدوا إليه بالكتاب أبا بكرة، فانتهى أبو بكرة إلى المدينة، و جاء إلى باب عمر فسمع صوته و بينه و بينه حجاب، فقال أبو بكرة. فقال نعم. قال لقد جئت لشرّ. قال إنّما جاء به المغيرة.. ثم قصّ عليه القصّة و عرض عليه الكتاب، فبعث أبا موسى عاملا و أمره أن يبعث إليه المغيرة، فلمّا دخل أبو موسى البصرة و قعد في الإمارة أهدى إليه المغيرة عقيلة، و قال و إنّني قد رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر.
قال الطبري و روى الواقدي، عن مالك بن أوس، قال قدم المغيرة على عمر فتزوّج في طريقه امرأة من بني مرّة، فقال له عمر إنّك لفارغ القلب شديد الشّبق، طويل العزمول. ثم سأل عن المرأة فقيل له يقال لها الرقطاء، كان زوجها من ثقيف، و هي من بني هلال.
قال الطبري و كتب إليّ السري، عن شعيب، عن سيف أنّ المغيرة كان يبغض أبا بكرة، و كان أبو بكرة يبغضه، و يناغي كلّ واحد منهما صاحبه و ينافره عند كلّ ما يكون منه، و كانا متجاورين بالبصرة بينهما طريق، و هما في مشربتين متقابلتين، فهما في داريهما في كلّ واحدة منهما كوّة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدّثون في مشربته، فهبّت ريح ففتحت باب الكوّة، فقام أبو بكرة ليصفقه فبصر بالمغيرة و قد فتح الريح بالكوّة التي في مشربته، و هو بين رجلي امرأة، فقال للنفر قوموا فانظروا، فقاموا فنظروا، ثم قال اشهدوا، قالوا و من هذه. قال أمّ جميل بنت الأفقم، و كانت أمّ جميل إحدى بني عامر ابن صعصعة، فقالوا إنّما رأينا أعجازا و لا ندري ما الوجوه. فلمّا قامت صمّموا، و خرج المغيرة إلى الصلاة، فحال أبو بكرة بينه و بين الصلاة، و قال لا تصلّ بنا، و كتبوا إلى عمر بذلك، و كتب المغيرة إليه أيضا، فأرسل عمر إلى أبي موسى، فقال يا أبا موسى إنّي مستعملك، و إنّي باعثك إلى أرض قد باض فيها الشيطان و فرّخ، فالزم ما تعرف، و لا تستبدل فيستبدل اللّه بك. فقال يا أمير المؤمنين أعني بعدّة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المهاجرين و الأنصار، فإنّي وجدتهم في هذه الأمة و هذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلّا به. قال فاستعن بمن أحببت، فاستعان بتسعة و عشرين رجلا منهم أنس بن مالك و عمّار بن حصين و هشام بن عامر.. و خرج أبو موسى بهم حتّى أناخ بالبصرة في المربد، و بلغ المغيرة أنّ أبا موسى قد أناخ بالمربد، فقال و اللّه ما جاء أبو موسى تاجرا و لا زائرا و لكنّه جاء أميرا، و إنّهم لفي ذلك إذ جاء أبو موسى حتّى دخل عليهم، فدفع إلى المغيرة كتابا من عمر إنّه لأزجر كتاب كتب به أحد من الناس أربع كلم عزل فيها و عاتب و استحثّ و أمّر أمّا بعد، فإنّه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى فسلّم ما في يديك إليه و العجل. و كتب إلى أهل البصرة أمّا بعد، فإنّي قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم ليأخذ لضعيفكم من قويكم، و ليقاتل بكم عدوّكم، و ليدفع عن ذمّتكم، و ليجبي لكم فيئكم، و ليقسّم فيكم، و ليحمي لكم طرقكم. فأهدى إليه المغيرة وليدة من مولّدات الطائف تدعى عقيلة، فقال إنّي قد رضيتها لك و كانت فارهة، و ارتحل المغيرة و أبو بكرة و نافع بن كلدة و زياد و شبل بن معبد البجلي حتّى قدموا على عمر، فجمع بينهم و بين المغيرة، فقال المغيرة يا أمير المؤمنين سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني مستقبلهم أم مستدبرهم فكيف رأوا المرأة و عرفوها فإن كانوا مستقبليّ فكيف لم أستتر و إن كانوا مستدبريّ فبأيّ شيء استحلّوا النظر إليّ في منزلي على امرأتي و اللّه ما أتيت إلّا امرأتي، فبدأ بأبي بكرة فشهد عليه أنّه رآه بين رجلي أمّ جميل، و هو يدخله و يخرجه، قال عمر كيف رأيتهما. قال مستدبرهما. قال كيف استبنت رأسها. قال تخافيت. فدعا بشبل بن معبد فشهد مثل ذلك، و قال استقبلتهما و استدبرتهما، و شهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، و لم يشهد زياد بمثل شهادتهم، قال رأيته جالسا بين رجلي امرأة، و رأيت قدمين مرفوعين يخفقان، و استين مكشوفين، و سمعت حفزا شديدا، قال عمر فهل رأيته فيها كالميل في المكحلة. قال لا. قال فهل تعرف المرأة. قال لا، و لكن أشبّهها.. فأمر عمر بالثلاثة الحدّ و قرأ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ، فقال المغيرة الحمد للّه الذي أخزاكم، فصاح به عمر اسكت.. أسكت اللّه نأمتك، أما و اللّه لو تمّت الشهادة لرجمتك بأحجارك، فهذا ما ذكره الطبري.
أقول ثم روى من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني روايات مختلفة تؤدّي مؤدّى تلك الرواية.. إلى أن قال قال أبو الفرج قال أبو زيد عمر بن شيبة فجلس له عمر و دعا به و بالشهود، فتقدّم أبو بكرة، فقال أ رأيته بين فخذيها. قال نعم، و اللّه لكأنّي أنظر إلى تشريم جدريّ بفخذيها. فقال المغيرة لقد ألطفت النّظر. قال لم آل أن أثبت ما يخزيك اللّه به. فقال عمر لا و اللّه حتّى تشهد، لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة. قال نعم، أشهد على ذلك. فقال عمر أذهب عنك، مغيرة ذهب ربعك. قال أبو الفرج و يقال إنّ عليّا عليه السلام هو قائل هذا القول، ثم دعا نافعا، فقال على ما تشهد. قال على مثل شهادة أبي بكرة. فقال عمر لا، حتّى تشهد أنّك رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة. قال نعم، حتّى بلغ قذذه. فقال أذهب عنك، مغيرة ذهب نصفك، ثم دعا الثالث و هو شبل ابن معبد فقال على ما ذا تشهد. قال على مثل شهادة صاحبيّ. فقال أذهب عنك، مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك. قال فجعل المغيرة يبكي إلى المهاجرين فبكوا معه، و بكى إلى أمّهات المؤمنين حتّى بكين معه، قال و لم يكن زياد حضر ذلك المجلس، فأمر عمر أن ينحّى الشهود الثلاثة و أن لا يجالسهم أحد من أهل المدينة، و انتظر قدوم زياد، فلمّا قدم جلس له في المسجد و اجتمع رءوس المهاجرين و الأنصار، قال المغيرة و كنت قد أعددت كلمة أقولها فلمّا رأى عمر زيادا مقبلا قال إنّي لأرى رجلا لن يخزي اللّه على لسانه رجلا من المهاجرين.
قال أبو الفرج و في حديث أبي زيد، عن السريّ، عن عبد الكريم بن رشيد، عن أبي عثمان النهديّ أنّه لمّا شهد الشاهد الأول عند عمر تغيّر لون عمر، ثم جاء الثاني فشهد فانكسر لذلك انكسارا شديدا، ثم جاء الثالث فشهد فكأنّ الرّماد نثر على وجه عمر، فلمّا جاء زياد جاء شابّ يخطر بيديه، فرفع عمر رأسه إليه و قال ما عندك أنت يا سلح العقاب و صاح أبو عثمان النهديّ صيحة يحكي صيحة عمر، قال عبد الكريم لقد كدت أن يغشى عليّ لصيحته. قال أبو الفرج فكان المغيرة يحدّث، قال فقمت إلى زياد، فقلت لا مخبأ لعطر بعد عروس، يا زياد أذكّرك اللّه و أذكّرك موقف القيامة و كتابه و رسوله أن تتجاوز إلى ما لم تر، ثم صحت يا أمير المؤمنين إنّ هؤلاء قد احتقنوا دمي، فاللّه اللّه في دمي، قال فرتقت عينا زياد و احمّر وجهه، و قال يا أمير المؤمنين أما إنّ أحقّ ما حقّ القوم فليس عندي، و لكنّي رأيت مجلسا قبيحا، و سمعت نفسا حثيثا و انتهارا، و رأيته متبطّنها. فقال عمر رأيته يدخل في فرجها كالميل في المكحلة. قال لا. قال أبو الفرج و روى كثير من الرواة أنّه قال رأيته رافعا رجليها، و رأيت خصييه متردّدين بين فخذيها، و رأيت حفزا شديدا، و سمعت نفسا عاليا، فقال عمر رأيته يدخله و يخرجه كالميل في المكحلة. قال لا. قال عمر اللّه أكبر، قم يا مغيرة إليهم فاضربهم، فقام المغيرة إلى أبي بكرة فضربه ثمانين و ضرب الباقين. و روى قوم أنّ الضارب لهم الحدّ لم يكن المغيرة. قال و أعجب عمر قول زياد و درأ الحدّ عن المغيرة، فقال أبو بكرة بعد أن ضرب أشهد أنّ المغيرة فعل كذا.. و كذا، فهمّ عمر بضربه، فقال له عليّ عليه السلام إن ضربته رجمت صاحبك، و نهاه عن ذلك. قال أبو الفرج يعني إن ضربه يصير شهادته شهادتين فيوجب بذلك الرجم على المغيرة. قال و استتاب عمر أبا بكرة، قال إنّما تستتيبني لتقبل شهادتي. قال أجل. قال فإنّي لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا. قال فلمّا ضربوا الحدّ، قال المغيرة اللّه أكبر الحمد للّه الذي أخزاكم. فقال عمر اسكت أخزى اللّه مكانا رأوك فيه. قال و قام أبو بكرة على قوله، و كان يقول و اللّه ما أنسى قطّ فخذيها، و تاب الاثنان فقبل شهادتهما، و كان أبو بكرة بعد ذلك إذا طلب إلى شهادة يقول اطلبوا غيري، فإنّ زيادا أفسد عليّ شهادتي.. قال أبو الفرج و حجّ عمر بعد ذلك مرّة فوافق الرقطاء بالموسم، فرآها و كانت المغيرة يومئذ هناك فقال عمر للمغيرة ويحك أ تتجاهل عليّ، و اللّه ما أظنّ أبا بكرة كذب عليك، و ما رأيتك إلّا خفت أن أرمى بحجارة من السماء. قال و كان عليّ عليه السلام بعد ذلك يقول إن ظفرت بالمغيرة لأتبعته أحجاره.
قال ابن أبي الحديد بعد إيراد تلك الأخبار و غيرها فهذه الأخبار كما تراها تدلّ متأمّلها على أنّ الرجل زنى بالمرأة لا محالة، و كلّ كتب التواريخ و السير يشهد بذلك، و إنّما اقتصرنا نحن منها على ما في هذين الكتابين.
و قد روى المدائني أنّ المغيرة كان أزنى الناس في الجاهليّة، فلمّا دخل في الإسلام قيّده الإسلام، و بقيت عنده منه بقية ظهرت في أيّام ولايته بالبصرة،
ثم أورد في ذلك روايات أخر تركناها اختصارا. و قال الشيخ قدّس اللّه روحه في تلخيص الشافي فإن قالوا لم يعطّل الحدّ و إنّما لم يتكامل الشهادة، و إرادة الرابع لأن يشهد لا تكمل بها البيّنة و إنّما تكمل بإقامتها.. و قوله أرى وجه رجل لا يفضح اللّه على يده رجلا.. سائغ صحيح، فجرى مجرى
ما روي عنه )ص( من أنّه أتي بسارق فقال له لا تقرّ.
و قال لصفوان بن أميّة لمّا أتاه بالسارق و أمر بقطعه فقال هي له يعني ما سرق هلّا قبل أن تأتيني به
فلا يمتنع أن يجب أن لا تكمل الشهادة، و ينبّه الشاهد على أن لا يشهد، و جلد الثلاثة من حيث صاروا قذفة، قالوا ليس حالهم و قد شهدوا كحال من لم تتكامل الشهادة عليه، لأنّ الحيلة في إزالة الحدّ عنه و لمّا تكاملت الشهادة ممكنة بتلقين و تنبيه و غيره، و لا حيلة فيما قد وقع من الشهادة، فلذلك حدّهم، و ليس في إقامة الحدّ عليهم من الفضيحة ما في تكامل الشهادة على المغيرة، لأنّه يتصوّر بأنّه زان و يحكم بذلك فيه، و ليس كذلك حال الشهود، لأنّهم لا يتصوّرون بذلك و إن وجب في الحكم أن يجعلوا في حكم القذفة، على أنّه قيل إنّ القذف منهم كان تقدّم بالبصرة، لأنّهم صاحوا به في نواحي المسجد بأنّا نشهد بأنّك زان، فلو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدّهم لا محالة، فلم يمكن في إزالة الحدّ عنهم ما أمكن في المغيرة، و ما روي من أنّ عمر إذا رآه كان يقول لقد خفت أن يرميني اللّه بحجارة من السماء..، غير صحيح، و لو صحّ لكان تأويله التخويف و إظهار قوّة الظنّ بصدق القوم لما شهدوا عليه ردعا له، و غير ممتنع أن يحب أن لا يفتضح لما كان متولّيا للبصرة من قبله، و سكوت زياد عن إقامة الشهادة لا يوجب تفسيقه، لأنّا علمنا بالشرع أنّ له السكوت، و لو كان فسقا لما ولّاه أمير المؤمنين عليه السلام فارس، و لما ائتمنه على أموال المسلمين و دمائهم. قيل لهم إنّما نسب عمر إلى تعطيل الحدّ من حيث كان في حكم الثابت، و إنّما بتلقينه لم تكمل الشهادة، لأنّ زيادا ما حضر إلّا ليشهد بما شهد به أصحابه، و قد صرّح بذلك كما صرّحوا قبل حضورهم، و لو لم يكن هذا هكذا لما شهد القوم قبله و هم لا يعلمون هل حال زياد في ذلك كحالهم، لكنّه أحجم في الشهادة لما رأى كراهيّة متولّي الأمر لكمالها، و تصريحه بأنّه لا يريد أن يعمل بموجبها. و من العجائب أن يطلب الحيلة في دفع الحدّ عن واحد و هو لا يندفع إلّا بانصرافه إلى ثلاثة، فإن كان درأ الحدّ و الاحتيال في دفعه من السنن المتّبعة، فدرؤه عن ثلاثة أولى من درئه عن واحد. و قولهم إن درء الحدّ عن المغيرة ممكن، و درؤه عن الثلاثة و قد شهدوا غير ممكن طريف، لأنّه لو لم يلقّن الشاهد الرابع الامتناع من الشهادة لاندفع عن الثلاثة الحدّ، فكيف لا تكون الحيلة ممكنة فيما ذكروه، بل لو أمسك عن الاحتيال جملة لما لحق الثلاثة حدّ. و قولهم إنّ المغيرة يتصوّر بصورة زان لو تكاملت الشهادة، و في هذا من الفضيحة ما ليس في حدّ الثلاثة.. غير صحيح لأنّ الحكم في الأمرين واحد، لأنّ الثلاثة إذا حدّوا يظنّ بهم الكذب و إن جوّز أن يكونوا صادقين، و المغيرة لو كملت الشهادة عليه بالزنا ظنّ ذلك به مع التجويز لأن يكون الشهود كذبة، فليس في أحد الأمرين إلّا ما في الآخر. و ما
روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أنّه أتي بسارق فقال له لا تقرّ
إن كان صحيحا لا يشبه ما نحن فيه، لأنّه ليس في دفع الحدّ عن السارق، إيقاع غيره في المكروه، و قصّة المغيرة تخالف ذلك، لما ذكرناه. و أمّا
قوله صلّى اللّه عليه و آله لصفوان هلّا قبل أن تأتيني به..
فلا يشبه ما نحن فيه، لأنّه بيّن أنّ ذلك القول كان يسقط الحدّ لو تقدّم، و ليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحدود. و أمّا قولهم إنّ القذف منهم كان قد تقدّم فغير معروف، و المرويّ خلافه، و الظاهر أنّه إنّما حدّهم عند نكول زياد عن الشهادة، و أنّ ذلك كان السبب في إيقاع الحدّ بهم. و تأويلهم لقول عمر لقد خفت أن يرميني اللّه بحجارة.. لا يليق بما قالوه، لأنّه يقتضي التندّم و التأسّف على تفريط وقع، و لم يخاف أن يرمى بالحجارة و هو لم يدرأ الحدّ عن مستحقّ له، و لو أراد الردع و التخويف لمغيرة لأتى بكلام يليق بذلك و لا يقتضي إضافة التفريط إلى نفسه، و كونه واليا من قبله لا يقتضي أن يدرأ الحدّ عنه و يعدل به إلى غيره. و أمّا قولهم إنّا ما كنّا نعلم أنّ زيادا كان يتمّم الشهادة.. فقد بينا أنّ ذلك كان معلوما بالظاهر، و من قرأ ما روي في هذه القصّة علم بلا شكّ أنّ حال زياد كحال الثلاثة في أنّه إنّما حضر للشهادة، و إنّما عدل عنها لكلام عمر. و قولهم إنّ الشرع يبيحه السكوت. ليس بصحيح، لأنّ الشرع قد حظر كتمان الشهادة. و قولهم لم يفسق زياد لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام ولّاه فارس.. فليس بشيء يعتمد، لأنّه لا يمتنع أن يكون تاب بعد ذلك و أظهر توبته له عليه السلام، فجاز أن يولّيه. و كان بعض أصحابنا يقول في قصّة المغيرة شيئا طيّبا و هو معتمد في باب الحجّة و هو أنّ زيادا إنّما امتنع من التصريح بالشهادة المطلوبة في الزنا، و قد شهد بأنّه شاهده بين شعبها الأربع و سمع نفسا عاليا، فقد صحّ على المغيرة بشهادة الأربعة جلوسه منها جلوس مجلس الفاحشة.. إلى غير ذلك من مقدمات الزنا و أسبابه، فألّا ضمّ إلى جلد الثلاثة تعزير هذا الذي صحّ عنده بشهادة الأربعة ما صحّ من الفاحشة مثل تعريك أذنه أو ما جرى مجراه من خفيف التعزير و يسيره، و هل في العدول عن ذلك حين عدل عن لومه و توبيخه و الاستخفاف به إلّا ما ذكروه من السبب الذي يشهد الحال به، انتهى كلامه رفع اللّه مقامه. و أقول اعترض ابن أبي الحديد و غيره على هذا الكلام بوجوه سخيفة لا طائل في التعرّض لها لوهنها. و قال ابن أبي الحديد في تضاعيف كلامه ورد في الخبر أنّ عمر قال للمغيرة ما أظنّ أبا بكرة كذب عليك.. و قال تقديره أظنّه لم يكذب عليك، انتهى. و لا يخفى أنّ هذا إسناد معصيته إلى عمر، إذ لو لم يكن ذلك قذفا صريحا يوجب الحدّ فلا أقلّ يكون تعريضا يوجب التعزير، بل كذلك قوله ما رأيتك إلّا خفت أن يرميني اللّه بحجارة من السماء و هل يقال مثل ذلك لمن ندب اللّه إلى درء الحدّ عنه و سمّى في كتابه من رماه بالفجور كاذبا، و لو أراد عمر أن يعظ المغيرة أمكنه أن يذكّره عذاب اللّه و يأمره بالاجتناب عن ارتكاب مساخطه على وجه لا يوجب قذفا، و لا يتضمّن تعريضا. ثم إنّ ما ذكروه أنّ سبب حبّه للمغيرة أنّه كان واليا من قبله فلا وجه له، بل لا يخفى على من تتبّع أحوالهما أنّه لم يكن الباعث على الحبّ و على جعله واليا إلّا الاتّفاق في النفاق و الاشتراك في بغض أمير المؤمنين عليه السلام.
كما روي أنّه كان من أصحاب الصحيفة الملعونة التي كتبوها لإخراج الخلافة عن أهل البيت عليهم السلام، و لو لم يكن يحبّه حبّا شديدا فلم كان يتغيّر عند شهادة كلّ شاهد على الوجه المتقدّم، مع أنّ المغيرة لم يكن ذا سابقة في الإسلام، و من أهل الورع و الاجتهاد حتى يتوهّم أنّه كان مثل ذلك سببا لحبّه، و بغض المغيرة لأمير المؤمنين عليه السلام كان أظهر من الشمس، و قد اعترف ابن أبي الحديد بذلك حيث قال قال أصحابنا البغداديّون من كان إسلامه على هذا الوجه أي على الخوف و المصلحة و كانت خاتمته ما تواتر الخبر به من لعن عليّ عليه السلام على المنابر إلى أن مات على هذا الفعل، و كان المتوسط من عمره الزّنا، و إعطاء البطن و الفرج سؤالهما، و ممالاة الفاسقين، و صرف الوقت إلى غير طاعة اللّه، كيف نتولّاه و أيّ عذر لنا في الإمساك عنه و أن لا نكشف للناس فسقه... و ذكر أخبارا كثيرة في أنّه لعنه اللّه كان يلعن عليّا عليه السلام على المنبر و يأمر بذلك، و كذا اشتهاره بالزنا في الجاهليّة و الإسلام ممّا اعترف به ابن أبي الحديد، فكفى طعنا لعمر حبّه لمثل هذا الرجل مثل هذا الحبّ، و هل يظنّ أحد بعمر أنّه لم يكن يعلم بغضه لأمير المؤمنين عليه السلام، و قد كان سمع
النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول لا يحبّ عليّا إلّا مؤمن و لا يبغضه إلّا كافر منافق.
السادس أنّه منع من المغالاة في صدقات النساء
، و قال من غالى في مهر ابنته أجعله في بيت مال المسلمين، لشبهة أنّه رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله زوّج فاطمة عليها السلام بخمسمائة درهم، فقامت إليه امرأة و نبّهته بقوله تعالى... وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً على جواز المغالاة، فقال كلّ الناس أفقه من عمر حتّى المخدّرات في البيوت.
و أجيب بأنّه لم ينه نهي تحريم بل نهي تنزيه، و قوله كلّ الناس أفقه من عمر.. على طريق التواضع و كسر النفس. و أجاب السيد المرتضى رضي اللّه عنه بأنّ المرويّ أنّه منع من ذلك و حظره حتّى قالت له المرأة ما قالت، و لو كان غير حاظر للمغالاة لما كان في الآية حجّة عليه، و لا كان لكلام المرأة موقع، و لا كان يعترف لها بأنّها أفقه منه، بل كان الواجب عليه أن يردّ عليها و يوبّخها و يعرّفها أنّه ما حظر ذلك و إنّما تكون الآية حجّة عليه لو كان حاظرا مانعا. و أمّا التواضع فلا يقتضي إظهار القبيح و تصويب الخطإ، إذ لو كان الأمر على ما توهّمه المجيب لكان هو المصيب و المرأة مخطئة، و كيف يتواضع بكلام يوهم أنّه المخطئ و هي المصيبة انتهى. أقول و ممّا يدلّ على بطلان كون هذا الأمر للاستحباب
ما رواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أنّه خطب فقال لا يبلغني أنّ امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ إلّا ارتجعت ذلك منها، فقامت إليه امرأة فقالت و اللّه ما جعل اللّه ذلك لك، إنّه تعالى يقول وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً...، فقال عمر لا تعجبون من إمام أخطأ و امرأة أصابت، ناضلت إمامكم فنضلته.
و المناضلة المغالبة في الرّمي، و نضلته.. أي غلبته فيه، فإنّ كراهة المغالاة لا يقتضي جواز الارتجاع، بل استلزام الحرمة له أيضا محلّ تأمّل.
و قال ابن أبي الحديد أيضا في شرح غريب ألفاظ عمر في حديثه أنّه خطب، فقال ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنّ الرجل يغالي بصداق المرأة حتّى يكون ذلك لها في قلبه عداوة، يقول جشمت إليك عرق القربة.
قال أبو عبيدة معناه تكلّفت لك حتى عرقت عرق القربة، و عرقها سيلان مائها.
و قال الفخر الرازي في تفسيره روي أنّ عمر بن الخطاب قال على المنبر ألا لا تغالوا في مهور نسائكم، فقامت امرأة فقالت يا ابن الخطاب اللّه يعطينا و أنت تمنعنا، و تلت قوله تعالى وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً... الآية، فقال عمر كلّ الناس أفقه منك يا عمر، و رجع عن كراهة المغالاة.
ثم قال و عندي أنّ الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة، لأنّه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لآخر كون ذلك الشرط جائز الوقوع في نفسه، كما يقول الرجل لو كان الإله جسما لكان محدثا، انتهى. و الظاهر أنّه حذف منها ارتجاع المهر دفعا للطعن بذلك، و ليتمكّن من حملها على الكراهة، إلّا أنّه مع قطع النظر عنه لا يدفع الطعن، فإنّ الآية بعد تسليم دلالتها على جواز إيتاء القنطار لا شكّ في عدم دلالتها على نفي كراهة المغالاة، فرجوع عمر عن القول بالكراهة كما اعترف به و اعترافه بالخطإ بما تلت عليه المرأة دليل واضح على جهله، و لو حمل منعه على التحريم لم يظهر جهله بتلك المثابة، و إن كان أفحش في مخالفته الشرع، فظهر أنّ الحمل على الكراهة لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ. و الظاهر من رواية ابن أبي الحديد أنّه منع من المغالاة على سبيل الاجتهاد، لظنّه أنّه مثمر للعداوة في قلب الزوج، فرجوعه عن ذلك القول بعد سماع الآية كما دلّت عليه الروايات يدلّ على جواز الاجتهاد في مقابلة النصّ، و إلّا لما اعترف بالخطإ و لم يرجع عن قوله، و لو جاز فرجوعه عن اجتهاده بسماع الآية دليل واضح على جهله، فظهر توجّه الطعن سواء كانت المغالاة مباحة أو محرّمة أو مكروهة.
السابع
ما رواه ابن أبي الحديد و غيره أنّ عمر كان يعسّ ليلة فمرّ بدار سمع فيها صوتا فارتاب و تسوّر فوجد رجلا عنده امرأة و زقّ خمر، فقال يا عدوّ اللّه أ ظننت أنّ اللّه يسترك و أنت على معصيته. فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث، قال اللّه وَ لا تَجَسَّسُوا و تجسّست، و قال وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و قد تسوّرت، و قال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا و ما سلّمت. قال فهل عندك من خير إن عفوت عنك. قال نعم و اللّه لا أعود. فقال اذهب فقد عفوت عنك. و في رواية أخرى فلحقه الخجل.
و قد حكى تلك القصّة في الصراط المستقيم، عن الطبري، و الرازي، و الثعلبي، و القزويني، و البصري، و عن الراغب في محاضراته، و الغزالي في الإحياء، و المالكي في قوت القلوب. و قال الشيخ الطبرسي رحمه اللّه في مجمع البيان
و روي عن أبي قلابة أنّ عمر بن الخطاب حدّث أنّ أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو و أصحابه، فانطلق عمر حتّى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلّا رجل، فقال أبو المحجن يا أمير المؤمنين إنّ هذا لا يحلّ لك، قد نهاك اللّه عن التجسّس. فقال عمر ما يقول هذا. فقال زيد بن ثابت و عبد اللّه بن الأرقم صدق يا أمير المؤمنين. قال فخرج عمر و تركه، و خرج مع عمر بن الخطاب أيضا عبد الرحمن بن عوف فتبيّنت لهما نار فأتيا و استأذنا ففتح الباب فدخلا، فإذا رجل و امرأة تغنّي و على يد الرجل قدح، فقال عمر من هذه منك. قال امرأتي. قال و ما في هذا القدح. قال الماء، فقال للمرأة ما الذي تغّنين، قالت أقول
تطاول هذا الليل و اسودّ جانبه و أرّقني إلّا حبيب ألاعبهفو اللّه لو لا خشية اللّه و التقى لزعزع من هذا السرير جوانبهو لكنّ عقلي و الهواء يكفّني و أكرم بعلي أن تنال مراكبه
فقال الرجل ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين قال اللّه تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا، فقال عمر صدقت، و انصرف.
و أجيب بأنّ للإمام أن يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل، و إنّما لحقه الخجل.. لأنّه لم يصادف الأمر على ما ألقي إليه في إقدامهم على المنكر. و أجاب السيد المرتضى رضوان اللّه عليه ب أنّ التجسّس محظور بالقرآن و السنّة، و ليس للإمام أن يجتهد فيما يؤدّي إلى مخالفة الكتاب و السنة، و قد كان يجب إن كان هذا عذرا صحيحا أن يعتذر به إلى من خطّأه في وجهه، و قال له إنّك أخطأت السنّة من وجوه، فإنّه بمعاذير نفسه أعلم من غيره، و تلك الحال حال تدعو إلى الاحتجاج و إقامة العذر، و كلّ هذا تلزيق و تلفيق. انتهى. و لا يخفى أنّ قولهم إنّما لحقه الخجل لعدم مصادفته الأمر على ما ألقي إليه.. مخالف لما رواه ابن أبي الحديد و غيره كما عرفت. ثم إنّهم عدّوا من فضائل عمر أنّه أوّل من عسّ في عمله نفسه، لزعمهم أنّ ذلك أحرى بسياسة الرعيّة، و قد ظهر من مخالفته لصريح الآية أنّه من جملة مطاعنه، و لو كان خيرا لما تركه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لكان اللّه تعالى يأمر بذلك، فعدّهم ذلك من فضائله ترجيح لرأي عمر على ما قضى اللّه و رسوله به، و هل هذا إلّا كفر صريح.
الثامن
ما ورد في جميع صحاحهم و إن لم يتعرّض له أكثر أصحابنا، و هو عندي من أفحش مطاعنه و أثبتها و هو أنّه ترك الصلاة لفقد الماء، و أمر من أجنب و لم يجد الماء أن لا يصلّي من غير استناد إلى شبهة، كما
روى البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و صاحب جامع الأصول، عن شقيق قال كنت جالسا مع عبد اللّه و أبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى لو أنّ رجلا أجنب و لم يجد الماء شهرا أ ما كان يتيمّم و يصلّي و كيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، فقال عبد اللّه لو رخّص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمّموا الصعيد. قلت و إنّما كرهتم هذا لذا. قال نعم. فقال له أبو موسى أ لم تسمع قول عمّار لعمر بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرّغت في الصعيد كما يتمرّغ الدابة، فذكرت ذلك للنبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[، فقال إنّما كان يكفيك أن تصنع هكذا.. فضرب بكفّه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح ظهر كفّه بشماله، أو ظهر شماله بكفّه، ثم مسح بهما وجهه، فقال عبد اللّه أ لم تر عمر لم يقنع بقول عمّار.
قال البخاري و زاد يعلى، عن الأعمش، عن شقيق، قال كنت مع عبد اللّه و أبي موسى، فقال له أبو موسى أ لم تسمع قول عمّار لعمر إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ بعثني أنا و أنت، فأجنبت، فتمعّكت في الصعيد فأتينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ فأخبرناه، فقال إنّما يكفيك هكذا.. و مسح وجهه و كفّيه واحدة.
و روى البخاري أيضا في موضع آخر، عن شقيق بن سلمة، قال كنت عند عبد اللّه و أبي موسى، فقال له أبو موسى أ رأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع. فقال عبد اللّه لا يصلّي حتى يجد الماء. فقال أبو موسى كيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ كان يكفيك.. قال أ لم تر عمر لم يقنع بذلك فقال أبو موسى فدعنا من قول عمّار، كيف تصنع بهذه الآية، فما درى عبد اللّه ما يقول، فقال إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه و يتيمّم، قال الأعمش فقلت لشقيق فإنّها كره عبد اللّه لهذا. قال نعم.
و روى البخاري أيضا، عن أبي وابل، قال قال أبو موسى لعبد اللّه ابن مسعود إذا لم يجد الماء لا يصلّي. قال عبد اللّه لو رخّصت لهم في هذا كان إذا وجد أحدهم البرد قال هكذا يعني تيمّم و صلّى، قال قلت فأين قول عمّار لعمر. قال إنّي لم أر عمر قنع بقول عمّار.
و روى أيضا، عن سعيد بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال إنّي أجنبت فلم أصب الماء. فقال عمر لا تصلّ. فقال عمّار بن ياسر لعمر بن الخطاب أ ما تذكر أنّا كنّا في سفر أنا و أنت، فأمّا أنت فلم تصلّ، و أمّا أنا فتمعّكت فصلّيت، فذكرت للنبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ إنّما كان يكفيك هكذا.. فضرب النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ بكفّيه الأرض و نفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه و كفّيه.
و روى مسلم بالإسناد المذكور إلى قوله ثم تمسح بهما وجهك و كفّيك، فقال عمر اتّق اللّه يا عمّار. فقال إن شئت لم أحدث به. و في رواية أخرى لمسلم، فقال عمر نولّيك ما تولّيت. و في رواية أخرى له، قال عمّار يا أمير المؤمنين إن شئت لما جعل اللّه عليّ من حقّك ألا أحدّث به أحدا.
و قال في جامع الأصول بعد حكاية رواية البخاري و مسلم و في رواية أبي داود أنّه قال كنت عند عمر فجاءه رجل، فقال إنّا نكون بالمكان الشهر و الشهرين، فقال عمر أمّا أنا فلم أكن أصلّي حتّى أجد الماء. قال فقال عمّار يا أمير المؤمنين أ ما تذكر إذ كنت أنا و أنت في الإبل فأصابتنا جنابة، فأمّا أنا فتمعّكت فأتيت النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ فذكرت ذلك، فقال إنّما يكون يكفيك أن تقول هكذا.. و ضرب بيديه الأرض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه و يديه إلى نصف الذراع. فقال عمر يا عمّار اتّق اللّه. فقال يا أمير المؤمنين إن شئت و اللّه لم أذكره أبدا. فقال عمر كلّا و اللّه لنولينّك من ذلك ما تولّيت..
ثم ذكر أربع روايات في ذلك عن أبي داود. و روى عن النسائي أيضا أخبار قريبة المضامين من الأخبار الأخيرة. و التمعّك التمرّغ. و قال في جامع الأصول في قوله نولّيك ما تولّيت.. أي نكلك إلى ما قلت، و نرد إليك ما ولّيته نفسك و رضيت لها به. فإذا وقفت على هذه الأخبار التي لا يتطرّق للمخالفين فيها سبيل إلى الإنكار فنقول لا تخلو الحال من أن يكون عمر حين أمر السائل بترك الصلاة لفقدان الماء و عدم إذعانه لقول عمّار، و قوله أمّا أنا فلم أكن أصلّي حتّى أجد الماء.. عالما بشرعيّة التيمّم و وجوب الصلاة على فاقد الماء، متذكّرا للآية و أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو جاهلا بذلك غير متذكّر للكتاب و السنّة. فإن كان الأول كما هو الظاهر كان إنكاره التيمّم ردّا صريحا على اللّه و على رسوله صلّى اللّه عليه و آله و ليس تخصيصا أو تقييدا للنصّ بالاجتهاد، بل رفعا لحكمه رأسا لظنّ استلزامه الفساد، و هو إسناد للأمر بالقبيح إلى اللّه عزّ و جلّ و تجهيل له، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، و ذلك كفر صريح. و إن كان الثاني، كان ذلك دليلا واضحا على غاية جهله و عدم صلوحه للإمامة، فإنّ من لم يعلم في أزيد من عشرين سنة مثل هذا الحكم الذي تعمّ بلواه و لا يخفى على العوامّ، و كان مصرّحا به في موضعين من كتاب اللّه عزّ و جلّ، و لعلّه لعمله تعالى بإنكار هذا اللعين كرّره في الكتاب المبين و أمر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غير موطن، كما يظهر بالرجوع إلى رواياتهم المنقولة في جامع الأصول و سائر كتبهم، و استمرّ عليه عمل الأمّة في تلك المدّة مع تكرّر وقوعه، كيف يكون أهلا للإمامة صالحا للرئاسة العامّة لا سيّما و في القوم صادق مصدّق
يقول سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض.
و يقول لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم، حتى يزهر كلّ إلى ربّه و يقول إنّ عليّا قضى فينا بقضائك،
و يقول علّمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب.
و يشهد له الرسول الأمين صلّى اللّه عليه و آله بأنّه باب مدينة العلم، و أقضى الأمّة.
و العجب أنّه... لم يكن يجوّز خلافة عبد اللّه ابنه عند موته معتلا بأنّه لم يعرف كيف يطلق امرأته، و من يجهل مثل ذلك لا يصلح للإمامة فكيف يجوّز اتّباعه و إمامته مع جهله مثل هذا الحكم البيّن المنصوص عليه بالكتاب و السنّة. و لا يخفى على المتأمّل الفرق بين الأمرين من وجوه شتّى منها أنّ الطلاق أمر نادر الوقوع، و الصلاة بالتيمّم أكثر وقوعا. و منها أنّ الصلاة أدخل في الدين من النكاح و الطلاق. و منها أنّ بطلان هذا النوع من الطلاق لم يظهر من الكتاب و السنّة ظهور وجوب التيمّم. و منها أنّ فعل ابنه كان في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و بدو نزول الحكم، و إنكاره كان بعد ظهور الإسلام و انتشار الأحكام. و منها أنّ جهل ابنه ارتفع بالتنبيه، و هو قد أصرّ بعد التذكير و الإعلام. و في الفرق وجوه أخر تركناها للمتدبّر. و الحقّ أنّ ادّعاء الجهل منه في مثل تلك المسألة الضروريّة المتكرّرة الوقوع ليس من ادّعاء الشبهة المحتملة، بل يجب الحكم بكفره بمجرّد ذلك الإنكار، و يدلّ على أنّ إنكاره لم يكن للجهل، بل كان ردّا على اللّه سبحانه و تعالى و تقبيحا لحكمه، إنّه لو كان للجهل لسأل غيره من الصحابة حتى يظهر له صدق ما ذكره عمّار أو كذبه، فيحكم بعد ذلك بما كان يظهر له، فإنّ ترك الخوض في تحقيق الحكم مع كون الخطب فيه جليلا لإفضائه إلى ترك الصلاة التي هي أعظم أركان الدين، مع قرب العهد و سهولة تحقيق الحال ليس إلّا تخريبا للشريعة و إفسادا في الدين. و قال بعض الأفاضل يمكن أن يستدلّ به ]عليه[ بوجه أخصّ، و هو أنّه لا خلاف في أنّ من استحلّ ترك الصلاة فهو كافر، و لا ريب في أنّ قوله أمّا أنا فلم أكن أصلّي حتّى أجد الماء، بعد قول الرجل السائل إنّا نكون بالمكان الشهر و الشهرين.. و نهيه السائل عن الصلاة كما في الروايات الأخر استحلال لترك الصلاة مع فقد الماء، و هو داخل في عموم
قوله صلّى اللّه عليه و آله من ترك الصلاة متعمّدا فقد كفر..
و لم يخصّصه أحدا إلّا بالمستحلّ.
تنبيه
اعلم أنّه يظهر من تلك الواقعة ضعف ما يتشبّث به المخالفون في كثير من المواضع من ترك النكير، فإنّ بطلان هذا الحكم و مخالفته للإجماع أمر واضح، و لم ينقل عن أحد من الصحابة إنكار ذلك عليه، و قد قال عمّار بعد تذكيره بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إن شئت لم أحدّث به أحدا.. خوفا من أن يلحقه ضرر بالردّ عليه و الإنكار لفتياه، و لم يكن عمّار في شكّ من روايته حتى يكون تركه الإنكار لفتياه، و لم يكن عمّار في شكّ من روايته حتى يكون تركه الإنكار تصويبا لرأي عمر و تصديقا له، و إذا كان ترك الإنكار في أمر التيمّم مع عدم تعلّق الأغراض الدنيويّة به للخوف أو غير ذلك ممّا لا يدلّ على التصويب، فأمور الخلافة و السلطنة أحرى بأن لا يكون ترك الإنكار فيها حجّة على صوابها.
التاسع
إنّه أمر برجم حامل حتى نبّهه معاذ، و قال إن يكن لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما في بطنها، فرجع عن حكمه، و قال لو لا معاذ لهلك عمر.
و من جهل هذا القدر لا يجوز أن يكون إماما، لأنّه يجري مجرى أصول الشرائع، بل العقل يدلّ عليه، لأنّ الرجم عقوبة، و لا يجوز أن يعاقب من لا يستحقّ. و أجاب عنه قاضي القضاة بأنّه ليس في الخبر أنّه أمر برجمها مع علمه بأنّها حامل، لأنّه ليس ممّن يخفى عليه هذا القدر و هو أنّ الحامل لا ترجم حتى تضع و إنّما ثبت عنده زناها فأمر برجمها على الظاهر، و إنّما قال ما قال في معاذ لأنّه نبّهه على أنّها حامل. قال فإن قيل إذا لم يكن منه معصية فكيف يهلك لو لا معاذ. قلنا لم يرد الهلك من جهة العذاب، و إنّما أراد أن يجري بقوله قتل من لا يستحقّ القتل، كما يقال للرجل هلك من الفقر، و صار سبب القتل خطأ. و يجوز أن يريد بذلك تقصيره في تعرّف حالها، لأنّ ذلك لا يمتنع أن يكون خطيئة و إن صغرت. و أورد عليه السيد المرتضى رضوان اللّه عليه بأنّه لو كان الأمر على ما ظنّه لم يكن تنبيه معاذ على هذا الوجه، بل كان يجب أن ينبّهه بأن يقول هي حامل، و لا يقول له إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها، لأنّ ذلك قول من عنده أنّه يرجمها مع العلم بحالها، و أقلّ ما يجب لو كان الأمر كما ظنّه أن يقول لمعاذ ما ذهب عليّ أنّ الحامل لا ترجم، و إنّما أمرت برجمها لفقد علمي بحملها، فكان ينفي بهذا القول عن نفسه الشبهة. و في إمساكه عنه مع شدّة الحاجة إليه دليل على صحّة قولنا، و قد كان يجب أيضا أن يسأل عن الحمل لأنّه أحد الموانع من الرجم، فإذا علم انتفاؤه أمر بالرجم، و صاحب الكتاب قد اعترف بأنّ ترك المسألة عن ذلك تقصير و خطيئة، و ادّعى أنّهما صغيرة، و من أين له ذلك و لا دليل عنده يدلّ في غير الأنبياء عليهم السلام أنّ معصيته بعينها صغيرة. فأمّا إقراره بالهلاك لو لا تنبيه معاذ.. فهو يقتضي التفخيم و التعظيم لشأن الفعل، و لا يليق ذلك إلّا بالتقصير الواقع، إمّا في الأمر برجمها مع العلم بأنّها حامل، أو ترك البحث عن ذلك و المسألة عنه، و أيّ لوم في أن يجري بقوله قتل من لا يستحقّ القتل إذا لم يكن ذلك عن تفريط و لا تقصير. انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.
و ممّا يؤيّده هذه القصّة، ما رواه الشيخ المفيد رحمه اللّه في الإرشاد أنّه أتي عمر بحامل قد زنت فأمر برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام هب أنّ لك سبيلا عليها، أيّ سبيل لك على ما في بطنها و اللّه تعالى يقول وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. فقال عمر لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن.
و حكى في كشف الغمّة من مناقب الخوارزمي أنّه قال أتي عمر في ولايته بامرأة حاملة فسألها عمر فاعترفت بالفجور، فأمر بها عمر أن ترجم، فلقيها عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال ما بال هذه. فقالوا أمر بها عمر أن ترجم، فردّها عليّ عليه السلام، فقال أمرت بها أن ترجم. فقال نعم، اعترفت عندي بالفجور. فقال هذا سلطانك عليها، فما سلطانك على ما في بطنها. ثم قال له عليّ عليه السلام فلعلّك انتهرتها أو أخفتها. فقال قد كان ذاك. قال أ و ما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لا حدّ على معترف بعد بلاء، إنه من قيّدت أو حبست أو تهدّدت فلا إقرار له. فخلّى عمر سبيلها، ثم قال عجزت النساء أن يلدن مثل عليّ بن أبي طالب )ع(، لو لا عليّ لهلك عمر.
و ستأتي الأخبار في ذلك في باب قضاياه عليه السلام.
العاشر
أنّه أمر برجم المجنونة فنبّه أمير المؤمنين عليه السلام و قال إنّ القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق. فقال لو لا عليّ لهلك عمر.
و هذا يدلّ على أنّه لم يكن يعرف الظاهر من الشريعة. و قد اعترف قاضي القضاة و ابن أبي الحديد و سائر من تصدّى للجواب عنه بصحّته.
و قد حكى في كشف الغمّة من مناقب الخوارزمي مرفوعا عن الحسن، أنّ عمر بن الخطاب أتي بامرأة مجنونة قد زنت، فأراد أن يرجمها، فقال له عليّ عليه السلام يا عمر أ ما سمعت ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قال و ما قال. قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يبرأ، و عن الغلام حتى يدرك، و عن النائم حتى يستيقظ. قال فخلّى عنها.
و حكى في الطرائف، عن أحمد بن حنبل في مسنده، عن الحسن، مثله.
قال و ذكر أحمد في مسنده، عن سعيد بن المسيّب، قال كان يتعوّذ باللّه من معضلة لم يكن لها أبو حسن.
و حكاه العلّامة رحمه اللّه في كشف الحقّ من مسند أحمد. و أجاب عنه قاضي القضاة بأنّه ليس في الخبر أنّه عرف جنونها، فيجوز أن يكون الذي نبّه عليه أمير المؤمنين عليه السلام هو جنونها دون الحكم، لأنّه كان يعلم أنّ الحدّ لا يقام في حال الجنون، و إنّما قال لو لا عليّ لهلك عمر، لا من جهة المعصية و الإثم، لكن من جهة أنّ حكمه لو نفذ لعظم غمّه، و يقال في شدّة الغمّ أنّه هلاك، كما يقال في الفقر و غيره، و ذلك مبالغة منه لما كان يلحقه من الغمّ الذي زال بهذا التنبيه، على أنّ هذا الوجه ممّا لا يمتنع في الشرع أن يكون صحيحا، و أن يقال إذا كانت مستحقّة للحدّ فإقامته عليها صحيحة و إن لم يكن لها عقل، لأنّه لا يخرج الحدّ من أن يكون واقعا موقعه، و يكون قوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة.. يراد به زوال التكليف عنهم دون زوال إجراء الحكم عليهم، و ما هذه حاله لا يمتنع أن يكون مشتبها فيرجع فيه إلى غيره، فلا يكون الخطأ فيه ممّا يعظم فيمنع من صحّة الإمامة. و أورد عليه السيد المرتضى رضوان اللّه عليه بأنّه لو كان أمر برجم المجنونة من غير علم بجنونها لما قال له أمير المؤمنين عليه السلام أ ما علمت أنّ القلم مرفوع عن المجنون حتّى يفيق بل كان يقول له بدلا عن ذلك هي مجنونة، و كان ينبغي أن يكون عمر لمّا سمع من التنبيه له على ما يقتضي الاعتقاد فيه أنّه أمر برجمها مع العلم بجنونها، يقول متبرّئا من الشبهة ما علمت بجنونها، و لست ممّن يذهب عليه أنّ المجنون لا يرجم، فلمّا رأيناه استعظم ما أمر به و قال لو لا عليّ لهلك كعمر.. دلّنا على أنّه كان تأثّم و تحرّج بوقوع الأمر بالرجم، و أنّه ممّا لا يجوز و لا يحلّ، و إلّا فلا معنى لهذا الكلام. و أمّا ما ذكره من الغمّ الذي كان يلحقه.. فأيّ غمّ يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله، و لم يكن منه تفريط و لا تقصير. لأنّه إذا كان جنونها لم يعلم به، و كانت المسألة عن حالها و البحث لا يجبان عليه، فأيّ وجه لتأمّله و توجّعه و استعظامه لما فعله و هل هذا إلّا كرجم المشهود عليه بالزنا في أنّه لو ظهر للإمام بعد ذلك براءة ساحته لم يجب أن يندم على فعله و يستعظمه، لأنّه وقع صوابا مستحقّا. و أمّا قوله إن كان لا يمتنع في الشرع أن يقام الحدّ على المجنون و تأوّله الخبر المرويّ على أنّه يقتضي زوال التكليف دون الأحكام.. فإن أراد أنّه لا يمتنع في العقل أن يقام على المجنون ما هو من جنس الحدّ بغير استخفاف و لا إهانة فذلك صحيح كما يقام على التأديب، و أمّا الحدّ في الحقيقة و هو الذي يضامه الاستخفاف و الإهانة فلا يقام إلّا على المكلّفين و مستحقّي العقاب، و بالجنون قد زال التكليف فزال استحقاق العقاب الذي يتبعه الحدّ. و قوله لا يمتنع أن يرجع فيما هذا حاله من المشتبه إلى غيره.. فليس هذا من المشتبه الغامض، بل يجب أن يعرفه العوام فضلا عن العلماء، على أنّا قد بيّنا أنّه لا يجوز أن يرجع الإمام في جلي و لا مشتبه من أحكام الدين إلى غيره.
و قوله إنّ الخطأ في ذلك لا يعظم فيمنع من صحّة الإمامة.. اقتراح بغير حجّة، لأنّه إذا اعترف بالخطإ فلا سبيل للقطع على أنّه صغير. انتهى كلامه قدّس سرّه. أقول و يرد على ما ذكره من أنّ الأمر في حدّ المجنون مقام الاشتباه فلا طعن في جهل عمر به، و أن يرجع فيه إلى غيره.. أنّه لو كانت الشبهة لعمر ما ذكره، لكانت القصّة دليلا على جهله من وجه آخر، و هو أنّه إذا زعم عمر أنّ رفع القلم إنّما يستلزم زوال التكليف دون إجراء الحكم كما صرّح به كيف يكون تذكير أمير المؤمنين عليه السلام إيّاه بالحديث النبويّ دافعا للشبهة، و إنّما النزاع حينئذ في دلالة الخبر على عدم جواز إجراء الحدّ عليه، فرجوع عمر عند سماعه عمّا زعمه دليل واضح على غاية جهله، فإن ذكر الرواية حينئذ ليس إلّا من قبيل إعادة المدّعى. ثم اعلم أنّ الظاهر من كلام القاضي و غيره في هذا المقام عدم تجويز الخطإ الفاحش على الإمام و إن جوّزوا عليه الخطأ في الاجتهاد، و لعلّهم لم يجوّزوا ذلك لكونه كاشفا عن عدم أهليّة صاحبه للاجتهاد، إذ ليس أهليّة الاجتهاد غالبا ممّا يقوم عليه دليل سوى الآثار الدالّة عليها، و ظاهر أنّ الأوهام الفاضحة كاشفة عن عدم تلك الأهليّة، فهي معارضة لما يستدلّ به عليها، و لذا تشبّث القاضي في مقام الجواب بكون الأمر في رجم المجنونة مشتبها، و استند إلى عدم دلالة
قوله عليه السلام رفع القلم عن المجنون..
على عدم إجراء الحكم، إذ يمكن أن يكون المراد به زوال التكليف فقط، و قد عرفت أنّ ذلك لا يصلح منشأ للاشتباه، لكون الخطأ حينئذ بالانتهاء عند سماع الخبر من دون إقامة دليل على وجه الدلالة فيه أفحش، فظهر أنّه لا يمكنهم الجواب في هذا المقام بأنّه إنّما كان خطأ عمر من قبيل خطإ المجتهد، و ليس يلحقه بذلك ذنب صغيرا و كبيرا، و لذلك طووا كشحا عمّا هو معقلهم الحصين بزعمهم من حديث الاجتهاد، و سلّموا على تقدير علم عمر بجنونها كون الأمر بالرجم خطيئة. فظهر ضعف ما أجاب به شارح المقاصد عن الطعن برجم الحامل و المجنونة و منع المغالاة في الصداق من أنّ الخطأ في مسألة و أكثر لا ينافي الاجتهاد، و لا يقدح في الإمامة، و الاعتراف بالنقصان هضم النفس و دليل على الكمال.. و ذلك لأنّا لو تنزّلنا عن اشتراط العصمة في الإمام و جوّزنا له الاجتهاد في الأحكام، فلا ريب في أنّ الخطأ الفاحش و الغلط الفاضح مانع عن الإمامة، و إنّما لا يقدح على فرض الجواز ما لا يدلّ على الغباوة الكاملة و البلادة البالغة، و عدم استيهال صاحبه لفهم المسائل و استنباط الأحكام و ردّ الفروع إلى الأصول، فإذا تواتر الخبط و ترادفت الزلّة لا سيّما في الأمور الظاهرة و الأحكام الواضحة فهل يبقى مجال للشكّ في منعه عن استيهال الاجتهاد و صلوح الإمامة و ليت شعري، من أين هذا اليقين الكامل و الاعتقاد الجازم لهؤلاء القوم باجتهاد إمامهم و بلوغه في العلم حدّ الكمال، مع ما يرون و يروون في كتبهم من خطبه و خطأه و اعترافه بالزلّة، و العجز موطنا بعد موطن، و مقاما بعد مقام، و قد بذلوا مجهودهم في إظهار فضله فلم يظفروا له على استنباط لطيف و استخراج دقيق في مسألة واحدة يدلّ على جودة قريحته و ذكاء فطرته، و ليس ما رووا عنه إلّا من محاورات العوام و محاضرات الأوغاد و الطغام.
الحادي عشر
ما رواه البخاري و مسلم و غيرهما بعدّة طرق، عن عبيد بن عمير و أبي موسى الأشعري، قال استأذن أبو موسى على عمر فكأنّه وجده مشغولا فرجع، فقال عمر أ لم تسمع صوت عبد اللّه بن قيس، ائذنوا له، فدعي له، فقال ما حملك على ما صنعت. فقال إنّا كنّا نؤمر بهذا. فقال فائتني على هذا ببيّنة أو لأفعلنّ بك، فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا لا يشهد لك إلّا أصاغرنا، فقام أبو سعيد الخدري فقال قد كنّا نؤمر بهذا. فقال عمر خفي عليّ هذا من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، ألهاني الصفق بالأسواق.
و لا خفاء في أنّ ما خفي على عمر من ذلك أمر متكرّر الوقوع من العادة و السنن التي كان يعلمها المعاشرون له صلّى اللّه عليه و آله، فكيف خفي على هذا الرجل الذي يدّعون أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يشاوره في الأمور و يستمدّ بتدبيره، فليس هذا إلّا من فرط غباوته، أو قلّة اعتنائه بأمور الدين، أو إنكاره لأمور الشرع مخالفة لسيّد المرسلين.
الثاني عشر
ما رواه ابن أبي الحديد، عن أبي سعيد الخدري، قال حججنا مع عمر أوّل حجّة حجّها في خلافته، فلمّا دخل المسجد الحرام، دنى من الحجر الأسود فقبّله و استلمه، فقال إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ و لا تنفع، و لو لا أنّي رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ قبّلك و استلمك لما قبّلتك و لا استلمتك. فقال له عليّ عليه السلام بلى يا أمير المؤمنين إنّه ليضرّ و ينفع، و لو علمت تأويل ذلك من كتاب اللّه لعلمت أنّ الذي أقول لك كما أقول، قال اللّه تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى، فلمّا أشهدهم و أقرّوا له بأنّه الربّ عزّ و جلّ و أنّهم العبيد، كتب ميثاقهم في رقّ ثم ألقمه هذا الحجر، و إنّ له ل عَيْنَيْنِ وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ، يشهد بالموافاة، فهو أمين اللّه عزّ و جلّ في هذا المكان. فقال عمر لا أبقاني اللّه بأرض لست بها يا أبا الحسن.
و رواه الغزالي في كتاب إحياء العلوم.
و روى البخاري و مسلم في صحيحهما و لم يذكرا تنبيه أمير المؤمنين عليه السلام إيّاه.
و اعتذر عنه في المنهاج بأنّه إنّما قال ذلك لئلّا يغترّ بعض قريبي العهد بالإسلام الذي قد ألفوا عبادة الأحجار و تعظيمها رجاء نفعها و خوف ضررها. و ما رواه ابن أبي الحديد يبطل هذا الاعتذار، إذ لو كان مراده ذلك لبيّن عذره و لم يقل لا أبقاني اللّه بأرض لست بها، إذ ظاهر أنّ هذا كلام المقرّ بالجهل المعترف بالخطإ، و إنّما حذفوا التتمّة ليتمكّنوا من مثل هذا الاعتذار.
الثالث عشر
أشياء كثيرة و أحكام غزيرة تحيّر فيها و هداه غيره إلى الصواب فيها.. و هذا يدلّ على غاية جهله و عدم استئهاله للإمامة، و سنورد أكثرها في أبواب علم أمير المؤمنين عليه السلام و قضاياه في المجلد التاسع، و بعضها في كتاب القضاء، و كتاب الحدود. و لنورد هاهنا قليلا منها من كتب المخالفين فمنها
ما رواه البخاري في صحيحه، عن أنس، قال كنّا عند عمر، فقال نهانا عن التكلّف.
و قال ابن حجر في شرحه ذكر الحميدي، عن ثابت، عن أنس أنّ عمر قرأ وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا، فقال ما الأبّ. ثم قال ما كلّفنا أو قال ما أمرنا بهذا. ثم قال ابن حجر قلت هو عند الإسماعيليّ من رواية هشام، عن ثابت أنّ رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا، ما الأبّ. فقال عمر نهينا عن التعمّق و التكلّف..
و هذا أولى أن يكمل به الحديث الذي أخرجه البخاري، و أولى منه
ما أخرجه أبو نعيم..، عن أنس، قال كنّا عند عمر و عليه قميص في ظهره أربع رقاع يقرأ وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا، فقال هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ. ثم قال مه نهينا عن التكلّف.
و قد أخرجه عبد بن حميد في تفسيره، عن حمّاد بن سلمة، و قال بعد قوله فما الأبّ ثم قال يا ابن أمّ عمر إنّ هذا هو التكلّف، و ما عليك أن لا تدري ما الأبّ.
و عن عبد الرحمن بن يزيد أنّ رجلا سأل عمر عن فاكِهَةً وَ أَبًّا، فلمّا رآهم عمر يقولون، أقبل عليهم بالدرة.
و من وجه آخر، عن إبراهيم النخعي، قال قرأ أبو بكر الصدّيق وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا، فقيل ما الأبّ. فقيل كذا.. و كذا، فقال أبو بكر إنّ هذا هو التكلّف، أيّ أرض تقلّني و أيّ سماء تظلّني إذا قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم.
و من طريق إبراهيم التميمي نحوه. انتهى مختصر كلام ابن حجر. و قد ظهر ممّا رواه أنّ تفسير »الأبّ« كان عند الشيخين معضلة لم يوفّقا للعلم به مع أنّه يعرفها كلّ، و قولهما إنّ هذا هو التكلّف.. لا يخلوا عن منافرة لقوله تعالى أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها، و في حذف البخاري حكاية الجهل بالأب دلالة على تعصّبه و أنّه لا يذكر في أكثر المواضع ما فيه فضيحة للخلفاء. و منها
ما رواه البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و صاحب جامع الأصول بأسانيدهم، عن المغيرة بن شعبة، قال سئل عمر بن الخطاب عن إملاص المرأة و هي التي تضرب بطنها فيلقى جنينها، فقال أيّكم سمع من النبيّ )ص( فيه شيئا. قال فقلت أنا. قال ما هو. قلت سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ يقول فيه غرّة عبد أو أمة، قال لا تبرح حتّى تجيئني بالمخرج ممّا قلت. فخرجت فوجدت محمد بن سلمة فجئت به فشهد معي أنّه سمع النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ يقول فيه غرّة عبد أو أمة.
هذه رواية البخاري و مسلم، و باقي الروايات على ما أورده في جامع الأصول قريبة منها. و منها
ما رواه في نهج البلاغة أنّه ذكر عند عمر بن الخطاب حليّ الكعبة و كثرته، فقال قوم لو أخذت فجهّزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، و ما تصنع الكعبة بالحليّ. فهمّ عمر بذلك و سأل عنه أمير المؤمنين عليه السلام، فقال إنّ القرآن أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و الأموال الأربعة أموال المسلمين فقسّمها بين الورثة في الفريضة، و الفيء فقسّمه على مستحقّه، و الخمس فوضعه اللّه حيث وضعه، و الصّدقات فجعلها اللّه حيث جعلها، و كان حلّي الكعبة فيها يومئذ فتركه اللّه على حاله، و لم يتركه نسيانا، و لم يخف عليه مكان، فأقرّه حيث أقرّه اللّه و رسوله. فقال عمر لولاك لافتضحنا، و ترك الحليّ بحاله.
و روى البخاري، بإسناده عن أبي وائل، قال جلست مع شيبة على الكرسيّ في الكعبة، فقال لقد جلس هذا المجلس عمر، فقال لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء و لا بيضاء إلّا قسّمته. قلت إنّ صاحبيك لم يفعلا. قال هما المرءان أقتدي بهما.
و روى في جامع الأصول، عن شقيق، قال إنّ شيبة بن عثمان قال له قعد عمر مقعدك الذي أنت فيه. فقال لا أخرج حتى أقسّم مال الكعبة. قلت ما أنت بفاعل. قال بلى، لأفعلنّ. قلت ما أنت بفاعل. قال لم. قلت مضى النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ و أبو بكر و هما أحوج منك إلى المال فلم يخرجاه، فقام و خرج. قال أخرجه أبو داود.
و منها ما رواه ابن أبي الحديد، قال مرّ عمر بشابّ من الأنصار و هو ظمآن فاستسقاه فماص له عسلا، فردّه و لم يشرب، و قال إنّي سمعت اللّه سبحانه يقول أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها. و قال الفتى إنّها و اللّه ليست لك، اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها .. وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا فنحن منهم فشرب، و قال كلّ الناس أفقه من عمر.
أقول لعلّه كان في رجوعه أبين خطأ من ابتدائه، فتدبّر. و الأخبار في ذلك كثيرة في كتبنا و كتبهم لا نطيل الكلام بإيرادها. و سيأتي بعضها في أبواب علم أمير المؤمنين عليه السلام. و من أعجب العجب أنّ أتباعه مع نقلهم تلك الروايات يدّعون تقدّمه في العلم و الفضل، مع أنّه ليس أمرا يمكن أن يدّعى فيه البداهة، و لم يقم دليل من العقل و النقل على أنّه يجب أن يكون عمر من العلماء، و إنّما يعلم علم مثله و جهله بما يؤثر عنه و يظهر من فتاواه و أحكامه و سائر أخباره، و لم يكن عمر في أيّام كفره من المشتغلين بتحصيل العلوم و مدارسة المسائل، بل كان تارة من رعاة الإبل، و تارة حطّابا، و أحيانا مبرطسا و أجيرا لوليد بن المغيرة و نحوه في الأسفار لخدمة الإبل و غيرها، و لم يكن من أحبار اليهود و أساقفة النصارى و علماء المشركين، و في الإسلام أيضا لم يكن من المشتغلين بمدارسة المسائل، و أكثر اشتغاله كان بالبرطسة و الصفق بالأسواق، و قد حصروا مرويّاته مع طول صحبته، و اهتمام أتباعه برواية ما يؤثر عنه في خمسمائة و تسعة و ثلاثين، منها ستة و عشرون من المتّفق عليه، و أربعة و ثلاثون من إفراد البخاري، و أحد و عشرون من إفراد مسلم، و قد رووا عن أبي هريرة في أقلّ من السنتين من الصحبة خمسة آلاف و ثلاثمائة و أربعة و سبعين حديثا، و عن ابن عمر ألفين و ستمائة و ثلاثين، و عن عائشة و أنس قريبا من ذلك، و ليس في مرويّاته مسألة دقيقة يستنبط منها علمه و فضله، و كذلك ما حكي عنه من أخباره و سيره، و لم ينقلوا عنه مناظرة لعالم من علماء الملل و لا لعلماء الإسلام غلب عليهم فيها، بل كتبهم مشحونة بعثراته و زلّاته، و اعترافه بالجهل كما أفصح عنه قول أمير المؤمنين عليه السلام و يكثر العثار و الاعتذار منها.
الرابع عشر
أنّه أبدع في الدين بدعا كثيرة
منها صلاة التراويح
فإنّه كانت بدعة، لما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة، و صلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجمعوا ليلا في شهر رمضان في النافلة، و لا تصلّوا صلاة الضحى، فإنّ قليلا في سنّة خير من كثير في بدعة، ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار.
و قد روي أنّ عمر خرج في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المسجد، فقال ما هذا. فقيل له إنّ الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوّع، فقال بدعة و نعمت البدعة.
و قد روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لّما اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب له إماما يصلّي بهم نافلة شهر رمضان، زجرهم و عرّفهم أنّ ذلك خلاف السنّة، فتركوه و اجتمعوا لأنفسهم و قدّموا بعضهم، فبعث إليهم الحسن عليه السلام، فدخل عليهم المسجد و معه الدرة، فلمّا رأوه تبادروا الأبواب و صاحوا وا عمراه.
هذه الروايات أوردها السيّد رحمه اللّه في الشافي و حاصل الاستدلال أنّ التراويح كانت بدعة جماعتها، بل أصلها، و وضعها و أمر بها عمر و كلّ بدعة حرام، أمّا الأولى فلاعترافه بكونه بدعة كما مرّ. و روى عنه صاحب النهاية و غيره من علمائهم.
و روى البخاري و مسلم في صحيحهما، و صاحب جامع الأصول عن أبي سلمة أنّه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ في رمضان. فقالت ما كان يزيد في رمضان و لا في غيرها على إحدى عشرة ركعة، يصلّي أربعا فلا تسأل عن حسنهنّ و طولهنّ، ثم يصلّي أربعا فلا تسأل عن حسنهنّ و طولهنّ، ثم يصلّي ثلاثا، فقلت يا رسول اللّه أ تنام قبل أن توتر. قال يا عائشة إنّ عينيَّ تنامان و لا ينام قلبي.
و روى مسلم و صاحب الجامع أيضا، عن أبي سلمة، قال أتيت عائشة، فقلت أي أمه أخبريني عن صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[. فقالت كانت صلاته في شهر رمضان و غيره ثلاث عشرة ركعة بالليل، منها ركعتا الفجر.
و رويا روايات أخر قريبة من ذلك.
و روى في جامع الأصول، عن زيد بن ثابت، قال احتجر النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ حجيرة بخصفة أو حصير، قال عفان في المسجد، و قال عبد الأعلى في رمضان، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ يصلّي فيها، قال فتبع إليه رجال و جاءوا يصلّون بصلاته، قال ثم جاءوا إليه فحضروا و أبطأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم و حصبوا الباب، فخرج إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ مغضبا، فقال لهم ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنّه ستكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلّا الصلاة المكتوبة.
أخرجه البخاري و مسلم و أخرج أبو داود و لم يذكر في رمضان.
و في رواية النسائي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ اتّخذ حجرة في المسجد من حصير فصلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ فيها ليالي فاجتمع إليه ناس ثم فقد صوته ليلة فظنّوا أنّه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج فلم يخرج، فلمّا خرج للصبح قال ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتّى خشيت أن يكتب عليكم، و لو كتب عليكم ما قمتم به، فصلّوا أيّها الناس في بيوتكم، فإنّ أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة.
و عن أنس، قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ يصلّي في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه و جاء رجل فقام أيضا حتّى كنّا رهطا، فلمّا أحسّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ أنّا خلفه جعل يتجوّز في الصلاة، ثم دخل رحله فصلّى صلاة لا يصلّيها عندنا، قال قلنا له حين خرج أفطنت بنا الليلة. قال نعم، ذاك الذي حملني على ما صنعت.
و قد ذكر أخبارا كثيرة نحوا ممّا ذكرنا تركناها لقلّة الجدوى في تكرارها. فظهر من بعض أخبارهم أنّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان يزيد في شهر رمضان شيئا من النوافل، و من بعضها أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يرض بإيقاع النافلة جماعة، فإبداع هذا العدد المخصوص في الشريعة و جعلها سنّة أكيدة بدعة لم يأمر بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لم يأت بها، فظهر أنّ قول بعضهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أتى بها ثم تركها من غير نسخ لا مستند له، و لو كانت سنّة مرغوبا فيها و مندوبا إليها، فلم كان يتركه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يخرج إليهم مغضبا، و يقول عليكم بالصلاة في بيوتكم و لا كان يترك صلاته و يهرب منهم، و لا خلاف في أنّ الجماعة في كلّ صلاة تجوز فيها عبادة، و لها فضل عظيم، فلو جازت في هذه الصلاة و في غيرها من النوافل لما أغضبه الاجتماع، و لا كان يأمرهم بالصلاة في بيوتهم في غير المكتوبة. و أمّا التعليل الوارد في رواياتهم المرويّة عن الكذّابين المشهورين فلا يخفى على عاقل أنّه من مفترياتهم، و ليس في أخبار أهل البيت عليهم السلام شيء من ذلك، فإنّ المواظبة على الخير و الاجتماع على الفعل المندوب إليه لا يصير سببا لأن يفرض على الناس، و ليس الربّ تعالى غافلا عن وجوه المصالح حتّى يتفطّن بذلك الاجتماع، و يظهر له الجهة المحسنة لإيجاب الفعل، و كيف أمرهم صلّى اللّه عليه و آله مع ذلك الخوف بأن يصلوها في بيوتهم و لم لم يأمرهم بترك الرواتب خشية الافتراض ثم المناسب لهذا التعليل أن يقول خشيت أن يفرض عليكم الجماعة فيها، لا أن يفرض عليكم صلاة الليل، كما في بعض رواياتهم. و قد ذهبوا إلى أنّ الجماعة مستحبة في بعض النوافل كصلاة العيد و الكسوف و الاستسقاء و الجنازة، و لم يصر الاجتماع فيها سببا للافتراض، و لم ينه عن الجماعة فيها لذلك، فلو صحّت الرواية لكانت محمولة على أنّ المراد النهي عن تكلّف ما لم يأمر اللّه به، و التحذير من أن يوجب عليهم صلاة الليل لارتكاب البدعة في الدين، ففيه دلالة واضحة على قبح فعلهم و أنّه مظنّة العقاب، و إذا كان كذلك فلا يجوز ارتكابه بعد ارتفاع الوحي أيضا. و أمّا أنّ عمر ابتدعها، فلا خلاف فيه و أمّا أنّ كلّ بدعة ضلالة، فقد استفيض في أخبار الخاصّة و العامّة.
فروى مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد اللّه، قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ يقول في خطبته أمّا بعد، فإنّ خير الحديث كتاب اللّه، و خير الهدي هدي محمّد، و شرّ الأمور محدثاتها، و كلّ بدعة ضلالة.
و روى البخاري و مسلم، عنه صلّى اللّه عليه ]و آله[ أنّه قال من رغب عن سنّتي فليس منّي
و رويا أيضا عنه صلّى اللّه عليه ]و آله[، أنّه قال ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه، فو اللّه إنّي لأعلمهم باللّه و أشدّهم له خشية.
و رويا أيضا له، عنه عليه الصلاة و السلام أنّه قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ
و حكى في جامع الأصول، عن الترمذي و أبي داود، عن العرباض ابن سارية إيّاكم و محدثات الأمور، فإنّ كلّ محدثة بدعة، و كلّ بدعة ضلالة
و قال في فتح الباري شرح البخاري قد أخرج أحمد بسند جيّد، عن عصيف بن الحارث، قال.. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم ما أحدث قوم بدعة إلّا رفع من السنّة مثلها.
و أخبارنا في ذلك متواترة، و ما زعمه بعض فقهاء العامّة من انقسام البدعة بالأقسام الخمسة لا وجه له، بل يظهر من عموم النصوص أنّ كلّ ما أحدث في الدين ممّا لم يرد في الشريعة خصوصا أو عموما فهو بدعة محرّمة، فكلّ ما فعل على وجه العبادة و لم يكن مستفادا من دليل شرعيّ عامّ أو خاصّ فهو بدعة و تشريع، سواء كان فعلا مستقلا أو وصفا لعبادة متلقّاة من الشارع، كفعل الواجب على وجه الندب و بالعكس، و إيجاب وصف خاصّ في عبادة مخصوصة، فلو أوجب أحد إيقاع الطواف مثلا جماعة، أو زعمه مستحبّا، أو استحبّ عددا مخصوصا في الصلاة. و بالجملة، كلّ فعل أو وصف في فعل أتى به المكلّف على غير الوجه الذي وردت به الشريعة، و تضمّن تغيير حكم شرعيّ و إن كان بالقصد و النية فلا ريب في أنّه بدعة و ضلالة. و أمّا ما دلّ عليه دليل شرعيّ سواء كان قولا أو فعلا عامّا أو خاصّا فهو من السنّة. و قد ظهر من رواياتهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يصلّ عشرين ركعة يسمّونها التراويح، و إنّما كان يصلّي ثلاث عشرة ركعة، و لم يدلّ شيء من رواياتهم التي ظفرنا بها على استحباب هذا العدد المخصوص فضلا عن الجماعة فيها، و الصلاة و إن كانت خيرا موضوعا يجوز قليلها و كثيرها إلّا أنّ القول باستحباب عدد مخصوص منها في وقت مخصوص على وجه الخصوص بدعة و ضلالة، و لا ريب في أنّ المتّبعون لسنّة عمر يزعمونها على هذا الوجه سنّة وكيدة، بل عزيمة، و يجعلونها من شعائر دينهم. و لو سلّمنا انقسام البدعة بالأقسام الخمسة و تخصيص كونها ضلالة بالبدعة المحرّمة، فلا ريب أنّ هذا ممّا عدّوه من البدع المحرّمة لما عرفت، و الأقسام الأخرى من البدع التي عدوها ليست من هذا القبيل، بل هي ممّا ورد في الشريعة عموما أو خصوصا فلا ينفعهم التقسيم، و اللّه الهادي إلى الصراط المستقيم.
و منها أنّه وضع الخراج على أرض السواد
و لم يعط أرباب الخمس منها خمسهم، و جعلها موقوفة على كافة المسلمين، و قد اعترف بجميع ذلك المخالفون، و قد صرّح بها ابن أبي الحديد و غيره، و كلّ ذلك مخالف للكتاب و السنّة و بدعة في الدين. قال العلّامة رحمه اللّه في كتاب منتهى المطلب أرض السواد هي الأرض المغنومة من الفرس التي فتحها عمر بن الخطاب، و هي سواد العراق، و حده في العرض من منقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية المتّصل بعذيب من أرض العرب، و من تخوم الموصل طولا إلى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقيّ دجلة، فأمّا الغربي الذي يليه البصرة فإسلاميّ مثل شطّ عثمان بن أبي العاص و ما والاها كانت سباخا و مواتا فأحياها ابن أبي العاص و سميت هذه الأرض سوادا، لأنّ الجيش لّما خرجوا من البادية رأوا هذه الأرض و التفاف شجرها فسمّوها السواد لذلك، و هذه الأرض فتحت عنوة، فتحها عمر بن الخطاب ثم بعث إليها بعد فتحه ثلاث أنفس عمّار بن ياسر على صلاتهم أميرا، و ابن مسعود قاضيا و واليا على بيت المال، و عثمان بن حنيف على مساحة الأرض، و فرض لهم في كلّ يوم شاة شطرها مع السواقط لعمّار، و شطرها للآخرين، و مسح عثمان بن حنيف أرض الخراج، و اختلفوا في مبلغها، فقال الساجي اثنان و ثلاثون ألف ألف جريب، و قال أبو عبيدة ستة و ثلاثون ألف ألف جريب، ثم ضرب على كلّ جريب نخل عشرة دراهم، و على الكرم ثمانية دراهم، و على جريب الشجر و الرطبة ستة دراهم، و على الحنطة أربعة دراهم، و على الشعير درهمين، ثم كتب بذلك إلى عمر فأمضاه. و روي أنّ ارتفاعهما كان في عهد عمر مائة و ستين ألف ألف درهم، فلمّا كان زمن الحجّاج رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف درهم، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز رجع إلى ثلاثين ألف ألف درهم في أوّل سنة، و في الثانية بلغ ستين ألف ألف درهم، فقال لو عشت سنة أخرى لرددتها إلى ما كان في أيّام عمر، فمات في تلك السنة، فلمّا أفضي الأمر إلى أمير المؤمنين )ع( أمضى ذلك، لأنّه لم يمكنه أن يخالف و يحكم بما يجب عنده فيه. قال الشيخ رحمه اللّه و الذي يقتضيه المذهب أنّ هذه الأراضي و غيرها من البلاد التي فتحت عنوة يخرج خمسها لأرباب الخمس و أربعة الأخماس الباقية تكون للمسلمين قاطبة، الغانمون و غيرهم سواء في ذلك، و يكون للإمام النظر فيها و يقبلها و يضمنها بما شاء و يأخذ ارتفاعها و يصرفه في مصالح المسلمين و ما ينوبهم من سدّ الثغور و تقوية المجاهدين و بناء القناطر و غير ذلك من المصالح، و ليس للغانمين في هذه الأرضين على وجه التخصيص شيء، بل هم و المسلمون فيه سواء، و لا يصحّ بيع شيء من هذه الأرضين و لا هبته و لا معاوضته و لا تملّكه و لا وقفه و لا رهنه و لا إجارته و لا إرثه، و لا يصحّ أن يبنى دورا و منازل و مساجد و سقايات و لا غير ذلك من أنواع التصرّف الذي يتبع الملك، و متى فعل شيء من ذلك كان التصرّف باطلا و هو باق على الأصل. ثم قال رحمه اللّه و على الرواية التي رواها أصحابنا أنّ كلّ عسكر أو فرقة غزت بغير أمر الإمام فغنمت تكون الغنيمة للإمام خاصّة، تكون هذه الأرضون و غيرها ممّا فتحت بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلّا ما فتح في أيّام أمير المؤمنين عليه السلام إن صحّ شيء من ذلك للإمام خاصّة، و تكون من جملة الأنفال التي له خاصّة لا يشركه فيها غيره. انتهى كلامه رفع اللّه مقامه. أقول
فالبدعة فيه من وجوه
أحدها
منع أرباب الخمس حقّهم، و هو مخالف لصريح آية الخمس و للسنّة أيضا، حيث
ذكر ابن أبي الحديد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قسّم خيبر و صيّرها غنيمة و أخرج خمسها لأهل الخمس.
و كان الباعث على ذلك إضعاف جانب بني هاشم، و الحذر من أن يميل الناس إليهم لنيل الحطام فينتقل إليهم الخلافة فينهدم ما أسّسوه يوم السقيفة و شيّدوه بكتابة الصحيفة.
و ثانيها
منع الغانمين بعض حقوهم من أرض الخراج و جعلها موقوفة على مصالح المسلمين، و هذا إلزامي عليهم لما اعترفوا به من أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قسّم الأرض المفتوحة عنوة بين الغانمين، و به أفتى الشافعي و أنس بن مالك و الزبير و بلال كما ذكره المخالفون و ما ذكروه من أنّه عوّض الغانمين و وقفها فهو دعوى بلا ثبت، بل يظهر من كلام الأكثر خلافه، كما يستفاد من كلام ابن أبي الحديد و غيره.
و ثالثها
أنّ سيرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله في الأراضي المفتوحة عنوة كانت أخذ حصّته عليه السلام من غلّتها دون الدراهم المعيّنة، و سيأتي بعض القول في ذلك في باب العلّة التي لم يغيّر عليه السلام بعض البدع في زمانه.
و منها أنّه زاد الجزية عمّا قرّرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله
و هو حرام على مذهب فقهائهم الأربعة إلّا أحمد في رواية.
و منها تغريب نصر بن الحجّاج و أبي ذويب من غير ذنب من المدينة
فقد روى ابن أبي الحديد في شرح النهج، عن محمد بن سعيد، قال بينا عمر يطوف في بعض سكك المدينة إذا سمع امرأة تهتف من خدرها
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم هل سبيل إلى نصر بن حجّاجإلى فتى ماجد الأعراق مقتبل سهل المحيّا كريم غير ملجاجتنميه أعراق صدق حين تنسبه أخي قداح عن المكروب فيّاجسامي النّواظر من بهر له قدم يضيء صورته في الحالك الدّاجي
فقال ألا لا أرى معي رجلا تهتف به العواتق في خدورهنّ عليّ بنصر بن حجّاج، فأتي به، و إذا هو أحسن الناس وجها و عينا و شعرا، فأمر بشعره فجزّ، فخرجت له وجنتان كأنّهما قمر، فأمره أن يعتم فأعتم، ففتن النساء بعينيه، فقال عمر لا و اللّه لا تساكنني بأرض أنا بها. فقال و لم يا أمير المؤمنين. قال هو ما أقول لك، فسيّره إلى البصرة. و خافت المرأة التي تسمّع عمر منها ما سمع أن يبدر إليها منه شيء، فدسّت إليه أبياتا
قل للأمير الذي يخشى بوادره ما لي و للخمر أو نصر بن حجّاجإنّي بليت أبا حفص بغيرهما شرب الحليب و طرف فاتر ساجيلا تجعل الظنّ حقّا أو تبيّنه إنّ السّبيل سبيل الخائف الراجيما منية قلتها عرضا بضائرة و النّاس من هالك قدما و من ناجيإنّ الهوى رمية التقوى فقيّده حفظي أقرّ بألجام و أسراجي
فبكى عمر، و قال الحمد للّه الذي قيّد الهوى بالتقوى. و كان لنصر أمّ فأتى عليه حين و اشتدّ عليها غيبة ابنها، فتعرّضت لعمر بين الأذان و الإقامة، فقعدت له على الطريق، فلمّا خرج يريد الصلاة هتفت به و قالت يا أمير المؤمنين لأجاثينّك غدا بين يدي اللّه عزّ و جلّ، و لأخاصمنّك إليه، أجلست عاصما و عبد اللّه إلى جانبيك و بيني و بين ابني الفيافي و القفار و المفاوز و الأميال. قال من هذه. قيل أمّ نصر بن الحجّاج. فقال لها يا أمّ نصر إنّ عاصما و عبد اللّه لم يهتف بهما العواتق من وراء الخدور. قال و روى عبد اللّه بن يزيد، قال بينا عمر يعس ذات ليلة إذ انتهى إلى باب مجاف و امرأة تغنّي بشعر
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم هل سبيل إلى نصر بن حجّاج
و ذكر نحو ما مرّ. ثم روى عن الأصمعي.. أنّ نصر بن الحجّاج كتب إلى عمر كتابا هذه صورته لعبد اللّه عمر أمير المؤمنين من نصر بن حجّاج سلام عليك، أمّا بعد، يا أمير المؤمنين
لعمري لئن سيّرتني أو حرمتني لما نلت من عرضي عليك حرامأ إن غنّت الذلفاء يوما بمنية و بعض أمانيّ النّساء غرامظننت بي الظّنّ الّذي ليس بعده بقاء فما لي في النّديّ كلامو أصبحت منفيّا على غير ريبة و قد كان لي بالمكّتين مقامسيمنعني عمّا تظنّ تكرّمي و آباء صدق صالحون كرام
و يمنعها ممّا تمنّت صلاتها و حال لها في دينها و صيامفهاتان حالانا فهل أنت راجع فقد جبّ منّي كاهل و سنام
فقال عمر أما ولي إمارة فلا، و أقطعه أرضا بالبصرة و دارا، فلمّا قتل عمر ركب راحلته و لحق بالمدينة. قال و روى عبد اللّه بن يزيد أنّ عمر خرج ليلة يعس فإذا نسوة يتحدّثن، و إذا هنّ يقلن أيّ فتيان المدينة أصبح. فقالت امرأة منهنّ أبو ذؤيب و اللّه، فلمّا أصبح عمر سأل عنه، فإذا هو من بني سليم، و إذا هو ابن عمّ نصر بن حجّاج، فأتي إليه، فحضر، فإذا هو أجمل الناس و أملحهم، فلمّا نظر إليه قال أنت و اللّه ذئبهنّ و يكرّرها و يردّدها لا و الذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أبدا. فقال يا أمير المؤمنين إن كنت لا بدّ مسيّري فسيّرني حيث سيّرت ابن عمّي نصر بن الحجّاج، فأمر بتسييره إلى البصرة، فأشخص إليها. انتهى ما حكاه ابن أبي الحديد. و قد روى قصّة نصر بن حجّاج جلّ أرباب السير، و ربّما عدّ أحبّاء عمر ذلك من حسن سياسته. و وجه البدعة فيه ظاهر، فإنّ إخراج نصر من المدينة و تغريبه و نفيه عن وطنه بمجرّد أنّ امرأة غنّت بما يدلّ على هواها فيه و رغبتها إليه مخالف لضرورة الدين، لقوله تعالى )وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى(، و لا ريب في أنّ التغريب تعذيب عنيف و عقوبة عظيمة، و لم يجعل اللّه تعالى في دين من الأديان حسن الوجه و لا قبحه منشأ لاستحقاق العذاب لا في الدنيا و لا في الآخرة، و قد كان يمكنه دفع ما زعمه مفسدة من افتتان النساء به بأمر أخفّ من التغريب و إن كان بدعة أيضا، و هو أن يأمره بالحجاب و ستر وجهه عن النساء أو مطلقا حتى لا يفتتن به أحد. ثم ليت شعري ما الفائدة في تسيير نصر إلى البصرة، فهل كانت نساء البصرة أعفّ و أتقى من نساء المدينة، مع أنّها »مهبط إبليس و مغرس الفتنة«. اللّهمّ إلّا أن يقال لما كانت المدينة يومئذ مستقرّ سلطنة عمر كان القاطنون بها أقرب إلى الضلال ممّن نشأ في مغرس الفتنة، و قد حمل أصحابنا على ما يناسب هذا المقام ما روي في فضائل عمر ما لقيك الشيطان قطّ سالكا فجّا إلّا سلك فجّا غير فجّك، و كأنّه المصداق لما قيل
و كنت امرأ من جند إبليس فارتقت بي الحال حتى صار إبليس من جندي
و هذه البدعة من فروع بدعة أخرى له عدّوها من فضائله، قالوا هو أوّل من عسّ في عمله بنفسه، و هي مخالفة للنهي الصريح في قوله تعالى )وَ لا تَجَسَّسُوا...(.
و منها بدعة الطلاق
روى في جامع الأصول، عن طاوس، قال إنّ أبا الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، قال أ ما علمت أنّ الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و أبي بكر و صدرا من إمارة عمر. قال ابن عباس بل كان الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللّه )ص( و أبي بكر و صدرا من إمارة عمر، فلمّا أن رأى الناس قد تتابعوا عليها قال أجيزوهنّ عليهم.
و في رواية مسلم إنّ أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هناتك، أ لم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و أبي بكر واحدة. فقال قد كان ذلك، فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم.
و في رواية عنه أنّ ابن عباس قال كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم.. فأمضاه عليهم.
و في أخرى أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس أ تعلم أنّما كان الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول اللّه )ص( و أبي بكر و ثلاثا من إمارة عمر. فقال ابن عباس نعم
و أخرج أبو داود أيضا، و النسائي هذه الرواية الأخيرة.
انتهى كلام جامع الأصول. و وجه البدعة في جعل الواحدة ثلاثا واضح، و سيأتي تفصيل أحكام تلك المسألة في كتاب الطلاق إن شاء اللّه تعالى.
و منها تحويل المقام عن موضعه
كما ورد في كثير من أخبارنا، و قال ابن أبي الحديد قال المؤرّخون إنّ عمر أوّل من سنّ قيام شهر رمضان في جماعة و كتب به إلى البلدان، و أوّل من ضرب في الخمر ثمانين، و أحرق بيت رويشد الثقفي و كان نبّاذا و أوّل من عسّ في عمله بنفسه، و أوّل من حمل الدّرّة و أدّب بها، و قيل بعده كان درّة عمر أهيب من سيف الحجّاج. و أوّل من قاسم العمّال و شاطرهم أموالهم، و هو الذي هدم مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و زاد فيه، و أدخل دار العباس فيما زاد، و هو الذي أخّر المقام إلى موضعه اليوم و كان ملصقا بالبيت.. إلى آخر ما ذكره. و قد أشار إلى تحويل المقام صاحب الكشّاف، قال إنّ عمر سأل المطلب بن أبي وداعة هل تدري أين كان موضعه الأول. قال نعم، فأراه موضعه اليوم.
و روى ثقة الإسلام في الكافي، بإسناده عن زرارة، قال قلت لأبي جعفر عليه السلام أدركت الحسين صلوات اللّه عليه. قال نعم، أذكر و أنا معه في المسجد الحرام و قد دخل فيه السيل و الناس يقومون على المقام يخرج الخارج يقول قد ذهب به، و يخرج منه الخارج فيقول هو مكانه، قال فقال لي يا فلان ما صنع هؤلاء. فقلت له أصلحك اللّه يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام. فقال ناد إنّ اللّه قد جعله علما لم يكن ليذهب به فاستقرّوا، و كان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت، فلم يزل هناك حتى حوّله أهل الجاهليّة إلى المكان الذي هو فيه اليوم، فلمّا فتح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مكة ردّه إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم عليه السلام، فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب، فسأل الناس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام. فقال رجل أنا، قد كنت أخذت مقداره بنسع فهو عندي، فقال تأتيني به، فأتاه به فقاسه ثم ردّه إلى ذلك المكان.
و منها تغيير الجزية عن النصارى
فقد روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال إنّ بني تغلب من نصارى العرب أنفوا و استنكفوا من قبول الجزية و سألوا عمر أن يعفيهم عن الجزية و يؤدّوا الزكاة مضاعفا، فخشي أن يلحقوا بالروم، فصالحهم على أن صرف ذلك عن رءوسهم و ضاعف عليهم الصدقة فرضوا بذلك.
و قال البغوي في شرح السنّة روي أنّ عمر بن الخطاب رام نصارى العرب على الجزية، فقالوا نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدّي العجم، و لكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الصدقة. فقال عمر هذا فرض اللّه على المسلمين. قالوا فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم على أن ضعّف عليهم الصدقة.
انتهى. فهؤلاء ليسوا بأهل ذمّة لمنع الجزية، و قد جعل اللّه الجزية على أهل الذمّة ليكونوا أذلّاء صاغرين، و ليس في أحد من الزكاة صغار و ذلّ، فكان عليه أن يقاتلهم و يسبي ذراريهم لو أصرّوا على الاستنكاف و الاستكبار.
و منها ما روي أنّ عمر أطلق تزويج قريش في سائر العرب و العجم
و تزويج العرب في سائر العجم، و منع العرب من التزويج في قريش، و منع العجم من التزويج في العرب فأنزل العرب مع قريش، و العجم مع العرب منزلة اليهود و النصارى، إذ أطلق تعالى للمسلمين التزويج في أهل الكتاب، و لم يطلق تزويج أهل الكتاب في المسلمين
و قد زوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب من المقداد بن الأسود الكندي و كان مولى لبني كندة ثم قال أ تعلمون لم زوّجت ضباعة بنت عمّي من المقداد. قالوا لا. قال ليتّضع النكاح فيناله كلّ مسلم، و لتعلموا )إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ(
فهذه سنّة، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من رغب عن سنّتي فليس منّي.
و قيل لأمير المؤمنين عليه السلام أ تزوّج الموالي بالعربيات. فقال تتكافأ دماؤكم و لا تتكافأ فروجكم.
و قال سبحانه )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(، و قال )إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ(.
و منها المسح على الخفّين
كما رواه الشيخ في التهذيب، بإسناده عن رقبة بن مصقلة، قال دخلت على أبي جعفر عليه السلام، فسألته عن أشياء، فقال إنّي أراك ممّن يفتي في مسجد العراق. فقلت نعم. قال فقال لي من أنت. فقلت ابن عمّ لصعصعة. فقال مرحبا بك يا ابن عمّ صعصعة. فقلت له ما تقول في المسح على الخفّين. فقال كان عمر يراه ثلاثا للمسافر و يوما و ليلة للمقيم، و كان أبي لا يراه في سفر و لا حضر، فلمّا خرجت من عنده فقمت على عتبة الباب، فقال لي أقبل يا ابن عمّ صعصعة، فأقبلت عليه، فقال إنّ القوم كانوا يقولون برأيهم فيخطئون و يصيبون، و كان أبي لا يقول برأيه.
و بإسناده، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال سمعته يقول جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و فيهم عليّ عليه السلام، و قال ما تقولون في المسح على الخفّين. فقام المغيرة بن شعبة، فقال رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمسح على الخفّين. فقال عليّ عليه السلام قبل )المائدة( أو بعدها. فقال لا أدري. فقال عليّ عليه السلام سبق الكتاب الخفّين، إنّما أنزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة.
أقول لعلّ الترديد من الراوي، أو لكون ذلك ممّا اختلفوا فيه، فتردّد عليه السلام إلزاما على الفريقين. و مخالفة هذه الرأي للقرآن واضح، فإنّ الخفّ ليس بالرجل الذي أمر اللّه بمسحه، كما أنّ )الكمّ( ليس باليد، و النقاب ليس بالوجه، و لو غسلهما أحد لم يكن آتيا بالمأمور به، كما أشار عليه السلام إليه بقوله سبق الكتاب الخفّين. و قد ورد المنع من المسح على الخفّين في كثير من أخبارهم،
فعن عائشة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من رأى وضوءه على جلد غيره.
و روي عنها، أنّها قالت لأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحبّ إليّ من أن أمسح على خفّي.
و عنها، قالت لأن يقطع رجلاي بالمواسي أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفّين.
و رووا المنع منه، عن أمير المؤمنين عليه السلام و ابن عباس و غيرهما،
و سيأتي بعض القول فيه في محلّه.
و منها نقص تكبير من الصلاة على الجنائز و جعلها أربعا
قال ابن حزم في كتاب المحلّى و احتجّ من منع أكثر من أربع بخبر رويناه من طريق وكيع، عن سفيان الثوري، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، قال جمع عمر بن الخطاب الناس فاستشارهم في التكبير على الجنازة، فقالوا كبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سبعا و خمسا و أربعا، فجمعهم عمر على أربع تكبيرات
و هو خلاف ما فعله رسول اللّه )ص(، كما رواه
مسلم في صحيحه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال كان زيد يكبّر على جنائزنا أربعا، و إنّه كبّر على جنازة خمسا، فسألته، فقال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ يكبّرها.
و رواه في جامع الأصول، عن مسلم و النسائي و أبي داود و الترمذي، و قال و في رواية النسائي أنّ زيد بن أرقم صلّى على جنازة فكبّر عليها خمسا و قال كبّرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[.
و روى ابن شيرويه في الفردوس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ كان يصلّي على الميّت خمس تكبيرات.
فالروايات كما ترى صريحة في أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يكبّر خمس تكبيرات، و ظاهر )كان( الدوام، و لو سلّم أنّه قد كان يكبّر أربعا فلا ريب في جواز الخمس، فالمنع من الزيادة على الأربع من أسوإ البدع.
و منها
ما رواه مالك في الموطإ و حكاه في جامع الأصول، عن ابن المسيّب، قال أبى عمر أن يورث أحدا من الأعاجم إلّا أحدا ولد في العرب. قال و زاد رزين و امرأة جاءت حاملا فولدت في العرب فهو يرثها إن ماتت و ترثه إن مات ميراثه من كتاب اللّه.
انتهى. و مضادة هذا المنع للآيات و الأخبار، بل مخالفته لما علم ضرورة من دين الإسلام من ثبوت التوارث بين المسلمين ممّا لا يريب فيه أحد.
و منها القول بالعول و التعصيب في الميراث
كما سيأتي، و روت الخاصّة و العامّة ذلك بأسانيد جمّة يأتي بعضها، و لنورد هنا خبرا واحدا رواه
الشهيد الثاني رحمه اللّه و غيره عن أبي طالب الأنباري، عن أبي بكر الحافظ، عن علي بن محمد بن الحصين، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن أبي إسحاق، عن الزهري، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، قال دخلت على ابن عباس، فجرى ذكر الفرائض و المواريث، فقال ابن عباس سبحان اللّه العظيم أ ترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفين و ثلثا و ربعا أو قال نصفا و نصفا و ثلثا و هذان النصفان قد ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث فقال له زفر بن أوس البصري يا أبا العباس فمن أوّل من أعال الفرائض. فقال عمر بن الخطاب، لمّا التفت عنده الفرائض و دفع بعضها بعضا، فقال و اللّه ما أدري أيّكم قدّم اللّه و أيّكم أخّر، و ما أجد شيئا هو أوسع إلّا أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص، و أدخل على كلّ ذي حقّ ما دخل عليه من عول الفريضة، و ايم اللّه لو قدّم من قدّم اللّه و أخّر من أخّر اللّه ما عالت فريضة فقال له زفر بن أوس فأيّها قدّم و أيّها أخّر. فقال كلّ فريضة. لم يهبطها اللّه عزّ و جلّ عن فريضة إلّا إلى فريضة، فهذا ما قدّم اللّه. و أمّا ما أخّر فكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلّا ما بقي، فتلك التي أخّر، و أمّا الذي قدّم، فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء، و الزوجة لها الربع فإذا زالت عنه صارت إلى الثمن لا يزيلها عنه شيء، و الأمّ لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس لا يزيلها عنه شيء، فهذه الفرائض التي قدّم اللّه عزّ و جلّ، و أمّا التي أخّر، ففريضة البنات و الأخوات لهنّ النصف و الثلثان، فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لهنّ إلّا ما بقي، فتلك التي أخّر، فإذا اجتمع ما قدّم اللّه تعالى و ما أخّر، بدئ بما قدّم اللّه فأعطي حقّه كاملا، فإن بقي شيء كان لمن أخّر، و إن لم يبق شيء فلا شيء له، فقال له زفر ابن أوس فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر. فقال هبته، و اللّه و كان امرأ مهيبا، قال الزهري و اللّه لو لا أن تقدّم ابن عباس إمام عدل كان أمره على الورع أمضى أمرا و حكم به و أمضاه لما اختلف على ابن عباس اثنان
و منها التثويب
و هو قول الصلاة خير من النوم، في الأذان. فقد
روى في جامع الأصول ممّا رواه عن الموطإ، قال عن مالك أنّه بلغه المؤذّن جاء عمر يؤذّنه لصلاة الصبح فوجده نائما، فقال الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعلهما في الصبح.
و يظهر منها أنّ ما رووه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر بالتثويب من مفترياتهم، و يؤيّده أنّ رواياتهم في الأذان خالية عن التثويب
الخامس عشر
أنّه كان يعطي من بيت المال ما لا يجوز، فأعطى عائشة و حفصة عشرة آلاف درهم في كلّ سنة، و حرم أهل البيت عليهم السلام خمسهم الذي جعله اللّه لهم، و كان عليه ثمانون ألف درهم من بيت المال يوم مات على سبيل القرض، و لم يجز شيء من ذلك، أمّا الأول فلأنّ الفيء و الغنائم و نحو ذلك ليست من الأموال المباحة التي يجوز لكلّ أحد التصرّف فيها كيف شاء، بل هي من حقوق المسلمين يجب صرفه إليهم على الوجه الذي دلّت عليه الشريعة المقدّسة، فالتصرف فيها محظور إلّا على الوجه الذي قام عليه دليل شرعيّ، و تفضيل طائفة في القسمة و إعطاؤها أكثر ممّا جرت السنّة عليه لا يمكن إلّا بمنع من استحقّ بالشرع حقّه، و هو غصب لمال الغير و صرف له في غير أهله، و قد جرت السنّة النبويّة بالاتّفاق على القسم بالتسوية. و أوّل من فضّل قوما في العطاء هو عمر بن الخطاب كما اعترف به ابن أبي الحديد و غيره من علمائهم.
قال ابن أبي الحديد روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال استشار عمر الصحابة بمن يبدأ في القسم و الفريضة، فقالوا ابدأ بنفسك. فقال بل أبدأ بآل رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و ذوي قرابته، فبدأ بالعباس. قال ابن الجوزي و قد وقع الاتّفاق على أنّه لم يفرض لأحد أكثر ممّا فرض له، روي أنّه فرض له خمسة عشر ألفا، و روي أنّه فرض له اثني عشر ألفا، و هو الأصحّ
ثم فرض لزوجات رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ لكلّ واحدة عشرة آلاف، و فضّل عائشة عليهنّ بألفين فأبت، فقال ذلك لفضل منزلتك عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فإذا أخذت فشأنك، و استثنى عن الزوجات جويرية و صفّية و ميمونة ففرض لكلّ واحدة منهنّ ستّة آلاف، فقالت عائشة إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ يعدل بيننا، فعدل عمر بينهنّ و ألحق هؤلاء الثلاث بسائرهنّ، ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا لكلّ واحد خمسة آلاف، و لمن شهدها من الأنصار لكلّ واحد أربعة آلاف. و قد روي أنّه فرض لكلّ واحد ممّن شهد بدرا من المهاجرين أو من الأنصار أو غيرهم من القبائل خمسة آلاف، ثم فرض لمن شهد أحدا و ما بعدها إلى الحديبية أربعة آلاف، ثم فرض لكلّ من شهد المشاهد بعد الحديبية ثلاثة آلاف، ثم فرض لكلّ من شهد المشاهد بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ ألفين و خمسمائة، و ألفين، و ألفا و خمسمائة، و ألفا واحدا.. إلى مائتين.. و هم أهل هجر، و مات عمر على ذلك. قال ابن الجوزي و أدخل عمر في أهل بدر ممّن لم يحضر بدرا أربعة، و هم الحسن و الحسين عليهما السلام و أبو ذرّ و سلمان، ففرض لكلّ واحد منهم خمسة آلاف قال ابن الجوزي فأمّا ما اعتمده في النساء فإنّه جعل نساء أهل بدر على خمسمائة.. خمسمائة، و نساء من بعد بدر إلى الحديبية على أربعمائة.. أربعمائة، و نساء من بعد ذلك على ثلاثمائة.. ثلاثمائة، و جعل نساء أهل القادسية على مائتين، ثم سوّى بين النساء بعد ذلك. انتهى.
و روى البخاري و مسلم و غيرهما بأسانيد عديدة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال للأنصار في مقام التسلية قريبا من وفاته ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض.
و هل يريب عاقل في أنّ هذا القول بعد أن كان يسوّي بين المهاجرين و الأنصار مدّة حياته إخبار بما يكون بعده من التفضيل، و يتضمّن عدم إباحته و عدم رضاه صلّى اللّه عليه و آله به. و يؤيّد حظر التفضيل و مخالفة السنّة في القسمة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أبطل سيرة عمر في ذلك، و ردّ الناس إلى السنّة و القسم بالسويّة، و هو عليه السلام يدور مع الحقّ و يدور الحقّ معه حيثما دار بنصّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله، كما تضافرت به الروايات من طرق المخالف و المؤالف، و مع ذلك احتجّ عليه السلام على المهاجرين و الأنصار لّما كرهوا عدله في القسمة و أنكروه عليه، بمخالفة التفضيل للشريعة، و ألزمهم العدل في القسمة، فلم يردّه عليه أحد منهم، بل أذعنوا له و صدّقوا قوله، ثم فارقه طلحة و الزبير و من يقفو إثرهما رغبة في الدنيا و كراهة للحقّ، كما سيأتي في باب بيعته عليه السلام و غيره. و قد قال ابن أبي الحديد في بعض كلامه فإن قلت إنّ أبا بكر قد قسم بالسويّة، كما قسمه أمير المؤمنين عليه السلام، و لم ينكروا عليه كما أنكروا على أمير المؤمنين عليه السلام. قلت إنّ أبا بكر قسم محتذيا بقسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فلمّا ولي عمر الخلافة و فضّل قوما على قوم ألفوا ذلك و نسوا تلك القسمة الأولى، و طالت أيّام عمر، و أشربت قلوبهم حبّ المال و كثرة العطاء، و أمّا الذين اهتضموا فقنعوا و مرنّوا على القناعة، و لم يخطر لأحد من الفريقين أنّ هذه الحال تنتقض أو تتغيّر بوجه ما، فلمّا ولي عثمان أجرى الأمر على ما كان عمر يجريه، فازداد وثوق العوام بذلك، و من ألف أمرا أشقّ عليه فراقه و تغيير العادة فيه، فلمّا ولي أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يردّ الأمر إلى ما كان في أيّام رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و أبي بكر، و قد نسي ذلك و رفض، و تخلّل بين الزمانين اثنتان و عشرون سنة، فشقّ ذلك عليهم و أكبروه حتى حدث ما حدث من نقض البيعة و مفارقة الطاعة، و للّه أمر هو بالغه.
و قال أمير المؤمنين عليه السلام في بعض احتجاجه على طلحة و الزبير و أمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي و لا وليته هوى منّي، بل وجدت أنا و أنتما ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد فرغ منه فلم أحتج إليكما فيما فرغ اللّه من قسمه، و اللّه أمضى فيه حكمه فليس لكما و اللّه عندي و لا لغيركما في هذا عتبى، أخذ اللّه بقلوبكم و قلوبنا إلى الحقّ و ألهمنا و إيّاكم الصّبر.
و قال ابن أبي الحديد في شرح هذا الكلام قد تكلّم عليه السلام في معنى النفل و العطاء، فقال إنّي عملت بسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ في ذلك، و صدق عليه السلام، فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ سوّى بين الناس في العطاء و هو مذهب أبي بكر. ثم قال إنّ طلحة و الزبير قد نقما عليه الاستبداد و ترك المشاورة، و انتقلا من ذلك إلى الوقيعة فيه بمساواة الناس في قسمة المال، و أثنيا على عمر و حمدا سيرته و صوّبا رأيه، و قالا إنّه كان يفضّل أهل السوابق.. و ضلّلا عليّا فيما رأى، و قالا إنّه أخطأ.. و إنّه خالف سيرة عمر و هي السيرة المحمودة..، و استنجدا عليه بالرؤساء من المسلمين الذين كان عمر يفضّلهم و ينفلهم في القسم على غيرهم، و الناس أبناء الدنيا، و يحبّون المال حبّا جمّا، فتنكّرت على أمير المؤمنين عليه السلام بتنكّرهما قلوب كثيرة، و نغلت عليه نيّات كانت من قلب سليمة. انتهى. و بالجملة، من راجع السير و الأخبار لم يبق له ريب في أنّ سيرة أمير المؤمنين عليه السلام في القسمة هو العدل تأسّيا برسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و اتّباعا لكتابه، و قد احتجّ عليه السلام على المصوّبين لسيرة عمر في تركه العدل بأنّ التفضيل مخالف للسنّة، فلم يقدر أحد على ردّه، و صرّح عليه السلام أنّ التفضيل جور و بذل المال في غير حقّه تبذير و إسراف كما سيأتي.
و روى ابن أبي الحديد، عن هارون بن سعد، قال قال عبد اللّه بن جعفر لعليّ عليه السلام يا أمير المؤمنين لو أمرت لي بمعونة أو نفقة، فو اللّه ما لي نفقة إلّا أن أبيع دابّتي. فقال لا و اللّه، ما أجد لك شيئا إلّا أن تأمر عمّك أن يسرق فيعطيك.
و ذكر ابن أبي الحديد أيضا أنّ عمر أشار على أبي بكر في أيّام خلافته بترك التسوية فلم يقبل، و قال إنّ اللّه لم يفضّل أحدا على أحد، و قال )إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ( و لم يخصّ قوما دون قوم. ثم لم يستند عمر فيما زعمه صوابا إلى شبهة فضلا عن حجّة، و لو أقام حجّة على ما زعمه لحكاه الناصرون له. و قد روى ابن الأثير في الكامل ذلك، إلّا أنّه لم يصرّح بالمشير سترا عليه. و هل يرتاب عاقل في أنّه لو كان إلى جواز التفضيل و مصانعة الرؤساء و الأشراف للمصالح سبيل لما عدل أمير المؤمنين عليه السلام إلى العدل و التسوية، مع ما رءاه عيانا من تفرّق أصحابه عنه لذلك و ميلهم إلى معاوية بقبضه عنهم ما عوّدهم به عمر بن الخطاب كما سيأتي، و لم يكن يختار أمرا يوجب حدوث الفتن و إراقة الدماء، و لما كان يمنع عقيلا صاعا من برّ فيذهب إلى معاوية. فإن قيل فلم كان الحسنان عليهما السلام يقبلان التفضيل، و أبوهما عليه السلام لم رضي بذلك. قلنا إمّا للتقيّة كما مرّ مرارا، أو لأنّ عمر لما حرّمهم حقّهم من الخمس و الفيء و الأنفال فلعلّهما أخذا ما أخذا عوضا من حقوقهم. و يمكن أن يقال لما كان أمير المؤمنين عليه السلام ولي الأمر فلعلّ ما أخذاه صرفه عليه السلام في مصارفه، و كان الأخذ من قبيل الاستنقاذ من الغاصب و الاستخلاص من السارق. ثم من غريب ما ارتكبه عمر من المناقضة في هذه القصّة أنّه نبذ سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وراء ظهره و أعرض عنه رأسا، و فضّل من شاء على غيره، ثم لمّا قالت عائشة إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعدل بيننا، عدل بين الثلاث و بين غيرهنّ سوى عائشة، و قد كان فضّل عائشة بألفين، فكيف كانت سيرة الرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في التسوية بين ثمان من الزوجات حجّة، و لم تكن حجّة في العدل بين التسع، و لا بين المهاجرين و الأنصار و غيرهم. و اعلم أنّ أكثر الفتن الحادثة في الإسلام من فروع هذه البدعة، فإنّه لو استمرّ الناس على ما عوّدهم الرسول من العدل و جرى عليه الأمر في أيّام أبي بكر لما نكث طلحة و الزبير بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، و لم تقم فتنة الجمل، و لم يستقرّ الأمر لمعاوية، و لا تطرّق الفتور إلى اتّباع أمير المؤمنين عليه السلام و أنصاره، و لو كان المنازع له في أوّل خلافته معاوية لدفعه بسهولة و لم ينتقل الأمر إلى بني أميّة، و لم يحدث ما أثمرته تلك الشجرة الملعونة من إراقة الدماء المعصومة، و قتل الحسين عليه السلام، و شيوع سبّ أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر، ثم انتقال الخلافة إلى بني العباس و ما جرى من الظلم و الجور على أهل البيت عليهم السلام و على سائر أهل الإسلام. و قد كان من الدواعي على الفتن و الشرور بدعته الأخرى و هي الشورى، إذ جعل طلحة و الزبير مرشّحين للخلافة نظيرين لأمير المؤمنين عليه السلام، فشقّ عليهما طاعته و الصبر على الأسوة و العدل، و هذا في غاية الوضوح و قد روى ابن عبد ربّه في كتاب العقد على ما حكاه العلّامة رحمه اللّه عنه في كشف الحقّ، قال إنّ معاوية قال لابن الحصين أخبرني ما الذي شتّت أمر المسلمين و جماعتهم و مزّق ملأهم، و خالف بينهم. فقال قتل عثمان. قال ما صنعت شيئا. قال فسير عليّ إليك. قال ما صنعت شيئا. قال ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين. قال فأنا أخبرك،
إنّه لم يشتّت بين المسلمين و لا فرّق أهواءهم إلّا الشورى التي جعلها عمر في ستّة.. ثم فسّر معاوية ذلك، فقال لم يكن من الستّة رجل إلّا رجاها لنفسه، و رجاها لقومه، و تطلّعت إلى ذلك نفوسهم، و لو أنّ عمر استخلف كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف. و قد حكى ابن أبي الحديد أيضا ذلك عن معاوية و قد تمّم إثارة الفتنة بإغواء معاوية و عمرو بن العاص و إطماعهما في الخلافة، و كان معاوية عامله على الشام و عمرو بن العاص أميره و عامله على مصر، فخاف أن يصير الأمر إلى عليّ عليه السلام. فقال لما طعن و علم بأنّه سيموت يا أصحاب محمّد تناصحوا فإن لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان، روى ذلك ابن أبي الحديد ثم حكى عن شيخنا المفيد رحمه اللّه، أنّه قال كان غرض عمر بإلقاء هذه الكلمة إلى الناس أن تصل إلى عمرو بن العاص و معاوية فيتغلّبا على مصر و الشام لو أفضي الأمر إلى عليّ عليه السلام. و بالجملة، جميع ما كان و ما يكون في الإسلام من الشرور إلى يوم النشور إنّما أثمرته شجر فتنته، فغرس أصل الفتن يوم السقيفة، و ربّاها ببدعه من التفضيل في العطاء و وضع الشورى و.. غير ذلك، فهو السهيم في جميع المعاصي و الأجرام، و الحامل لجملة الأوزار و الآثام، كما مرّ في الأخبار الكثيرة. و أمّا الخمس، فالآية صريحة في أنّ لذي القربى فيه حقّا، و إن اختلفوا في قدره و لم ينكر أحد أنّ عمر بن الخطاب لم يعطهم شيئا من أرض السواد و لا من خراجها، و كذلك منع سهمهم من أرض خيبر و من سائر الغنائم و جعل الغنائم من بيت المال و وقف خراجها على مصالح، كما مرّ.
و روى في جامع الأصول من صحيحي أبو داود و النسائي، عن يزيد بن هرمز، قال إنّ نجدة الحروري حين حجّ في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن يراه. فقال له لقربى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ قسمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ لهم، و قد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقّنا، و رددناه عليه، و أبينا أن نقبله.
هذه رواية أبي داود. و في رواية النسائي، قال كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن هو. قال يزيد بن هرمز فأنا كتبت كتاب ابن عباس إلى نجدة، كتب إليه كتبت تسألني عن سهم ذي القربى لمن هو و هو لنا أهل البيت، و قد كان عمر دعانا إلى أن ينكح أيّمنا و يجدي منه عائلنا، و يقضي منه عن غارمنا، فأبينا إلّا أن يسلّمه إلينا، و أبى ذلك فتركنا عليه.
و في رواية أخرى له مثل أبي داود، و فيه و كان الذي عرض عليهم أن يعين ناكحهم، و يقضي عن غارمهم، و يعطي فقيرهم، و أبى أن يزيدهم على ذلك.
انتهى. و هي مع صحّتها عندهم تدلّ على أنّ عمر منع ذوي القربى بعض حقّهم الذي أعطاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يفهم منها أنّ هذا المنع إنّما كان خوفا من قوّة بني هاشم لو وصل إليهم ما فرض اللّه لهم من الخمس فيميل الناس إليهم رغبة في الدنيا فيمكنهم طلب الخلافة، و قد كان خمس الخراج من سواد العراق وحده اثنين و ثلاثين ألف ألف درهم في كلّ سنة على بعض الروايات سوى خمس خيبر و غيرها، و لا ريب أنّ قيمة خمس تلك الأراضي أضعاف أضعاف هذا المبلغ، و كذا خمس الغنائم المنقولة المأخوذة من الفرس و غيرهم مال خطير، فلو أنّهم لم يغصبوا هذا الحقّ بل أدّوا إلى بني هاشم و سائر ذوي القربى حقّهم لم يفتقر أحد منهم أبدا، فوزر ما أصابهم من الفقر و المسكنة في أعناق أبي بكر و عمر و أتباعهما إلى يوم القيامة. و أمّا الفرض، فقد
قال ابن أبي الحديد روى ابن سعد في كتاب الطبقات أنّ عمر خطب فقال إنّ قوما يقولون إنّ هذا المال حلال لعمر، و ليس كما قالوا، لا ها اللّه إذن أنا أخبركم بما استحلّ منه، يحلّ لي منه حلّتان، حلّة في الشتاء و حلّة في القيظ، و ما أحجّ عليه و أعتمر من الظهر، و قوتي و قوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم و لا أفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم.
و روى ابن سعد أيضا، أنّ عمر كان إذا احتاج أتى إلى صاحب بيت المال فاستقرضه، فربّما عسر عليه القضاء فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه، فيحتال له، و ربّما خرج عطاؤه فقضاه. و لقد اشتكى مرّة فوصف له الطبيب العسل، فخرج حتى صعد المنبر و في بيت المال عكّة، فقال إن أذنتم لي فيها أخذتها و إلّا فهي عليّ حرام، فأذنوا له فيها. ثم قال إنّما مثلي و مثلكم كقوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم لينفق عليهم، فهل يحلّ له أن يستأثر منها بشيء. و روى أخبارا أخر أيضا من هذا الباب ظنّا منه أنّها تعينه على دفع الطعن، مع أنّها ممّا يؤيّده، إذ بعضها يدلّ على أنّه كان يرى الأخذ من بيت المال مجّانا حراما و لو كان للضرورة، إلّا أن يأذن ذوو الحقوق في ذلك، فيردّ حينئذ أنّ الاستئذان ممّن حضره حين صعد المنبر في الأكل من العسل لا يغني من جوع، فإنّ الحقّ لم يكن منحصرا في هؤلاء، و لم يكونوا وكلاء لمن غاب عنه حتى يكفيه إذنهم في التناول منه، مع أنّ بيت المال مصرفه مصالح المسلمين و ليس مشتركا بينهم كالميراث و نحوه، فإذا لم يكن للحاضرين حاجة مصحّحة للأخذ منه لم يكن لهم فيه حقّ حتى ينفع إذنهم في الأخذ، و كون أخذ الإمام من المصالح لا سيّما للدواء لا ينفع، فإنّه لو تمّ لدلّ على عدم الحاجة إلى الاستئذان مطلقا، فهذه ]كذا[ الاستئذان دائر بين أن يكون ناقصا غير مفيد و بين أن يكون لغوا لا حاجة إليه، فيدلّ إمّا على الجهل و قلّة المعرفة أو على الشيد و المكر لأخذ قلوب العوام، كما يقال يتورّع من سواقط الأوبار و يجرّ الأحمال مع القطار.
السادس عشر
إنّه كان يتلوّن في الأحكام، حتى روي أنّه قضى في الجدّ بسبعين قضية، و هذا يدلّ على قلّة علمه، و أنّه كان يحكم بمجرّد الظنّ و التخمين و الحدس من غير ثبت و دليل، و مثل هذا لا يليق بإمامة المسلمين و رئاسة الدنيا و الدين.
السابع عشر
أنّه همّ بإحراق بيت فاطمة عليها السلام، و قد كان فيه أمير المؤمنين و فاطمة و الحسنان عليهم السلام، و هدّدهم و آذاهم مع أنّ رفعة شأنهم عند اللّه تعالى و عند رسوله )ص( ممّا لا ينكره أحد من البشر إلّا من أنكر ضوء الشمس و نور القمر، و قد تقدّم القول فيه مستوفى فيما غبر.
الثامن عشر
ما وقع منه في قصّة الشورى، فقد أبدع فيها أمورا كثيرة
منها أنّه خرج عن النصّ و الاختيار جميعا
فإنّه قال قاضي القضاة في المغني قد ثبت عند كلّ من يقول بالاختيار أنّه إذا حصل العقد من واحد برضا أربعة صار إماما، و اختلفوا فيما عدا ذلك، فلا بدّ فيما يصير به إماما من دليل، فما قارنه الإجماع يجب أن يحكم به. و حكى عن شيخه أبي علي، أنّه قال إنّ ما روي عن عمر أنّه قال إن بايع ثلاثة و خالف اثنان فاقتلوا الاثنين.. من أخبار الآحاد، و لا شيء يقتضي صحّته، فلا يجوز أن يطعن به في الإجماع. فكلامهم صريح في أنّ الإمامة بالاختيار ]إنّه[ لا يكون بأقلّ من خمسة، و قد ثبت عن عمر خلافه.
و منها أنّه وصف كلّ واحد منهم بوصف زعم أنّه يمنع من الإمامة
ثم جعل الأمر فيمن له هذه الأوصاف.
و قد روى السيّد في الشافي، عن الواقدي بإسناده عن ابن عباس، قال قال عمر لا أدري ما أصنع بأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و ذلك قبل أن يطعن، فقلت و لم تهتم و أنت تجد من تستخلفه عليهم. قال أ صاحبكم يعني عليّا. قلت نعم و اللّه، هو لها أهل في قرابته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صهره و سابقته و بلائه. قال إنّ فيه بطالة و فكاهة. قلت فأين عن طلحة. قال فابن الزهو و النخوة. قلت عبد الرحمن. قال هو رجل صالح على ضعف فيه. قلت فسعد. قال صاحب مقنب و قتال لا يقوم بقرية لو حمّل أمرها. قلت فالزبير. قال وعقة لقس، مؤمن الرضا كافر الغضب، شحيح، و إنّ هذا الأمر لا يصلح إلّا لقويّ في غير عنف، رفيق في غير ضعف، جواد في غير سرف. قلت فأين أنت عن عثمان. قال لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، و لو فعلها لقتلوه.
قال السيّد رحمه اللّه و قد روي من غير هذا الطريق أنّ عمر قال لأصحاب الشورى روحوا إليّ، فلما نظر إليهم قال قد جاءني كلّ واحد منهم يهزّ عقيرته يرجو أن يكون خليفة، أمّا أنت يا طلحة أ فلست القائل إن قبض النبيّ )ص( أنكح أزواجه من بعده فما جعل اللّه محمّدا بأحقّ ببنات أعمامنا، فأنزل اللّه تعالى فيك )وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً(، و أمّا أنت يا زبير فو اللّه ما لان قلبك يوما و لا ليلة، و ما زلت جلفا جافيا، و أمّا أنت يا عثمان فو اللّه لروثة خير منك، و أمّا أنت يا عبد الرحمن فإنّك رجل عاجز تحبّ قومك جميعا، و أمّا أنت يا سعد فصاحب عصبيّة و فتنة، و أمّا أنت يا عليّ فو اللّه لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم، فقام عليّ عليه السلام مولّيا يخرج، فقال عمر و اللّه إنّي لأعلم مكان الرجل لو و ليتموه أمركم لحملكم على المحجّة البيضاء، قالوا من هو. قال هذا المولّي من بينكم. قالوا فما يمنعك من ذلك. قال ليس إلى ذلك سبيل.
و في خبر آخر رواه البلاذري في تاريخه أنّ عمر لمّا خرج أهل الشورى من عنده، قال إن ولّوها الأجلح سلك بهم الطريق. فقال عبد اللّه بن عمر فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين. قال أكره أن أتحمّلها حيّا و ميّتا.
فوصف كما ترى كلّ واحد من القوم بوصف قبيح يمنع من الإمامة، ثم جعلها في جملتهم حتى كأنّ تلك الأوصاف تزول في حال الاجتماع، و نحن نعلم أنّ الذي ذكره إن كان مانعا من الإمامة في كلّ واحد على الانفراد فهو مانع مع الاجتماع، مع أنّه وصف عليّا عليه السلام بوصف لا يليق به و لا ادّعاه عدوّ قطّ عليه، بل هو معروف بضدّه من الركانة و البعد عن المزاح و الدعابة، و هذا معلوم ضرورة لمن سمع أخباره عليه السلام، و كيف يظنّ به ذلك،
و قد روي عن ابن عباس أنّه قال كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا أطرق هبنا أن نبتدئه بالكلام، و هذا لا يكون إلّا من شدّة التزمّت و التوقّر و ما يخالف الدعابة و الفكاهة.
و منها أنّه قال لا أتحمّلها حيّا و ميّتا..
و هذا إن كان على عدوله عن النصّ على واحد بعينه فهو قول متملّس متخلّص لا يفتات على الناس في آرائهم، ثم نقض هذا بأن نصّ على ستة من بين العالم كلّه، ثم رتّب العدد ترتيبا مخصوصا يئول إلى أنّ اختيار عبد الرحمن هو المقدّم، و أيّ شيء يكون من التحمّل أكبر من هذا و أيّ فرق بين أن يتحمّلها بأن ينصّ على واحد بعينه و بين أن يفعل ما فعله من الحصر و الترتيب.
و منها أنّه أمر بضرب أعناق قوم أقرّ بأنّهم أفضل الأمّة
إن تأخّروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيّام، و معلوم أنّ بذلك لا يستحقّون القتل، لأنّهم إذا كانوا إنّما كلّفوا أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الإمام فربّما طال زمان الاجتهاد و ربّما قصر بحسب ما يعرض فيه من العوارض، فأيّ معنى للأمر بالقتل إذا تجاوز الأيّام الثلاثة. ثم أنّه أمر بقتل من يخالف الأربعة، و من يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن، و كلّ ذلك ممّا لا يستحقّ به القتل و ما تمسّكوا به من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام دخل في الشورى طائعا و بايع غير مكره، فتدلّ رواياتهم على خلاف ذلك، فقد
روى الطبري في تلك القصّة أنّ عبد الرحمن قال يا عليّ لا تجعلنّ على نفسك سبيلا، فإنّي نظرت فشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان، فخرج عليّ عليه السلام و هو يقول سيبلغ الكتاب أجله.
و في رواية الطبري أنّ الناس لّما بايعوا عثمان تلكّأ عليّ عليه السلام، فقال عثمان )فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً(، فرجع عليّ عليه السلام حتى بايعه و هو يقول خدعة
و أيّ خدعة. و روى السيّد رحمه اللّه، عن البلاذري، عن ابن الكلبي، عن أبيه، عن أبي مخنف في إسناد له إنّ عليّا عليه السلام لّما بايع عبد الرحمن عثمان كان قائما فقعد، فقال له عبد الرحمن بايع و إلّا ضربت عنقك، و لم يكن يومئذ مع أحد سيف غيره، فخرج عليّ عليه السلام مغضبا، فلحقه أصحاب الشورى، فقالوا بايع و إلّا جاهدنا، فأقبل معهم يمشي حتى بايع عثمان.
فأيّ رضا هاهنا و أيّ إجماع و كيف يكون مختارا من يهدّد بالقتل و الجهاد. و قد تكلّم في هذا اليوم المقداد و عمّار رضي اللّه عنهما و جماعة في ذلك عرضوا نصرتهم على أمير المؤمنين عليه السلام، فقال و اللّه ما أجد أعوانا عليهم و لا أحبّ أن أعرّضكم لما لا تطيقون. و أمّا دخوله عليه السلام في الشورى فسيأتي ما روي من العلل في ذلك، و أيّ علّة أظهر من أنّهم رووا أنّ عمر أوصى أبا طلحة في خمسين رجلا حاملي سيوفهم على عواتقهم في إحضار القوم و قتلهم لو لم يعيّنوا خليفة في الأيّام المعيّنة. و قال السيّد رضي اللّه عنه بعد إيراد بعض الروايات من طرقهم ممّا يدلّ على عدم رضاه عليه السلام بالشورى و بما ترتّب عليه و هذه الجملة التي أوردناها قليل من كثير في أنّ الخلاف كان واقعا، و الرضا كان مرتفعا، و الأمر إنّما تمّ بالحيلة و المكر و الخداع، و أوّل شيء مكر به عبد الرحمن أنّه ابتدأ فأخرج نفسه عن الأمر ليتمكّن من صرفه إلى من يريد، و ليقال إنّه لو لا إيثاره الحقّ و زهده في الولاية لما أخرج نفسه منها، ثم عرض على أمير المؤمنين عليه السلام ما يعلم أنّه لا يجيب إليه و لا يلزمه الإجابة إليه من السيرة فيهم بسيرة الرجلين، و علم أنّه عليه السلام لا يتمكّن من أن يقول إنّ سيرتهما لا يلزمني، لئلّا ينسب إلى الطعن عليهما، و كيف يلتزم بسيرتهما و كلّ واحد منهما لم يسر بسيرة الآخر، بل اختلفا و تباينا في كثير من الأحكام، هذا بعد أن قال لأهل الشورى و ثقوا لي من أنفسكم بأنّكم ترضون باختياري إذا أخرجت نفسي، فأجابوه على
ما رواه أبو مخنف بإسناده إلى ما عرض عليهم، إلّا أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّه قال انظر.. لعلمه بما يجرّ هذا المكر، حتى أتاهم أبو طلحة فأخبره عبد الرحمن بما عرض و بإجابة القوم إيّاه إلّا عليّا عليه السلام، فأقبل أبو طلحة على عليّ عليه السلام، فقال يا أبا الحسن إنّ أبا محمّد ثقة لك و للمسلمين، فما بالك تخالفه و قد عدل بالأمر عن نفسه، فلن يتحمّل المأثم لغيره فأحلف عليّ عليه السلام عبد الرحمن أن لا يميل إلى هوى، و أن يؤثر الحقّ و يجتهد للأمّة و لا يحابي ذا قرابة، فحلف له.
و هذا غاية ما يتمكّن منه أمير المؤمنين عليه السلام في الحال، لأنّ عبد الرحمن لّما أخرج نفسه من الأمر فظنّت به الجماعة الخير، و فوّضت إليه الاختيار، لم يقدر أمير المؤمنين عليه السلام على أن يخالفهم و ينقض ما اجتمعوا عليه، فكان أكثر ما تمكّن منه أن أحلفه و صرّح بما يخاف من جهته من الميل إلى الهوى و إيثار القرابة غير أنّ ذلك كلّه لم يغن شيئا.
و منها إنّه نسب أمير المؤمنين عليه السلام إلى الفكاهة و البطالة
و ذمّه عموما في ضمن ذمّ جميع الستة، و كان يهتمّ و يبذل جهده في منع أمير المؤمنين عليه السلام عن الخلافة حسدا و بغيا، و يكفي هذا في القدح، و استبعاد ابن أبي الحديد هذا و ادّعاؤه الظنّ بأنّها زيدت في كلامه غريب لاشتمال جلّ رواياتهم عليه، و ليس هذا ببدع منه.
فقد روى ابن أبي الحديد عنه، أنّه قال يا ابن عباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء. قال ابن عباس قلت من هو. قال الأجلح يعني عليّا عليه السلام. قلت و ما يقصد بالرياء. قال يرشّح نفسه بين الناس للخلافة.
و روى عن الشعبي في كتاب الشورى، و عن الجوهري في كتاب السقيفة، عن سهل بن سعد الأنصاري، قال مشيت وراء عليّ بن أبي طالب )ع( حين انصرف من عند عمر، و العباس بن عبد المطلب يمشي في جانبه، فسمعته يقول للعباس ذهبت منّا و اللّه. فقال كيف علمت. قال أ لا تسمعه يقول كونوا في الجانب الذي فيه عبد الرحمن، و سعد لا يخالف عبد الرحمن لأنّه ابن عمّه، و عبد الرحمن نظير عثمان و هو صهره، فإذا اجتمع هؤلاء فلو أنّ الرجلين الباقيين كانا معي لم يغنيا عنّي شيئا، دع إنّي لست أرجوهما و لا أحدهما، و مع ذلك فقد أحبّ عمر أن يعلمنا أنّ لعبد الرحمن عنده فضلا علينا لا، لعمر اللّه ما جعل اللّه ذلك لهم علينا كما لم يجعل لأولاهم على أولانا، أما و اللّه لئن لم يمت عمر لأذكرنّه ما أتى إلينا قديما، و لأعلّمنّه سوء رأيه فينا و ما أتى إلينا حديثا، و لئن مات و ليموتنّ ليجمعنّ هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنّا، و لئن فعلوها ليروني حيث يكرهون، و اللّه ما بي رغبة في السلطان و لا أحبّ الدنيا، و لكن لإظهار العدل، و القيام بالكتاب و السنّة.
و قد ورد في الروايات التصريح بأنّه أراد بهذا التدبير قتل أمير المؤمنين عليه السلام كما سيأتي في أخبار الشورى.
و روى أبو الصلاح رحمه اللّه في كتاب تقريب المعارف، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال ثم إنّ عمر هلك و جعلها شورى و جعلني سادس ستة كسهم الجدّة، و قال اقتلوا الأقلّ، و ما أراد غيري، فكظمت غيظي، و انتظرت أمر ربّي، و ألزقت كلكلي بالأرض.. الخبر.
و روى ابن أبي الحديد في الشرح، و ابن الأثير في الكامل، عن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه.. أنّه قال يوما لابن عباس أ تدري ما منع الناس لكم. قال لا، يا أمير المؤمنين. قال و لكنّي أدري. قال ما هو يا أمير المؤمنين. قال كرهت قريش أن تجمع لكم النبوّة و الخلافة فتجحفوا الناس جحفا، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت، و وفقت فأصابت. فقال ابن عباس أ يميط أمير المؤمنين عنّي غضبه فيسمع. قال قل ما تشاء. قال أمّا قول أمير المؤمنين إنّ قريشا اختارت لأنفسها فأصابت و وفقت.. فإنّ اللّه تعالى يقول )وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ(، و قد علمت يا أمير المؤمنين أنّ اللّه اختار من خلقه لذلك من اختار، فلو أنّ قريشا اختارت لأنفسها حيث اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود و لا محدود. و أمّا قولك إنّهم أبو أن يكون لنا النبوّة و الخلافة.. فإنّ اللّه تعالى وصف قوما بالكراهة، فقال )ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ(، و أمّا قولك إنّا كنّا نجحف.. فلو جحفنا بالخلافة لجحفنا بالقرابة، و لكنّ أخلاقنا مشتقّة من خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم الذي قال اللّه في حقّه )وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(، و قال له )وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(. فقال عمر على رسلك يا ابن عباس، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلّا غشّا في أمر قريش لا يزول، و حقدا عليها لا يحول. فقال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغشّ فإنّ قلوبهم من قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ الذي طهّره اللّه و زكّاه، و هم أهل البيت الذي قال اللّه تعالى فيهم )إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(، و أمّا قولك حقدا.. فكيف لا يحقد من غصب شيئه، و يراه في يد غيره. فقال عمر أمّا أنت يا عبد اللّه فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي. قال و ما هو يا أمير المؤمنين أخبرني به، فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه، و إن يك حقّا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك. فقال بلغني أنّك لا تزال تقول أخذ هذا الأمر حسدا و ظلما. قال أمّا قولك يا أمير المؤمنين حسدا، فقد حسد إبليس آدم، فأخرجه من الجنّة، فنحن بنو آدم المحسودون، و أمّا قولك ظلما، فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحقّ من هو، ثم قال يا أمير المؤمنين، أ لم يحتجّ العرب على العجم بحقّ رسول اللّه )ص( و احتجّت قريش على سائر العرب بحقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فنحن أحقّ برسول اللّه )ص( من سائر قريش. فقال عمر قم الآن فارجع إلى منزلك، فقام فلمّا ولى هتف به عمر أيّها المنصرف إنّي على ما كان منك لراع حقّك. فالتفت ابن عباس، فقال إنّ لي عليك يا أمير المؤمنين و على كلّ المسلمين حقّا برسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[، فمن حفظ فحظّ نفسه حفظ، و من أضاع فحقّ نفسه أضاع، ثم مضى، فقال عمر لجلسائه واها لابن عباس، ما رأيته يحاجّ أحدا قطّ إلّا خصمه.
و روى أيضا ابن أبي الحديد، عن ابن عباس، قال دخلت على عمر في أوّل خلافته و قد ألقي له صاع من تمرة على خصفة فدعاني إلى الأكل، فأكلت تمرة واحدة، و أقبل يأكل حتى أتى عليه، فشرب من جرّة كانت عنده، و استلقى على مرفقة له، و طفق يحمد اللّه.. و يكرّر ذلك، ثم قال من أين جئت يا عبد اللّه. قلت من المسجد. قال كيف خلّفت ابن عمّك، فظننته يعني عبد اللّه بن جعفر، قلت خلّفته يلعب مع أترابه. قال لم أعن ذلك، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت. قلت خلّفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان و يقرأ القرآن. قال يا عبد اللّه عليك دماء البدن إن كتمتنيها، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة. قلت نعم. قال أ يزعم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ نصّ عليه. قلت نعم، و أزيدك سألت أبي عمّا يدّعيه، فقال صدق. فقال عمر لقد كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ في أمره زرؤ من قول لا يثبت حجّة، و لا يقطع عذرا، و لقد كان يزيغ في أمره وقتا ما، و لقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا و حيطة على الإسلام و لا و ربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا، و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ أنّي علمت ما في نفسه، فامسك، و أبى اللّه إلّا إمضاء ما حتم.
قال ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا.
و روى أيضا، أنّه قال عمر لابن عباس يا عبد اللّه أنتم أهل رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و بنو عمّه فما منع قومكم منكم. قال لا أدري و اللّه ما أضمرنا لهم إلّا خيرا، قال اللّهمّ غفرا إنّ قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوّة و الخلافة فتذهبوا في السماء شتحا و بذخا، و لعلّكم تقولون إنّ أبا بكر أوّل من أخّركم، أما إنّه لم يقصد ذلك و لكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم ممّا فعل، و لو لا رأي أبي بكر فيّ لجعل لكم من الأمر نصيبا، و لو فعل ما هنّاكم مع قومكم.. أنّهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جاذره.
و روى أيضا، عن الزبير بن بكّار، عن ابن عباس، أنّه قال عمر في كلام كان بينهما يا ابن عباس إنّ صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به، فليتني أراكم بعدي.
و روى أيضا فيه، عن أبي بكر الأنباري في أماليه أنّ عليّا عليه السلام جلس إلى عمر في المسجد و عنده ناس، فلمّا قام عرض واحد بذكره و نسبه إلى التيه و العجب، فقال عمر حقّ لمثله أن يتيه، و اللّه لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام، و هو بعد أقضى الأمّة و ذو سابقتها و ذو شرفها. فقال له ذلك القائل فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه. قال كرهناه على حداثة السنّ و حبّه بني عبد المطلب.
فقد ظهر من تلك الأخبار أنّ عمر كان يبذل جهده في منع أمير المؤمنين عن الخلافة، مع أنّه كان يعترف مرارا أنّه كان أحقّ بها، و أنّ اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله كانا يرتضيانه لها.
و منها أنّهم رووا أنّه قال بعد ما طعن
لو كان سالم حيّا لم يخالجني فيه شكّ و استخلفته، مع أنّ الخاصّة و العامّة إلّا شذوذا لا يعبأ بهم اتّفقت على أنّ الإمامة لا تكون إلّا في قريش، و تضافرت بذلك الروايات، و
رووا أنّه شهد عمر يوم السقيفة بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال الأئمّة من قريش، و ذلك مناقضة صريحة و مخالفة للنصّ و الاتّفاق.
و أمّا المقدّمة الأولى فروى ابن الأثير في الكامل، عن عمر بن ميمون أنّ عمر بن الخطاب لّما طعن قيل له يا أمير المؤمنين لو استخلفت. قال لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته، و قلت لربّي إن سألني سمعت نبيّك يقول إنّه أمين هذه الأمّة، و لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته و قلت لربّي إن سألني سمعت نبيّك يقول إنّ سالما شديد الحبّ للّه. فقال له رجل أدلّك على عبد اللّه بن عمر. فقال قاتلك اللّه و اللّه ما أردت اللّه بهذا، ويحك كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته، لا أرب لنا في أموركم ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرا، فقد أصبنا منه، و إن كان شرّا فقد صرف عنّا، حسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد و يسأل عن أمر أمّة محمّد صلّى اللّه عليه ]و آله[.
و روى السيّد رضي اللّه عنه في الشافي، و ابن أبي الحديد في شرح النهج، عن الطبري مثله.
و روى السيّد رحمه اللّه، عن أحمد بن محمد البلاذري في كتاب تاريخ الأشراف، عن عفّان بن مسلم، عن حمّاد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع أنّ عمر بن الخطاب كان مستندا إلى ابن عباس و عنده ابن عمر و سعيد ابن زيد، فقال اعلموا أنّي لم أقل في الكلالة شيئا، و لم أستخلف بعدي أحدا، و إنّه من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو حرّ من مال اللّه. فقال سعيد بن زيد أما أنّك لو أشرت إلى رجل من المسلمين ائتمنك الناس. فقال عمر لقد رأيت من أصحابي حرصا سيّئا، و إنّي جاعل هذا الأمر إلى هؤلاء النفر الستّة الذين مات رسول اللّه )ص( و هو عنهم راض. ثم قال لو أدركني أحد الرجلين لجعلت هذا الأمر إليه و لوثقت به، سالم مولى أبي حذيفة، و أبو عبيدة ابن الجرّاح، فقال له رجل يا أمير المؤمنين فأين أنت عن عبد اللّه بن عمر. فقال له قاتلك اللّه ما أردت و اللّه أستخلف رجلا لم يحسن أن يطلّق امرأته. قال عفّان يعني بالرجل الذي أشار إليه بعبد اللّه بن عمر المغيرة بن شعبة. و قد ذكر هذه الرواية قاضي القضاة و لم يطعن فيها.
و أمّا المقدّمة الثانية فقد
روى البخاري و مسلم في صحيحيهما، و صاحب جامع الأصول، عن أبي هريرة، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ قال الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، و كافرهم تبع لكافرهم، الناس معادن، خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقّهوا، تجدون من خير الناس أشدّ كراهيّة لهذا الشأن حتى يقع فيه.
و رووا جميعا، عن ابن عمر، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان.
و روى البخاري، عن معاوية، أنّه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم إنّ هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلّا أكبّه اللّه على وجهه ما أقاموا الدين.
و روى مسلم، عن جابر، أنّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ قال الناس تبع لقريش في الخير و الشرّ.
و روى صاحب جامع الأصول، عن الترمذي بإسناده، عن عمرو بن العاص، قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ يقول قريش ولاة الناس في الخير و الشرّ إلى يوم القيامة.
و قال قاضي القضاة في المغني في بحث أنّ الأئمّة من قريش قد استدلّ شيوخنا على ذلك بما
روي عنه صلّى اللّه عليه ]و آله[ أنّ الأئمّة من قريش.
و روي أيضا أنّه قال هذا الأمر لا يصلح إلّا في هذا الحيّ من قريش.
و قوّوا ذلك بما كان يوم السقيفة من كون ذلك سببا لصرف الأنصار عمّا كانوا عزموا عليه، لأنّهم عند هذه الرواية انصرفوا عن ذلك و تركوا الخوض فيه. و قوّوا ذلك بأنّ أحدا لم ينكره في تلك الحال، فإنّ أبا بكر استشهد في ذلك بالحاضرين، فشهدوا به حتى صار خارجا عن باب خبر الواحد إلى الاستفاضة و قوّوا ذلك بأنّ ما جرى هذا المجرى إذا ذكر في ملإ من الناس و ادّعى عليهم المعرفة فتركهم النكير يدلّ على صحّة الخبر المذكور. و قال شارح المواقف في بحث شروط الإمامة اشترط الأشاعرة و الجبائيان أن يكون الإمام قرشيّا، و منعه الخوارج و بعض المعتزلة. لنا
قوله صلّى اللّه عليه ]و آله[ الأئمّة من قريش.
ثم الصحابة عملوا بمضمون هذا الحديث، فإنّ أبا بكر استدلّ به يوم السقيفة على الأنصار حين نازعوا في الإمامة بمحضر الصحابة فقبلوه و أجمعوا عليه فصار دليلا قطعيّا يفيد اليقين باشتراط القرشيّة. ثم أجاب عن حجّة المخالف. و أجاب قاضي القضاة عن المناقضة بأنّه يحتمل أن يريد عمر أنّه لو كان سالم حيّا لم يتخالجه الشكّ في إدخاله في المشورة و الرأي دون التأهيل للإمامة. و بطلانه واضح، فإنّ الروايات كما عرفت صريحة في الاستخلاف و تفويض الأمر إليه، و لا تحتمل مثل هذا التأويل، كما لا يخفى على المنصف. ثم إنّ قوله في سالم و أبو عبيدة دليل ظاهر على جهله، فإنّ ما رووا عنه من الامتناع عن التعيين و التنصيص معلّلا بقوله ما أردت أن أتحمّلها حيّا و ميّتا، بعد اعترافه بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لو ولي الأمر لحمل الناس على الحقّ، يدلّ على أنّه إنّما عدل عن النصّ احتياطا و خوفا من اللّه تعالى، و حذرا من أن يسأل يوم القيامة عمّا يفعله من استخلفه، فلذلك ترك الاستخلاف و جعل الأمر شورى ليكون أعذر عند اللّه تعالى، و مع ذلك تمنّى أن يكون سالم حيّا حتى يستخلفه و ينصّ عليه، و لم يخف من السؤال عن استخلافه، و ظنّ أنّ ما سمعه ابن عمّه في سالم أنّه شديد الحبّ للّه تعالى، حجّة قاطعة على استحقاقه للخلافة، مع أنّ شدّة الحبّ للّه ليس أمرا مستجمعا لشرائط الإمامة، و لا يستلزم القدرة على تحمّل أعباء الخلافة، و شدّة الحبّ للّه لها مراتب شتّى، فكيف يستدلّ بالخبر على أنّها بلغت حدّا يمنع صاحبها عن ارتكاب المنكرات أصلا، و لو كان مثل ذلك قاطعا للعذر كيف لم يكن وصف أمير المؤمنين عليه السلام في خبر الطير بأنّه أحبّ الخلق إلى اللّه تعالى.. حجّة تامّة، مع أنّ المحبوبيّة إلى اللّه أبلغ من الحبّ للّه، و شدّة الحبّ لا يستلزم الفضل على جميع الخلق، فلم لم يصرّح باسم أمير المؤمنين عليه السلام ليعتذر يوم القيامة بهذا الخبر و سائر النصوص المتواترة و الآيات المتظافرة الدالّة على فضله و إمامته و كرامته. و لنعم ما قال أبو الصلاح في كتاب تقريب المعارف إنّ ذلك تحقيق لما ترويه الشيعة من تقدّم المعاهدة بينه و بين صاحبه و أبي عبيدة و سالم مولى أبي حذيفة على نزع هذا الأمر من بني هاشم لو قد مات محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لو لا ذلك لم يكن لتمنّيه سالما و إخباره عن فقد الشكّ فيه مع حضور وجوه الصحابة و أهل السوابق و الفضائل و الذرائع التي ليس لسالم منها شيء وجه يعقل، و كذا القول في تمنّيه أبا عبيدة بن الجرّاح. انتهى. و بالجملة، صدر عنه في الشورى ما أبدى الضغائن الكامنة في صدره، و بذلك أسّس أساسا للفتنة و الظلم و العدوان على جميع الأنام إلى يوم القيام.
قال ابن أبي الحديد حدّثني جعفر بن مكّي الحاجب، قال سألت محمد بن سليمان حاجب الحجّاب. قال ابن أبي الحديد و قد رأيت أنا محمدا هذا، و كانت لي به معرفة غير مستحكمة، و كان ظريفا أديبا، و قد اشتغل بالرياضيات من الفلسفة، و لم يكن يتعصّب لمذهب بعينه، قال جعفر سألته عمّا عنده في أمر عليّ )ع( و عثمان. فقال هذه عداوة قديمة بين بني عبد شمس و بين بني هاشم.. و ساق الكلام إلى قوله و أمّا السبب الثاني في الاختلاف في أمر الإمامة فهو أنّ عمر جعل الأمر شورى بين الستّة و لم ينصّ على واحد بعينه، إمّا منهم أو من غيرهم، فبقي في نفس كلّ واحد منهم أنّه قد رشّح للخلافة، و أنّه أهل للملك و السلطنة، فلم يزل ذلك في نفوسهم و أذهانهم مصوّرا بين أعينهم مرتسما في خيالاتهم، منازعة إليه نفوسهم، طامحة نحوه عيونهم، حتى كان من الشقاق بين عليّ )ع( و عثمان ما كان، و حتى أفضي الأمر إلى قتل عثمان، و كان أعظم الأسباب في قتله طلحة، و كان لا يشكّ في أنّ الأمر له بعده لوجوه، منها سابقته، و منها أنّه كان ابن عمّ أبي بكر، و كان لأبي بكر في نفوس أهل ذلك العصر منزلة عظيمة أعظم منها الآن، و منها أنّه كان سمحا جوادا، و قد كان نازع عمر في حياة أبي بكر، و أحبّ أن يفوّض أبو بكر الأمر إليه فما زال يفتل في الذّروة و الغارب في أمر عثمان، و ينكّر له القلوب، و يكدّر عليه النفوس، و يغري أهل المدينة و الأعراب و أهل الأمصار به، و ساعده الزبير، و كان أيضا يرجو الأمر لنفسه، و لم يكن رجاؤهما الأمر بدون رجاء عليّ )ع(، بل رجاؤهما كان أقوى، لأنّ عليّا )ع( دحضه الأوّلان و أسقطاه و كسرا ناموسه بين الناس، و صار نسيا منسيّا، و مات الأكثر ممّن كان يعرف خصائصه التي كانت له في أيّام النبوّة و فضله، و نشأ قوم لا يعرفونه و لا يرونه إلّا رجلا من عرض المسلمين، و لم يبق له من فضائله إلّا أنّه ابن عمّ الرسول صلّى اللّه عليه ]و آله[ و زوج ابنته و أبو سبطيه، و نسي ما وراء ذلك، و اتّفق له من بغض قريش و انحرافها ما لم يتّفق لأحد، و كانت قريش تحبّ طلحة و الزبير، لأنّ الأسباب الموجبة لبغضهم لم تكن موجودة فيهما، و كانا يتألّفان قريشا في أواخر أيّام عثمان، و يعدانهم بالعطاء و الإفضال، و هما عند أنفسهما و عند الناس خليفتان بالقوّة لا بالفعل، لأنّ عمر نصّ عليهما و ارتضاهما للخلافة، و عمر كان متّبع القول، مرضيّ الفعال، مطاعا نافذ الحكم في حياته و مماته، فلمّا قتل عثمان، أرادها طلحة و حرص عليها، فلو لا الأشتر و قوم معه من شجعان العرب جعلوها في عليّ )ع( لم تصل إليه أبدا، فلمّا فاتت طلحة و الزبير، فتقا ذلك الفتق العظيم، و أخرجا أمّ المؤمنين معهما، و قصدا العراق و أثارا الفتنة، و كان من حرب الجمل ما قد علم و عرف، ثم كان حرب الجمل مقدّمة و تمهيدا لحرب صفّين، فإنّ معاوية لم يكن ليفعل ما فعل لو لا طمعه بما جرى في البصرة، ثم أوهم أهل الشام أنّ عليّا )ع( قد فسق بمحاربة أمّ المؤمنين، و محاربة المسلمين، و أنّه قتل طلحة و الزبير و هما من أهل الجنّة، و من يقتل مؤمنا من أهل الجنّة فهو من أهل النار، فهل كان الفساد المتولّد في صفّين إلّا فرعا للفساد الكائن يوم الجمل ثم نشأ من فساد صفّين و ضلال معاوية كلّ ما جرى من الفساد و القبيح في أيّام بني أميّة، و نشأت فتنة ابن الزبير فرعا من يوم الدار، لأنّ عبد اللّه كان يقول إنّ عثمان لما أيقن بالقتل نصّ عليّ بالخلافة، و لي بذلك شهود، منهم مروان بن الحكم، أ فلا ترى كيف تسلسلت هذه الأمور فرعا على أصل، و غصنا من شجرة، و جذوة من ضرام و هكذا يدور بعضه على بعض و كلّه من الشورى في الستّة. قال و أعجب من ذلك قول عمر و قد قيل له إنّك استعملت
سعيد بن العاص و معاوية و فلانا و فلانا من المؤلّفة قلوبهم و من الطّلقاء و أبناء الطلقاء و تركت أن تستعمل عليّا و العباس و الزبير و طلحة فقال فأمّا عليّ فأتيه من ذلك، و أمّا هؤلاء النفر من قريش، فإنّي أخاف أن ينتشروا في البلاد، فيكثروا فيها الفساد، فمن يخاف من تأميرهم لئلّا يطمعوا في الملك، و يدّعيه كلّ واحد منهم لنفسه، كيف لم يخف من جعلهم ستّة متساوين في الشورى، مرشّحين للخلافة و هل شيء أقرب إلى الفساد من هذا و قد رووا أنّ الرشيد رأى يوما محمّدا و عبد اللّه ابنيه يلعبان و يضحكان، فسّر بذلك، فلمّا غابا عن عينه بكى، فقال له الفضل بن الربيع ما يبكيك يا أمير المؤمنين، و هذا مقام جذل لا مقام حزن. فقال أ ما رأيت لعبهما و مودّة بينهما، أما و اللّه ليتبدلنّ ذلك بغضا و سيفا، و ليختلسن كلّ واحد منهما نفس صاحبه عن قريب، فإنّ الملك عقيم، و كان الرشيد قد عقد الأمر لهما على ترتيب، هذا بعد هذا، فكيف من لم يرتّبوا في الخلافة، بل جعلوا فيها كأسنان المشط فقلت أنا لجعفر هذا كلّه تحكيه عن محمد بن سليمان، فما تقول أنت، فقال
إذا قالت حذام فصدّقوها فإنّ القول ما قالت حذام
انتهى فقد ظهر أنّ جميع الفتن الواقعة في الإسلام من فروع الشورى و السقيفة و سائر ما أبدعه و أسّسه هذا و أخوه. بيان قوله عليه السلام يهر عقيرته.. الهرير الصّوت و النباح. و العقيرة كفعيلة أيضا الصّوت.. أي يرفع صوته. و في بعض النسخ بالزاي. و عفيرته بالفاء على التصغير و العفرة بياض الإبط، و لعلّ المعنى يحرّك منكبيه للخيلاء، و الأول أظهر. قال الجوهري العقيرة السّاق المقطوعة، و قولهم رفع فلان عقيرته.. أي صوته، و أصله أنّ رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها و وضعها على الأخرى و صرخ، فقيل بعد لكلّ رافع صوته قد رفع عقيرته.
التاسع عشر
أنّه أوصى بدفنه في بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كذلك تصدّى لدفن أبي بكر هناك، و هو تصرّف في ملك الغير من غير جهة شرعيّة، و قد نهى اللّه الناس عن دخول بيته صلّى اللّه عليه و آله من غير إذن بقوله )لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ(، و ضربوا المعاول عند أذنه صلّى اللّه عليه و آله، قال تعالى )لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ(. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حرمة المسلم ميّتا كحرمته حيّا و تفصيل القول في ذلك، أنّه ليس يخلو موضع قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أن يكون باقيا على ملكه أو يكون انتقل في حياته إلى عائشة كما ادّعاه بعضهم فإن كان الأول لم يخل من أن يكون ميراثا بعده أو صدقة، فإن كان ميراثا فما كان يحلّ لأبي بكر و عمر من بعده أن يأمرا بدفنهما فيه إلّا بعد إرضاء الورثة، و لم نجد أحدا خاطب أحدا من الورثة على ابتياع هذا المكان و لا استنزله عنه بثمن و لا غيره، و إن كان صدقة فقد كان يجب أن يرضى عنه جماعة المسلمين، و ابتياعه منهم إن جاز الابتياع لما يجري هذا المجرى، و إن كان نقل في حياته فقد كان يجب أن يظهر سبب انتقاله و الحجّة فيه، فإنّ فاطمة عليها السلام لم يقنع منها في انتقال فدك إلى ملكها بقولها و لا شهادة من شهد لها. و أمّا استدلال بعضهم بإضافة البيوت إليهنّ في قوله تعالى )وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ..( فمن ضعيف الشبهة، إذ هي لا تقتضي الملك و إنّما تقتضي السكنى، و العادة في استعمال هذه اللفظة فيما ذكرناه ظاهرة، قال اللّه تعالى )لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ( و لم يرد تعالى إلّا حيث يسكنّ و ينزلن دون حيث يملكن بلا شبهة، و أيضا قوله تعالى )لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ( متأخّر في الترتيب عن قوله )وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ(، فلو كان هذا دالا على ملكيّة الزوجات لكان ذلك دالا على كونها ملكه صلّى اللّه عليه و آله، و الجمع بين الآيتين بالانتقال لا يجديهم، لتأخّر النهي عن الدخول من غير إذن عن الآية الأخرى في الترتيب، و الترتيب حجّة عند كلّهم أو جلّهم، مع أنّه ظاهر أنّ البيوت كانت في يده صلّى اللّه عليه و آله يتصرّف فيها كيف يشاء، و اختصاص كلّ من الزوجات بحجرة لا يدلّ على كونها ملكا لها. و أمّا اعتذارهم بأنّ عمر استأذن عائشة في ذلك، حيث
روى البخاري، عن عمرو بن ميمون في خبر طويل يشمل على قصّة قتل عمر قال قال لابنه عبد اللّه انطلق إلى عائشة أمّ المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر السلام، و لا تقل أمير المؤمنين، فإنّي لست اليوم للمؤمنين أميرا، و قل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه،.. فسلّم و استأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام و يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت كنت أريده لنفسي و لأوثرنّ به اليوم على نفسي، فلمّا أقبل قيل هذا عبد اللّه ابن عمر قد جاء، قال ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال ما لديك. فقال الذي تحبّ يا أمير المؤمنين، أذنت. قال الحمد للّه، ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك. قال فإذا أنا قبضت فاحملوني، ثم سلّم فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني و إن ردّتني ردّوني إلى مقابر المسلمين...
فهذا دليل واضح على جهله أو تسويله و تمويهه على العوام، لما قد عرفت من أنّه إن كان صدقة يشترك فيه المستحقّون كما يدلّ عليه الخبر الذي افتراه أبو بكر فتحريم التصرّف فيه بالدفن و نحوه واضح، و إن كان ميراثا فالتصرّف فيه قبل القسمة من دون استئذان جميع الورثة أيضا محرّم، و لا ينفع طلب الإذن من عائشة وحدها . و من أعجب العجب أنّ الجهّال من المخالفين بل علماؤهم يعدّون هذا الدفن من مناقبهما و فضائلهما، بل يستدلّون به على استحقاقهما للإمامة و الخلافة.
و قد روى الشيخ المفيد قدّس اللّه روحه في مجالسه أنّ فضّال بن الحسن بن فضّال الكوفي مرّ بأبي حنيفة و هو في جمع كثير يملي عليهم شيئا من فقهه و حديثه، فقال لصاحب كان معه و اللّه لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة.. فدنا منه فسلّم عليه، فردّ و ردّ القوم بأجمعهم السلام عليه، فقال يا أبا حنيفة رحمك اللّه إنّ لي أخا يقول إنّ خير الناس بعد رسول اللّه )ص( عليّ بن أبي طالب )عليه السلام( و أنا أقول إنّ أبا بكر خير الناس و بعده عمر، فما تقول أنت رحمك اللّه. فأطرق مليّا ثم رفع رأسه، فقال كفى بمكانهما من رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ كرما و فخرا، أ ما علمت أنّهما ضجيعاه في قبره، فأيّ حجّة أوضح لك من هذه. فقال له فضّال إنّي قد قلت ذلك لأخي، فقال و اللّه لئن كان الموضع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حقّ، و إن كان الموضع لهما فوهباه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد أساءا و ما أحسنا إذ رجعا في هبتهما و نكثا عهدهما، فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال له لم يكن له و لا لهما خاصّة، و لكنّهما نظرا في حقّ عائشة و حفصة فاستحقّا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما، فقال فضّال قد قلت له ذلك، فقال أنت تعلم أنّ النبيّ )ص( مات عن تسع نساء، و نظرنا فإذا لكلّ واحدة منهنّ تسع الثمن، ثم أنظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر، فكيف يستحقّ الرجلان أكثر من ذلك، و بعد فما بال عائشة و حفصة ترثان رسول اللّه )ص( و فاطمة عليها السلام ابنته تمنع الميراث. فقال أبو حنيفة يا قوم نحّوه عنّي، فإنّه و اللّه رافضيّ خبيث.
انتهى. ثم على تقدير جواز دفنهما هناك فلا دلالة له على فضلهما بمعنى زيادة الثواب و الكرامة عند اللّه تعالى، فإنّ ذلك إنّما يكون بالصالحات من الأعمال كما قال اللّه تعالى )إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ(. نعم لو كان ذلك بوصيّة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لكان كاشفا عن فضل و دليلا على شرف، و ما
روي من أنّه يلحق الميّت نفع في الآخرة بالدفن في المشاهد المشرّفة
فإنّما هو في الحقيقة إكرام لصاحب المشهد بالتفضّل على من حلّ بساحته و فاز بجواره إن كان من شيعته و المخلصين له.