مع، ع ماجيلويه، عن عمّه، عن البرقي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال و اللَّه لقد تقمّصها أخو تيم و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير، فسدلت دونها ثوبا، و طويت عنها كشحا، و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصغير، و يهرم فيها الكبير، و يكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه، فرأيت أنّ الصبر على هاتى أحجى، فصبرت و في القلب قذا، و في الحلق شجا، أرى تراثي نهبا، حتّى إذا مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده، عقدها لأخي عدي بعده، فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها الآخر بعد وفاته، فصيّرها و اللَّه في حوزة خشناء، يخشن مسّها، و يغلظ كلمها، و يكثر العثار فيها و الاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن عنف بها حرن و إن أسلس بها غسق، فمني الناس لعمر اللَّه بخبط و شماس، و تلوّن و اعتراض، و بلوى و هو مع هن و هني، فصبرت على طول المدّة و شدّة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي منهم، فيا للَّه و للشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر فمال رجل بضبعه، و أصغى آخر لصهره، و قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نشيله و معتلفه، و قاموا معه بني أبيه يخضمون مال اللَّه خضم الإبل نبت الربيع، حتّى أجهز عليه عمله، و كسبت به مطيّته، فما راعني إلّا و الناس إليّ كعرف الضبع قد انثالوا عليّ من كلّ جانب، حتّى لقد وطئ الحسنان، و شقّ عطفاي، حتّى إذا نهضت بالأمر نكثت طائفة، و فسقت أخرى، و مرق آخرون، كأنّهم لم يسمعوا اللَّه تبارك و تعالى يقول تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، بلى و اللَّه لقد سمعوها و وعوها لكن احلولت الدنيا في أعينهم، و راقهم زبرجها، و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر، و ما أخذ اللَّه على العلماء أن لا يقرّوا على كظة ظالم و لا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، و لسقيت آخرها بكأس أوّلها، و لألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من خبقة عنز.. و ناوله رجل من أهل السواد كتابا فقطع كلامه و تناول الكتاب، فقلت يا أمير المؤمنين لو اطردت مقالتك إلى حيث بلغت فقال هيهات هيهات يا ابن عباس، تلك شقشقة هدرت ثم قرّت.. فما أسفت على كلام قط كأسفي على كلام أمير المؤمنين عليه السلام إذ لم يبلغ حيث أراد.
قال الصدوق نوّر اللَّه ضريحه سألت الحسين بن عبد اللَّه بن سعيد العسكري عن تفسير هذا الخبر ففسّره لي قال تفسير الخبر قوله عليه السلام لقد تقمّصها.. أي لبسها مثل القميص، يقال تقمّص الرجل و تدرّع و تردّى و تمندل. و قوله محل القطب من الرحى.. أي تدور عليّ كما تدور الرحى على قطبها. قوله عليه السلام ينحدر عنه السيل و لا يرتقي إليه الطير.. يريد أنّها ممتنعة على غيري و لا يتمكّن منها و لا تصلح له. و قوله فسدلت دونها ثوبا.. أي أعرضت عنها و لم أكشف وجوبها لي، و الكشح الجنب و الخاصرة. فمعنى قوله طويت عنها كشحا.. أي أعرضت عنها، و الكاشح الذي يوليك كشحه.. أي جنبه. و قوله طفقت.. أي أقبلت و أخذت أرتئي.. أي أفكّر و أستعمل الرأي و أنظر في أن أصول بيد جذاء و هي المقطوعة و أراد قلّة الناصر. و قوله أو أصبر على طخية.. فللطخية موضعان فأحدهما الظلمة، و الآخر الغمّ و الحزن، يقال أجد على قلبي طخاء.. أي حزنا و غمّا، و هو هاهنا يجمع الظلمة و الغمّ و الحزن. و قوله يكدح مؤمن.. أي يدأب و يكسب لنفسه و لا يعطى حقّه. و قوله أحجى.. أي أولى، يقال هذا أحجى من هذا و أخلق و أحرى و أوجب كلّه قريب المعنى. و قوله في حوزة.. أي في ناحية، يقال حزت الشيء أحوزه حوزا إذا جمعته، و الحوزة ناحية الدار و غيرها. و قوله كراكب الصعبة.. يعني الناقة التي لم ترض. إن عنف بها، العنف ضدّ الرفق. و قوله حرن.. أي وقف فلم يمش، و إنّما يستعمل الحران في الدواب، فأمّا في الإبل فيقال خلات الناقة و بها خلاء، و هو مثل حران الدواب، إلّا أنّ العرب ربّما تستعيره في الإبل. و قوله و إن أسلس بها غسق.. أي أدخله في الظلمة. و قوله مع هن و هني.. يعني الأدنياء من الناس، تقول العرب فلان هني و هو تصغير هن.. أي هو دون من الناس.. و يريدون بذلك تصغير أموره. و قوله فمال رجل بضبعه.. و يروى بضلعه، و هما قريب، و هو أن يميل بهواه و نفسه إلى الرجل بعينه. و قوله و أصغى آخر لصهره.. فالصغو الميل، يقال صغوك مع فلان أي.. ميلك معه. و قوله نافجا حضينه.. يقال في الطعام و الشراب و ما أشبههما قد انتفج بطنه بالجيم، و يقال في كلّ داء يعتري الإنسان قد انتفخ بطنه بالخاء، و الحضنان جانبا الصدر. و قوله بين ثيله و معتلفه.. فالثيل قضيب الجمل و إنّما استعاره للرجل هاهنا، و المعتلف الموضع الذي يعتلف فيه.. أي يأكل، و معنى الكلام بين مطعمه و منكحه. و قوله يخضمون.. أي يكثرون و ينقضون، و منه قوله خضمني الطعام.. أي نقض. و قوله أجهز.. أي أتى عليه و قتله، يقال أجهزت على الجريح إذا كانت به جراحة فقتله. و قوله كعرف الضبع.. شبّههم به لكثرته، و العرف الشعر الذي يكون على عنق الفرس، فاستعاره للضبع. و قوله و قد انثالوا.. أي انصبّوا عليّ و كثروا، و يقال انتثلت ما في كنانتي من السهام إذا صببته. و قوله و راقهم زبرجها.. أي أعجبهم حسنها، و أصل الزبرج النقش، و هو هاهنا زهرة الدنيا و حسنها. و قوله أن لا يقرّوا على كظة ظالم.. فالكظة الامتلاء، يعني أنّهم لا يصبرون على امتلاء الظالم من المال الحرام و لا يقارّوه على ظلمه. و قوله و لا سغب مظلوم.. فالسغب الجوع، و معناه منعه من الحقّ الواجب له. و قوله لألقيت حبلها على غاربها.. مثل تقول العرب ألقيت حبل البعير على غاربه ليرعى كيف شاء. و معنى قوله و لسقيت آخرها بكأس أوّلها.. أي لتركتهم في ضلالهم و عماهم. و قوله أزهد عندي.. فالزهيد القليل. قوله من حبقة عنز.. فالحبقة ما يخرج من دبر العنز من الريح، و العفطة ما يخرج من أنفها. و قوله تلك شقشقة هدرت.. فالشقشقة ما يخرجه البعير من جانب فيه إذا هاج و سكر.
مع، ع الطالقاني، عن الجلودي، عن أحمد بن عمّار بن خالد، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن عيسى بن راشد، عن علي بن حذيفة، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
ما الحفّار، عن أبي القاسم الدعبلي، عن أبيه، عن أخي دعبل، عن محمد بن سلامة الشامي، عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام، و الباقر عليه السلام، عن ابن عباس قال ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السلام فقال و اللَّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة.. و ذكر نحوه بأدنى تغيير.
شا روى جماعة عن أهل النقل من طرق مختلفة، عن ابن عباس قال كنت عند أمير المؤمنين عليه السلام بالرحبة فذكرت الخلافة و تقديم من تقدّم عليه، فتنفّس الصعداء ثم قال أم و اللَّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة..
و ساق الخبر إلى آخره.
إيضاح
هذه الخطبة من مشهورات خطبه صلوات اللَّه عليه روتها الخاصّة و العامّة في كتبهم و شرحوها و ضبطوا كلماتها، كما عرفت رواية الشيخ الجليل المفيد و شيخ الطائفة و الصدوق، و رواها السيّد الرّضي في نهج البلاغة و الطبرسي في الإحتجاج قدّس اللَّه أرواحهم، و
روى الشيخ قطب الدين الراوندي قدّس سرّه في شرحه على نهج البلاغة بهذا السند أخبرني الشيخ أبو نصر الحسن بن محمد بن إبراهيم، عن الحاجب أبي الوفا محمد بن بديع و الحسين بن أحمد بن بديع و الحسين بن أحمد بن عبد الرحمن، عن الحافظ أبي بكر بن مردويه الأصفهاني، عن سليمان بن أحمد الطبراني، عن أحمد بن عليّ الأبار، عن إسحاق ابن سعيد أبي سلمة الدمشقي، عن خليد بن دعلج، عن عطان بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال كنّا مع عليّ عليه السلام بالرحبة فجرى ذكر الخلافة و من تقدّم عليه فيها، فقال أما و اللَّه لقد تقمّصها فلان..
إلى آخر الخطبة. و من أهل الخلاف رواها ابن الجوزي في مناقبه، و ابن عبد ربّه في الجزء الرابع من كتاب العقد، و أبو عليّ الجبائي في كتابه، و ابن الخشّاب في درسه على ما حكاه بعض الأصحاب و الحسن بن عبد اللَّه بن سعيد العسكري في كتاب المواعظ و الزواجر على ما ذكره صاحب الطرائف، و فسّر ابن الأثير في النهاية لفظ الشقشقة، ثم قال و منه
حديث عليّ عليه السلام في خطبة له تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت..
و شرح كثيرا من ألفاظها. و قال الفيروزآبادي في القاموس عند تفسيرها الشّقشقة بالكسر شيء كالرّئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج، و الخطبة الشقشقيّة العلويّة لقوله لابن عبّاس لما قال لو اطّردت مقالتك من حيث أفضيت يا ابن عبّاس هيهات تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت. و قال عبد الحميد بن أبي الحديد ردّا على من قال إنّها تأليف السيّد الرضي قد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخيّ إمام البغداديّين من المعتزلة، و كان في دولة المقتدر قبل أن يخلق السيّد الرضيّ بمدّة طويلة، و وجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبّة أحد متكلّمي الإماميّة، و كان من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي، و مات قبل أن يكون الرضيّ موجودا.. ثم حكى عن شيخه مصدّق الواسطي أنّه قال لمّا قرأت هذه الخطبة على الشيخ أبي محمّد عبد اللَّه بن أحمد المعروف ب ابن الخشّاب، قلت له أ تقول إنّها منحولة. فقال لا و اللَّه و إنّي لأعلم أنّها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق.. قال فقلت له إنّ كثيرا من الناس يقولون إنّها من كلام الرضيّ. فقال لي أنّى للرضيّ و لغير الرضيّ هذا النّفس و هذا الأسلوب قد وقفنا على رسائل الرضيّ، و عرفنا طريقته و فنّه في الكلام المنثور.. ثم قال و اللَّه لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب قد صنّفت قبل أن يخلق الرضيّ بمائتي سنة، و لقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرف أنّها خطوط من هي من العلماء و أهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضيّ. و قال ابن ميثم البحراني قدّس سرّه وجدت هذه الخطبة بنسخة عليها خطّ الوزير أبي الحسن عليّ بن محمد بن الفرات وزير المقتدر باللَّه، و ذلك قبل مولد الرضيّ بنيّف و ستين سنة. انتهى. و من الشواهد على بطلان تلك الدعوى الواهية الفاسدة أنّ القاضي عبد الجبّار الذي هو من متعصّبي المعتزلة قد تصدّى في كتاب المغني لتأويل بعض كلمات الخطبة، و منع دلالتها على الطعن في خلافة من تقدّم عليه، و لم ينكر استناد الخطبة إليه. و ذكر السيّد المرتضى رضي اللَّه عنه كلامه في الشافي و زيفه، و هو أكبر من أخيه الرضيّ قدّس اللَّه روحهما، و قاضي القضاة متقدّم عليهما، و لو كان يجد للقدح في استناد الخطبة إليه عليه السلام مساغا لما تمسّك بالتأويلات الركيكة في مقام الاعتذار، و قدح في صحّتها كما فعل في كثير من الروايات المشهورة، و كفى للمنصف وجودها في تصانيف الصدوق رحمه اللَّه، و كانت وفاته سنة تسع و عشرين و ثلاثمائة، و كان مولد الرضيّ رضي اللَّه عنه سنة تسع و خمسين و ثلاثمائة. و لنشرح الخطبة ثانيا لمزيد الإيضاح و التبيين، و للإشارة إلى ما ذكره في تفسيرها و شرحها بعض المحقّقين، و نبني الشرح على ما أورده السيّد قدّس سرّه في النهج، ليظهر مواضع الاختلاف بينه و بين ما سلف من الروايات، مستعينا بخالق البريّات.
قال السيّد و من خطبته له عليه السلام المعروفة ب الشقشقيّة أما و اللَّه لقد تقمّصها فلان...
أي اتّخذها قميصا، و في التشبيه بالقميص الملاصق للبدن دون سائر الأثواب تنبيه على شدّة حرصه عليها، و الضمير راجع إلى الخلافة كما ظهر من سائر الروايات، و فلان كناية عن أبي بكر، و كان في نسخة ابن أبي الحديد ابن أبي قحافة بضم القاف و تخفيف الحاء كما في بعض الروايات الأخر، و في بعضها أخو تيم، و الظاهر أنّ التعبير بالكناية نوع تقيّة من السيّد رحمه اللَّه، و النسخة المقروءة عليه كانت متعدّدة، فلعلّه عدل في بعضها عن الكناية لزوال الخوف، و يمكن أن تكون التقيّة من النسّاخ، و يدلّ على أنّ الكناية ليست من لفظه عليه السلام أنّ قاضي القضاة في المغني تصدّى لدفع دلالة تعبيره عليه السلام عن أبي بكر بابن أبي قحافة دون الألقاب المادحة على استخفاف به، بأنّه قد كانت العادة في ذلك الزمان أن يسمّي أحدهم صاحبه و يكنّيه و يضيفه إلى أبيه، حتى كانوا ربّما قالوا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه ]و آله[ يا محمّد فليس في ذلك استخفاف و لا دلالة على الوضع. فأجاب السيّد رضي اللَّه عنه بما في الشافي عنه بأنّه ليس ذلك صنع من يريد التعظيم و التبجيل، و قد كانت لأبي بكر عندهم من الألقاب الجميلة ما يقصد إليه من يريد تعظيمه، و قوله إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله كان ينادي باسمه، فمعاذ اللَّه، ما كان ينادي باسمه إلّا شاكّ فيه، أو جاهل من طغام الأعراب. و قوله إنّ ذلك عادة العرب.. فلا شكّ أنّ ذلك عادتهم فيمن لا يكون له من الألقاب أفخمها و أعظمها كالصدّيق.. و نحوه. و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى.. الواو للحال، و قطب الرّحى الحديدة المنصوبة في وسط السّفلى من حجري الرّحى الّتي تدور حولها العليا، أي تقمّص الخلافة مع علمه بأنّي مدار أمرها، و لا تنتظم إلّا بي، و لا عوض لها عنّي، كما أنّ الرحى لا تدور إلّا بالقطب و لا عوض لها عنه. و قال ابن أبي الحديد عندي أنّه أراد أمرا آخر، و هو أنّي من الخلافة في الصميم و في وسطها و بحبوحتها، كما أنّ القطب وسط دائرة الرحى. و لا يخفى نقصان التشبيه حينئذ. و قال في المغني أراد أنّه أهل لها و أنّه أصلح منه للقيام بها، يبيّن ذلك أنّ القطب من الرحى لا يستقلّ بنفسه و لا بدّ في تمامه من الرحى، فنبّه بذلك على أنّه أحقّ و إن كان قد تقمّصها. و ردّه السيّد رضي اللَّه عنه بأنّ هذا التأويل مع أنّه لا يجري في غير هذا اللفظ من الألفاظ المرويّة عنه عليه السلام فاسد، لأنّ مفادّ هذا الكلام ليس إلّا التفرّد في الاستحقاق، و أنّ غيره لا يقوم مقامه لا أنّه أهل للأمر و موضع له، و قوله إنّ القطب لا يستقلّ بنفسه.. تأويل على عكس المراد، فإنّ المستفاد من هذا الكلام عند من يعرف اللغة عدم انتظام دوران الرحى بدون القطب، لا عدم استقلال القطب بدون الرحى.
ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير.. انحدار السيل لعلّه كناية عن إفاضة العلوم و الكمالات و سائر النعم الدنيويّة و الأخرويّة على المواد القابلة. و قيل المعنى أنّي فوق السيل بحيث لا يرتفع إليّ، و هو كما ترى. ثم إنّه عليه السلام ترقّى في الوصف بالعلوّ بقوله و لا يرقى إليّ الطير، فإنّ مرقى الطير أعلى من منحدر السيل فكيف ما لا يرقى إليه و الغرض إثبات أعلى مراتب الكمال للدلالة على بطلان خلافة من تقمّصها، لقبح تفضيل المفضول. فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا.. يقال سدل الثّوب يسدله بالضم أي أرخاه و أرسله، و دون الشّيء أمامه و قريب منه، و المعنى ضربت بيني و بينها حجابا و أعرضت عنها و يئست منها، و الكشح ما بين الخاصرة إلى أقصر الأضلاع، و يقال فلان طوى كشحه.. أي أعرض مهاجرا و مال عنّي. و قيل أراد غير ذلك، و هو أنّ من أجاع نفسه فقد طوى كشحه كما أنّ من أكل و شبع فقد ملأ كشحه. و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء.. يقال طفق في كذا.. أي أخذ و شرع، و أرتئي في الأمر.. أي أفكر في طلب الأصلح، و هو افتعل من رؤية القلب أو من الرّأي، و الصّولة الحملة و الوثبة، و الجذّاء بالجيم و الذال المعجمة المقطوعة و المكسورة أيضا كما ذكره الجوهري، و قال في النهاية في حديث عليّ عليه السّلام أصول بيد جذّاء.. كنّى به عن قصور أصحابه و تقاعدهم عن الغزو، فإنّ الجند للأمير كاليد، و يروى بالحاء المهملة و فسّره في موضعه باليد القصيرة الّتي لا تمدّ إلى ما يراد. قال و كأنّها بالجيم أشبه. و الطخية بالضم، كما صحّح في أكثر النسخ الظلمة أو الغيم، و في بعضها بالفتح في القاموس الطّخية.. الظّلمة، و يثلّث، و لم يذكر الجوهري سوى الضّم، و فسّره بالسّحاب، و في النهاية الطّخية الظّلمة و الغيم، و العمياء تأنيث الأعمى، و وصف الطخية بها لأنّ الرائي لا يبصر فيها شيئا. يقال مفازة عمياء.. أي لا يهتدي فيها الدليل، و هي مبالغة في وصف الظلمة بالشدّة، و حاصل المعنى، إنّي لمّا رأيت الخلافة في يد من لم يكن أهلا لها كنت متفكّرا مردّدا بين قتالهم بلا أعوان و بين معاينة الخلق على جهالة و ضلالة و شدّة. يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه.. يقال هرم كفرح أي بلغ أقصى الكبر، و الشّيب بالفتح بياض الشّعر، و الكدح الكدّ و العمل و السّعي، و الجمل الثلاثة أوصاف للطخية العمياء، و إيجابها لهرم الكبير و شيب الصغير إمّا لكثرة الشدائد فيها، فإنّها ممّا يسرع بالهرم و الشيب، أو لطول مدّتها و تمادي أيّامها و لياليها، أو للأمرين جميعا، و على الوجهين الأوّلين فسّر قوله تعالى يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً. و كدح المؤمن يمكن أن يراد به لازمه أعني التعب و مقاساة الشدّة في الوصول إلى حقّه.. و قيل يسعى فلا يصل إلى حقّه، فالكدح بمعناه. و قيل المراد به أنّ المؤمن المجتهد في الذبّ عن الحقّ و الأمر بالمعروف يسعى فيه و يكدّ و يقاسي الشدائد حتى يموت. و في رواية الشيخ و الطبرسي يرضع فيها الصغير و يدبّ فيها الكبير.. و هو كناية عن طول المدّة أيضا أي يمتدّ إلى أن يدبّ كبيرا من كان يرضع صغيرا، يقال دبّ يدبّ دبيبا أي مشى على هنيئة. فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت و في العين قذى و في الحلق
شجا أرى تراثي نهبا.. كلمة )ها( في هاتا للتّنبيه، و تا للإشارة إلى المؤنّث، أشير بها إلى الطخية الموصوفة، و أحجى.. أي أولى و أجدر و أحقّ، من قولهم حجى بالمكان إذا أقام و ثبت، ذكره في النهاية. و قيل أي أليق و أقرب بالحجى و هو العقل. و القذى جمع قذاة و هي ما يسقط في العين و في الشّراب أيضا من تبن أو تراب أو وسخ، و الشّجا ما اعترض في الحلق و نشب من عظم و نحوه، و التّراث ما يخلفه الرّجل لورثته، و التّاء فيه بدل من الواو. و النّهب السّلب و الغارة و الغنيمة، و الجملة بيان لوجود القذى و الشجا. و في رواية الشيخين و الطبرسي فرأيت الصبر.. و في رواية الشيخ تراث محمّد صلّى اللَّه عليه و آله نهبا. و في تلخيص الشافي من أن أرى تراثي نهبا. و الحاصل أنّي بعد التردّد في القتال استقرّ رأيي على أنّ الصبر أجدر، و ذلك لأداء القتال إلى استئصال آل الرسول صلّى اللَّه عليه و آله و اضمحلال كلمة الإسلام لغلبة الأعداء. و قال بعض الشارحين في الكلام تقديم و تأخير، و التقدير و لا يرقى إليّ الطير فطفقت أرتئي بين كذا.. و كذا، فرأيت الصبر على هاتا أحجى فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا، و صبرت و في العين قذى.. إلى آخر الفصل، لأنّه لا يجوز أن يسدل دونها ثوبا و يطوي عنها كشحا، ثم يرتئي.. و التقديم و التأخير شائع في لغة العرب، قال اللَّه تعالى أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً. انتهى. و يمكن أن يقال سدل الثوب و طيّ الكشح لم يكن على وجه البت و تصميم العزم على الترك، بل المراد ترك العجلة و المبادرة إلى الطلب من غير تدبّر في عاقبة الأمر، و لعلّ الفقرتين بهذا المعنى أنسب. حتى مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده.. قيل تقديره مضى على سبيله و أدلى بها إلى فلان.. أي ألقاها إليه و دفعها، و التعبير بلفظ فلان كما مرّ، و في نسخة ابن أبي الحديد بلفظ ابن الخطاب، و في بعض الروايات إلى عمر، و إدلاؤه إليه بها نصبه للخلافة. و كان ابن الخطاب يسمّي نفسه خليفة أبي بكر، و يكتب إلى عمّاله من خليفة أبي بكر حتى جاءه لبيد بن أبي ربيعة و عديّ بن حاتم فقالا لعمرو بن العاص استأذن لنا على أمير المؤمنين.. فخاطبه عمرو بن العاص بأمير المؤمنين فجرى ذلك في المكاتيب من يومئذ، ذكر ذلك ابن عبد البرّ في الإستيعاب. ثم تمثّل عليه السلام بقول الأعشى
شتّان بما يومي على كورها و يوم حيّان أخي جابر
تمثّل بالبيت أنشده للمثل. و الأعشى ميمون بن جندل، و شتّان اسم فعل بمعنى بعد و فيه معنى التّعجّب، و الكور بالضم رحل البعير بأداته، و الضمير راجع إلى الناقة، و حيّان كان صاحب حصن باليمامة، و كان من سادات بني حنيفة، مطاعا في قومه يصله كسرى في كلّ سنة، و كان في رفاهيّة و نعمة مصونا من وعثاء السفر، لم يكن يسافر أبدا، و كان الأعشى، ينادمه، و كان أخوه جابر أصغر سنّا منه، و يروى أنّ حيّان عاتب الأعشى في نسبته إلى أخيه فاعتذر بأنّ الروي اضطرّني إلى ذلك فلم يقبل عذره. و معنى البيت كما أفاده السيّد المرتضى رضي اللَّه عنه إظهار البعد بين يومه و يوم حيّان لكونه في شدّة من حرّ الهواجر، و كون حيّان في راحة و خفض، و كذا غرضه عليه السلام بيان البعد بين يومه صابرا على القذى و الشجا و بين يومهم فائزين بما طلبوا من الدنيا، و هذا هو الظاهر المطابق للبيت التالي له، و هو ممّا تمثّل به عليه السلام على ما في بعض النسخ و هو قوله
أرمي بها البيد إذا هجّرت و أنت بين القرو و العاصر
و البيد بالكسر جمع البيداء و هي المفازة، و التّهجير السّير في الهاجرة، و هي نصف النّهار عند شدّة الحرّ، و القرو قدح من الخشب، و قيل إناء صغير أو إجانة للشّرب، و العاصر الّذي يعصر العنب للخمر.. أي أنا في شدّة حرّ الشمس أسوق ناقتي في الفيافي و أنت في عيش و شرب. و قال بعض الشارحين المعنى ما أبعد ما بين يومي على كور الناقة أدأب و أنصب و بين يومي منادما حيّان أخي جابر في خفض و دعة. فالغرض من التمثيل إظهار البعد بين يومه عليه السلام بعد وفاة الرسول صلّى اللَّه عليه و آله مقهورا ممنوعا عن حقّه و بين يومه في صحبة النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله. فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته.. أصل يا عجبا يا عجبي، قلبت الياء ألفا، كأنّ المتكلّم ينادي عجبه و يقول له احضر فهذا أوان حضورك. و بينا هي بين الظّرفيّة أشبعت فتحتها فصارت ألفا، و تقع بعدها إذا الفجائيّة غالبا، و الاستقالة طلب الإقالة و هو في البيع فسخه للندم، و تكون في البيعة و العهد أيضا، و استقالته قوله بعد ما بويع أقيلوني فلست بخيركم و عليّ فيكم. و قد روى خبر الاستقالة الطبري في تاريخه، و البلاذري في أنساب الأشراف، و السمعاني في الفضائل، و أبو عبيدة في بعض مصنّفاته على ما حكاه بعض أصحابنا و لم يقدح الفخر الرازي في نهاية العقول في صحّته، و إن أجاب عنه بوجوه ضعيفة، و كفى كلامه عليه السلام شاهدا على صحّته، و كون العقد لآخر بين أوقات الاستقالة لتنزيل اشتراكهما في التحقيق و الوجود منزلة اتّحاد الزمان، أو لأنّ الظاهر من حال المستقبل لعلمه بأنّ الخلافة حقّ لغيره بقاء ندمه و كونه متأسّفا دائما خصوصا عند ظهور أمارة الموت. و قوله بعد وفاته، ليس ظرفا لنفس العقد بل لترتّب الآثار على المعقود بخلاف قوله في حياته. و المشهور أنّه لمّا احتضر أحضر عثمان و أمره أن يكتب عهدا، و كان يمليه عليه، فلمّا بلغ قوله أمّا بعد.. أغمي عليه، فكتب عثمان قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب.. فأفاق أبو بكر فقال اقرأ، فقرأه فكبّر أبو بكر و قال أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي قال نعم. قال جزاك اللَّه خيرا عن الإسلام و أهله.. ثم أتمّ العهد و أمره أن يقرأه على الناس. و ذهب في ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة على ما ذكره ابن أبي الحديد. و قال في الإستيعاب قول الأكثر أنّه توفي عشيّ يوم الثلاثاء المذكور، و قيل ليلته، و قيل عشيّ يوم الإثنين، قال و مكث في خلافته سنتين و ثلاثة أشهر إلّا خمس ليال أو سبع ليال، و قيل أكثر من ذلك إلى عشرين يوما. و السبب على ما حكاه عن الواقدي أنّه اغتسل في يوم بارد، فحمّ و مرض خمسة عشر يوما. و قيل سلّ. و قيل سمّ، و غسّلته زوجته أسماء بنت عميس، و صلّى عليه عمر بن الخطاب، و دفن ليلا في بيت عائشة. لشدّ ما تشطّرا ضرعيها.. اللام جواب القسم المقدّر، و شدّ.. أي صار شديدا، و كلمة ما مصدرية، و المصدر فاعل شدّ، و لا يستعمل هذا الفعل إلّا في التعجب. و تشطّرا إمّا مأخوذ من الشطر بالفتح بمعنى النّصف، يقال فلان شطّر ماله.. أي نصّفه، فالمعنى أخذ كلّ واحد منهما نصفا من ضرعي الخلافة، و أما منه بمعنى خلف النّاقة بالكسر أي حلمة ضرعها، يقال شطّر ناقته تشطيرا إذا صرّ خلفين من أخلافها.. أي شدّ عليهما الصّرار، و هو خيط يشدّ فوق الخلف لئلّا يرضع منه الولد، و للنّاقة أربعة أخلاف، خلفان قادمان و هما اللّذان يليان السّرّة، و خلفان آخران. و سمّى عليه السلام خلفين منها ضرعا لاشتراكهما في الحلب دفعة، و لم نجد التشطّر على صيغة التفعّل في كلام اللغويّين. و في رواية المفيد رحمه اللَّه و غيره شاطرا على صيغة المفاعلة يقال شاطرت ناقتي، إذا احتلبت شطرا و تركت الآخر، و شاطرت فلانا مالي إذا ناصفته.
و في كثير من روايات السقيفة أنّه عليه السلام قال لعمر بن الخطاب بعد يوم السقيفة احلب حلبا لك شطره، اشدد له اليوم يردّه عليك غدا.
و قد مهّد عمر أمر البيعة لأبي بكر يوم السقيفة، ثم نصّ أبو بكر عليه لمّا حضر أجله، و كان قد استقضاه في خلافته و جعله وزيرا في أمرها مساهما في وزرها، فالمشاطرة تحتمل الوجهين.
و في رواية الشيخ و الطبرسي ذكر التمثّل في هذا الموضع بعد قوله ضرعيها. فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها و يخشن مسّها و يكثر العثار فيها و الاعتذار منها..
و ليست )فيها( في كثير من النسخ. و الحوزة بالفتح النّاحية و الطّبيعة. و الغلظ ضدّ الرّقّة، و الكلم بالفتح الجرح، و في الإسناد توسّع، و خشونة المسّ الإيذاء و الإضرار و هو غير ما يستفاد من الخشناء، فإنّها عبارة عن كون الحوزة بحيث لا ينال ما عندها و لا يفوز بالنجاح من قصدها، كذا قيل. و قال بعض الشرّاح يمكن أن يكون )من( في »الاعتذار منها« للتعليل، أي و يكثر اعتذار الناس عن أفعالهم و حركاتهم لأجل تلك الحوزة. و قال بعض الأفاضل الظاهر أنّ المفاد على تقدير إرادة الناحية تشبيه المتولّي للخلافة بالأرض الخشناء في ناحية الطريق المستوي، و تشبيه الخلافة بالراكب السائر فيها أو بالناقة.. أي أخرجها عن مسيرها المستوي و هو من يستحقّها إلى تلك الناحية الحزنة، فيكثر عثارها، أو عثار مطيّتها فيها، فاحتاجت إلى الاعتذار من عثراتها الناشئة من خشونة الناحية، و هو في الحقيقة اعتذار من الناحية، فالعاثر و المعتذر حينئذ هي الخلافة توسّعا، و الضمير المجرور في )منها( راجع إلى الحوزة أو إلى العثرات المفهومة من كثرة العثار، و من صلة للاعتذار أو للصفة المقدّرة صفة للاعتذار، أو حالا عن )يكثر(.. أي الناشئ أو ناشئا منها، و على ما في كثير من النسخ يكون الظرف المتضمّن لضمير الموصوف أعني فيها محذوفا، و العثار و الاعتذار على النسختين إشارة إلى الخطإ في الأحكام و غيرها، و الرجوع عنها كقصّة الحاملة و المجنونة و ميراث الجدّ.. و غيرها. و في الإحتجاج فصيّرها و اللَّه في ناحية خشناء، يجفو مسّها، و يغلظ كلمها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها حزم، و إن أسلس لها تقحّم، يكثر فيها العثار، و يقلّ فيها الاعتذار... فالمعنى أنّه كان يعثر كثيرا و لا يعتذر منها لعدم المبالاة، أو للجهل، أو لأنّه لم يكن لعثراته عذر حتى يعتذر، فالمراد بالاعتذار إبداء العذر ممّن كان معذورا و لم يكن مقصّرا. و في رواية الشيخ رحمه اللَّه فعقدها و اللَّه في ناحية خشناء، يخشن مسّها و في بعض النسخ يخشى مسّها، و يغلظ كلمها، و يكثر العثار و الاعتذار فيها، صاحبها منها كراكب الصعبة إن شنق لها حزم، و إن أسلس لها عصفت به. فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحّم.. الصّعبة من النّوق غير المنقادة، و اشنق بعيره.. أي جذب رأسها بالزّمام، و يقال اشنق البعير بنفسه إذا رفع رأسه، يتعدّى و لا يتعدّى، و اللّغة المشهورة شنق كنصر متعدّيا بنفسه، و يستعملان باللّام، كما صرّح به في النّهاية. قال السيّد رحمه اللَّه في النهج بعد إتمام الخطبة قوله عليه السلام في هذه الخطبة كراكب الصّعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحّم.. يريد أنّه إذا شدّد عليها في جذب الزّمام و هي تنازعه رأسها خرم أنفها، و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحّمت به فلم يملكها، يقال أشنق النّاقة إذا جذب رأسها بالزّمام فرفعه و شنقها أيضا، ذكر ذلك ابن السّكّيت في إصلاح المنطق، و إنّما قال أشنق لها و لم يقل أشنقها لأنّه جعله في مقابلة قوله أسلس لها، فكأنّه عليه
السّلام قال إن رفع لها رأسها بالزّمام بمعنى أمسكه عليها )انتهى(. فاللّام للازدواج، و الخرم الشّقّ، يقال خرم فلانا كضرب.. أي شقّ وترة أنفه، و هي ما بين منخريه فخرم هو كفرح، و المفعول محذوف و هو ضمير الصعبة كما يظهر من كلام بعض اللغويّين، أو أنفها كما يدلّ عليه كلام السيّد و ابن الأثير و بعض الشارحين، و أسلس لها.. أي أرخى زمامها لها، و تقحّم.. أي رمى نفسه في مهلكة، و تقحّم الإنسان الأمر.. أي رمى نفسه فيها من غير رويّة. و ذكروا في بيان المعنى وجوها منها أنّ الضمير في صاحبها يعود إلى الحوزة المكنّى بها عن الخليفة أو أخلاقه، و المراد بصاحبها من يصاحبها كالمستشار و غيره، و المعنى أنّ المصاحب للرجل المنعوت حاله في صعوبة الحال كراكب الناقة الصعبة، فلو تسرّع إلى إنكار القبائح من أعماله أدّى إلى الشقاق بينهما و فساد الحال، و لو سكت و خلّاه و ما يصنع أدّى إلى خسران المال. و منها أنّ الضمير راجع إلى الخلافة أو إلى الحوزة، و المراد بصاحبها نفسه عليه السلام، و المعنى أنّ قيامي في طلب الأمر يوجب مقاتلة ذلك الرجل و فساد أمر الخلافة رأسا، و تفرّق نظام المسلمين، و سكوتي عنه يورث التقحّم في موارد الذلّ و الصغار. و منها أنّ الضمير راجع إلى الخلافة، و صاحبها من تولّى أمرها مراعيا للحقّ و ما يجب عليه، و المعنى أنّ المتولّي لأمر الخلافة إن أفرط في إحقاق الحقّ و زجر الناس عمّا يريدونه بأهوائهم أوجب ذلك نفار طباعهم و تفرّقهم عنه، لشدّة الميل إلى الباطل، و إن فرّط في المحافظة على شرائطها ألقاه التفريط في موارد الهلكة، و ضعف هذا الوجه و بعده واضح. هذا ما قيل فيه من الوجوه، و لعلّ الأول أظهر. و يمكن فيه تخصيص الصاحب به عليه السلام، فالغرض بيان مقاساته الشدائد في أيّام تلك الحوزة الخشناء للمصاحبة، و قد كان يرجع إليه عليه السلام بعد ظهور الشناعة في العثرات، و يستشيره في الأمور للأغراض. و يحتمل عندي وجها ]كذا[ آخر و هو أن يكون المراد بالصاحب عمر، و بالحوزة سوء أخلاقه، و يحتمل إرجاع الضمير إلى الخلافة. و الحاصل أنّه كان لجهله بالأمور، و عدم استحقاقه للخلافة، و اشتباه الأمور عليه كراكب الصعبة، فكان يقع في أمور لا يمكنه التخلّص منها أو لم يكن شيء من أموره خاليا عن المفسدة، فإذا استعمل الجرأة و الجلادة و الغلظة كانت على خلاف الحقّ، و إن استعمل اللين كان للمداهنة في الدين. فمني الناس لعمر اللَّه بخبط و شماس و تلوّن و اعتراض.. مني على المجهول أي ابتلي، و العمر بالضم و الفتح مصدر عمر الرّجل بالكسر إذا عاش زمانا طويلا، و لا يستعمل في القسم إلّا العمر
بالفتح، فإذا أدخلت عليه اللّام رفعته بالابتداء، و اللّام لتوكيد الابتداء، و الخبر محذوف، و التّقدير لعمر اللَّه قسمي، و إن لم تأت باللّام نصبته نصب المصادر، و المعنى على التّقديرين أحلف ببقاء اللَّه و دوامه، و الخبط بالفتح السّير على غير معرفة و في غير جادّة، و الشّماس بالكسر النغار يقال شمس الفرس شموسا و شماسا.. أي منع ظهره، فهو فرس شموس بالفتح و به شماس، و التّلوّن في الإنسان أن لا يثبت على خلق واحد، و الاعتراض السّير على غير استقامة كأنّه يسير عرضا. و الغرض بيان شدّة ابتلاء الناس في خلافته بالقضايا الباطلة لجهله و استبداده برأيه مع تسرّعه إلى الحكم و إيذائهم بحدّته و بالخشونة في الأقوال و الأفعال الموجبة لنفارهم عنه، و بالنفار عن الناس كالفرس الشموس، و التلوّن في الآراء و الأحكام لعدم ابتنائها على أساس قوي، و بالخروج عن الجادة المستقيمة التي شرّعها اللَّه لعباده، أو بالوقوع في الناس في مشهدهم و مغيبهم، أو بالحمل على الأمور الصعبة، و التكاليف الشاقّة. و يحتمل أن يكون الأربعة أوصافا للناس في مدّة خلافته، فإنّ خروج الوالي عن الجادة يستلزم خروج الرعيّة عنها أحيانا، و كذا تلوّنه و اعتراضه يوجب تلوّنهم و اعتراضهم على بعض الوجوه، و خشونته يستلزم نفارهم، و سيأتي تفاصيل تلك الأمور في الأبواب الآتية إن شاء اللَّه تعالى. فصبرت على طول المدّة و شدّة المحنة، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم.. و في تلخيص الشافي زعم أنّي سادسهم. و المحنة البليّة الّتي يمتحن بها الإنسان. و الزّعم مثلثة قريب من الظّنّ. و قال ابن الأثير إنّما يقال زعموا في حديث لا سند له و لا ثبت فيه. و قال الزمخشري هي ما لا يوثق به من الأحاديث.
و روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال كلّ زعم في القرآن كذب.
و كانت مدّة غصبه للخلافة على ما في الإستيعاب عشر سنين و ستة أشهر. و قال قتل يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث و عشرين، و قال الواقدي و غيره لثلاث بقين منه، طعنه أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة. و اشتهر بين الشيعة أنّه قتل في التاسع من ربيع الأوّل، و سيأتي فيه بعض الروايات. و الجماعة الذين أشار عليه السلام إليهم أهل مجلس الشورى، و هم ستة على المشهور عليّ عليه السلام و عثمان و طلحة و الزبير و سعد بن أبي وقّاص و عبد الرحمن بن عوف. و قال الطبري لم يكن طلحة ممّن ذكر في الشورى و لا كان يومئذ بالمدينة. و قال أحمد بن أعثم لم يكن بالمدينة. فقال عمر انتظروا بطلحة ثلاثة أيّام، فإن جاء و إلّا فاختاروا رجلا من الخمسة. فيا للَّه و للشورى.. الشّورى كبشرى، مصدر بمعنى المشورة، و اللّام في فيا للَّه مفتوحة لدخولها على المستغاث، أدخلت للدلالة على اختصاصها بالنداء للاستغاثة، و أمّا في و للشّورى فمكسورة دخلت على المستغاث له، و الواو زائدة أو عاطفة على محذوف مستغاث له أيضا، قيل كأنّه قال فيا لعمر و للشورى.. أو لي و للشورى.. و نحوه، و الأظهر فيا للَّه لما أصابني عنه، أو لنوائب الدهر عامّة و للشورى خاصّة، و الاستغاثة للتألّم من الاقتران بمن لا يدانيه في الفضائل، و لا يستأهل للخلافة، و سيأتي قصّة الشورى في بابها. متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر..
و في رواية الشيخ و غيره فيا للشورى و اللَّه، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّلين، فأنّا الآن أقرن..
و في الإحتجاج مع الأوّلين منهم حتى صرت الآن يقرن بي هذه النظائر. و يقال اعترض الشّيء.. أي صار عارضا كالخشبة المعترضة في النّهر، و الرّيب الشّكّ، و المراد بالأوّل أبو بكر. و أقرن إليهم على لفظ المجهول أي أجعل قرينا لهم و يجمع بيني و بينهم. و النظائر الخمسة أصحاب الشورى، و قيل الأربعة كما سيأتي، و التعبير عنهم بالنظائر لأنّ عمر جعلهم نظائر له عليه السلام، أو لكون كلّ منهم نظير الآخرين. لكنّي أسففت أن أسفّوا و طرت إذ طاروا.. و في رواية الشيخ و لكنّي أسففت مع القوم حيث أسفّوا و طرت مع القوم حيث طاروا.. قال في النهاية في شرح هذه الفقرة أسفّ الطّائر إذا دنا من الأرض، و أسفّ الرّجل للأمر إذا قاربه، و طرت.. أي ارتفعت استعمالا للكلّي في أكمل الأفراد بقرينة المقابلة. و قال بعض الشارحين أي لكنّي طلبت الأمر إن كان المنازع فيه جليل القدر أو صغير المنزلة لأنّه حقّي و لم أستنكف من طلبه. و الأظهر أنّ المعنى أنّي جريت معهم على ما جروا، و دخلت في الشورى مع أنّهم لم يكونوا نظراء لي، و تركت المنازعة للمصلحة أو الأعمّ من ذلك بأنّ تكلّمت معهم في الإحتجاج أيضا بما يوافق رأيهم، و بيّنت الكلام على تسليم حقيّة ما مضى من الأمور الباطلة، و أتممت الحجة عليهم على هذا الوجه. فصغى رجل منهم لضغنه و مال الآخر لصهره مع هن و هن. الصّغي الميل، و منه أصغيت إليه إذا ملت بسمعك نحوه. و الضّغن بالكسر الحقد و العداوة، و الصّهر بالكسر حرمة الختونة. و قال الخليل الأصهار أهل بيت المرأة، و من العرب من يجعل الصّهر من الأحماء و الأختان جميعا. و هن على وزن أخ كلمة كناية و معناه شيء و أصله هنو. و قال الشيخ الرضي رضي اللَّه عنه الهن الشّيء المنكر الّذي يستهجن ذكره من العورة و الفعل القبيح أو غير ذلك، و الذي مال للضغن سعد بن أبي وقّاص، لأنّه عليه السلام قتل أباه يوم بدر، و سعد أحد من قعد عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام عند رجوع الأمر إليه، كذا قال الراوندي رحمه اللَّه. و ردّه ابن أبي الحديد بأنّ أبا وقّاص و اسمه مالك بن وهيب مات في الجاهلية حتف أنفه، و قال المراد به طلحة، و ضغنه لأنّه تيميّ و ابن عمّ أبي بكر، و كان في نفوس بني هاشم حقد شديد من بني تيم لأجل الخلافة و بالعكس، و الرواية التي جاءت بأنّ طلحة لم يكن حاضرا يوم الشورى إن صحّت فذو الضغن هو سعد، لأنّ أمّه حمنة بنت سفيان بن أميّة بن عبد شمس، و الضغنة التي كانت عنده من قبل أخواله الذين قتلهم عليّ عليه السلام، و لم يعرف أنّه عليه السلام قتل أحدا من بني زهرة لينسب الضغن إليه، و الذي مال لصهره هو عبد الرحمن لأنّ أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت زوجة عبد الرحمن، و هي أخت عثمان من أمّه أروى بنت كويز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس. و في بعض نسخ كتب الصدوق رحمه اللَّه فمال رجل بضبعه بالضاد المعجمة و الباء و في بعضها باللام. و قال الجوهري الضّبع العضد.. و ضبعت الخيل.. مدّت أضباعها في سيرها..، و قال الأصمعي الضّبع أن يهوي بحافره إلى عضده، و كنّا في ضبع فلان بالضم أي في كنفه و ناحيته. و قال يقال ضلعك مع فلان.. أي ميلك معه و هواك.. و يقال خاصمت فلانا فكان ضلعك عليّ.. أي ميلك. و في رواية الشيخ فمال رجل لضغنه و أصغى آخر لصهره.. و لعلّ المراد بالكناية رجاؤه أن ينتقل الأمر إليه بعد عثمان، و ينتفع بخلافته و الانتساب إليه باكتساب الأموال و الاستطالة و الترفّع على الناس، أو نوع من الانحراف عنه عليه السلام، و قد عدّ من المنحرفين، أو غير ذلك ممّا هو عليه السلام أعلم به، و يحتمل أن يكون الظرف متعلقا بالمعطوف و المعطوف عليه كليهما، فالكناية تشتمل ذا الضغن أيضا. إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله و معتلفه، و قام معه بنو أبيه يخضمون مال اللَّه خضم الإبل نبتة الربيع.
و في رواية الشيخ إلى أن قام الثالث نافجا حضنيه بين نثيله و معتلفه منها، و أسرع معه بنو أبيه في مال اللَّه يخضمونه..
و الحضن بالكسر ما دون الإبط إلى الكشح، و النّفج بالجيم الرّفع يقال بعير منتفج الجنبين إذا امتلأ من الأكل فارتفع جنباه، و رجل منتفج الجنبين إذا افتخر بما ليس فيه، و ظاهر المقام التشبيه بالبعير. و قال ابن الأثير كنى به عن التّعاظم و الخيلاء، قال و يروى نافخا بالخاء المعجمة أي منتفخا مستعدّا لأن يعمل عمله من الشّرّ، و الظاهر على هذه الرواية أنّ المراد كثرة الأكل. و النّثيل الرّوث بالفتح، و المعتلف بالفتح موضع الاعتلاف، و هو أكل الدّابة العلف.. أي كان همّه الأكل و الرجع كالبهائم، و قد مرّ تفسير ما في رواية الصدوق رحمه اللَّه. قال في القاموس النّثيل بالفتح و الكسر وعاء قضيب البعير.. أو القضيب نفسه، و الخضم الأكل بجميع الفم و يقابله القضم.. أي بأطراف الأسنان.
و قال في النهاية في حديث عليّ عليه السلام فقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللَّه خضم الإبل نبتة الرّبيع..
الخضم الأكل بأقصى الأضراس، و القضم بأدناها، و منه حديث أبي ذرّ تأكلون خضما و نأكل قضما، و قيل الخضم خاصّ بالشّيء الرّطب و القضم باليابس، و الفعل خضم كعلم على قول الجوهري و ابن الأثير. و في القاموس كسمع و ضرب، و أعرب المضارع في النسخ على الوجهين جميعا. و قالوا النّبتة بالكسر ضرب من فعل النّبات يقال إنّه لحسن النّبتة، و الكلام إشارة إلى تصرّف عثمان و بني أميّة في بيت مال المسلمين و إعطائه الجوائز و إقطاعه القطائع كما سيأتي إن شاء اللَّه. إلى أن انتكث عليه فتله، و أجهز عليه عمله، و كبت به بطنته.. و في الإحتجاج إلى أن كبت به بطنته و أجهز عليه عمله.. و الانتكاث الانتقاض، يقال نكث فلان العهد و الحبل فانتكث.. أي نقضه فانتقض، و فتل الحبل برمه و ليّ شقّيه. و الإجهاز إتمام قتل الجريح و إسراعه، و قيل فيه إيماء إلى ما أصابه قبل القتل من طعن أسنّة الألسنة و سقوطه عن أعين الناس. و كبا الفرس سقط على وجهه، و كبا به أسقطه. و البطنة الكظّة، أي الامتلاء من الطّعام. و الحاصل أنّه استمرّت أفعالهم المذكورة إلى أن رجع عليه حيله و تدابيره و لحقه وخامة العاقبة فوثبوا عليه و قتلوه، كما سيأتي بيانه. فما راعني إلّا و الناس ينثالون عليّ من كلّ جانب.. و في الإحتجاج إلا و الناس رسل إليّ كعرف الضبع يسألون أن أبايعهم و انثالوا علي حقّي.. و في رواية الشيخ فما راعني من الناس إلّا و هم رسل كعرف الضبع يسألوني أبايعهم و أبى ذلك، و انثالوا عليّ.. و الروع بالفتح الفزع و الخوف، يقال رعت فلانا و روّعته فارتاع.. أي أفزعته ففزع، و راعني الشّيء أي أعجبني، و الأوّل هنا أنسب. و الثّول صبّ ما في الإناء، و انثال انصبّ. و في بعض النسخ الصحيحة و الناس إليّ كعرف الضبع ينثالون.. و العرف الشّعر الغليظ النّابت على عنق الدّابة، و عرف الضّبع ممّا يضرب به المثل في الازدحام. و في القاموس الرّسل محركة القطيع من كلّ شيء.. و الرّسل بالفتح.. المترسّل من الشّعر، و قد رسل كفرح رسلا.. أي ما أفزعني حالة إلّا حالة ازدحام الناس للبيعة، و ذلك لعلمهم بقبح العدول عنه عليه السلام إلى غيره. حتى لقد وطئ الحسنان و شقّ عطفاي... الوطء الدّوس بالقدم، و الحسنان السبطان صلوات اللَّه عليهما، و نقل عن السيّد المرتضى رضي اللَّه عنه أنّه قال روى أبو عمر و أنّهما الإبهامان، و أنشد للشفري
مهضومة الكشحين حزماء الحسن ..........
و روى أنّه صلوات اللَّه عليه كان يومئذ جالسا محتبيا و هي جلسة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله المسمّاة بالقرفصاء فاجتمعوا ليبايعوه زاحموا حتى وطئوا إبهاميه، و شقّوا ذيله
قال و لم يعن الحسن و الحسين عليهما السلام و هما رجلان كسائر الحاضرين. و عطفا الرّجل بالكسر جانباه، فالمراد شقّ جانبي قميصه عليه السلام أو ردائه عليه السلام لجلوس الناس أو وضع الأقدام و زحامهم حوله. و قيل أراد خدش جانبيه عليه السلام لشدّة الاصطكاك و الزحام. و في بعض النسخ الصحيحة و شقّ عطافي، و هو بالكسر الرّداء، و هو أنسب. مجتمعين حولي كربيضة الغنم.. الرّبيض و الرّبيضة الغنم المجتمعة في مربضها.. أي مأواها. و قيل إشارة إلى بلادتهم و نقصان عقولهم، لأنّ الغنم توصف بقلّة الفطنة. فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، و مرقت أخرى، و فسق آخرون.. و في رواية الشيخ و الإحتجاج و قسط آخرون. نهض كمنع قام، و النّكث النّقض، و المروق الخروج، و فسق الرجل كنصر و ضرب فجر و أصله الخروج، و القسط العدل و الجور، و المراد به هنا الثاني. و المراد بالناكثة أصحاب الجمل، و قد روى أنّه عليه السلام كان يتلو وقت مبايعتهم و فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ. و بالمارقة أصحاب النهروان. و بالفاسقة أو القاسطة أصحاب صفّين و سيأتي أخبار النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله بهم و بقتاله عليه السلام معهم. كأنّهم لم يسمعوا اللَّه سبحانه يقول تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. الظاهر رجوع ضمير الجمع إلى الخلفاء الثلاثة لا إلى الطوائف كما توهّم إذ الغرض من الخطبة ذكرهم لا الطوائف، و هو المناسب لما بعد الآية، لا سيّما ضمير الجمع في سمعوها و وعوها. و الغرض تشبيههم في الإعراض عن الآخرة و الإقبال على الدنيا و زخارفها للأغراض الفاسدة بمن أعرض عن نعيم الآخرة لعدم سماع الآية و شرائط الفوز بثوابها، و المشار إليها في الآية هي الجنّة، و الإشارة للتعظيم.. أي تلك الدار التي بلغك وصفها. و العلوّ هو التّكبّر على عباد اللَّه و الغلبة عليهم، و الاستكبار عن العبادة. و الفساد الدعاء إلى عبادة غير اللَّه، أو أخذ المال و قتل النفس بغير حقّ، أو العمل بالمعاصي و الظلم على الناس، و الآية لمّا كانت بعد قصّة قارون و قبله قصّة فرعون فقيل إنّ العلوّ إشارة إلى كفر فرعون، لقوله تعالى فيه عَلا فِي الْأَرْضِ و الفساد إلى بغي قارون لقوله تعالى وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ففي كلامه عليه السلام يحتمل كون الأوّل إشارة إلى الأوّلين، و الثاني إلى الثالث، أو الجميع إليهم جميعا، أو إلى جميع من ذكر في الخطبة كما قيل. بلى و اللَّه لقد سمعوها و وعوها و لكنّهم حليت الدنيا في أعينهم و راقهم زبرجها.. و في رواية الشيخ بلى و اللَّه لقد سمعوها و لكن راقتهم دنياهم و أعجبهم زبرجها.. وعى الحديث كرمى فهمه و حفظه. و حلي فلان بعيني و في عيني بالكسر إذا أعجبك، و كذلك حلى بالفتح يحلو حلاوة. و راقني الشّيء أعجبني. و الزّبرج الزّينة من وشي أو جوهر أو نحو ذلك، قال الجوهري و يقال الزّبرج الذّهب، و في النهاية الزّينة و الذّهب و السّحاب. أما و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر..
و في رواية الشيخ لو لا حضور الناصر و لزوم الحجّة و ما أخذ اللَّه من أولياء الأمر..
الفلق الشّقّ، و برأ... أي خلق، و قيل قلّما يستعمل في غير الحيوان، و النّسمة محركة الإنسان أو النّفس و الرّوح. و الظاهر أنّ المراد بفلق الحبّة شقّها و إخراج النبات منها. و قيل خلقها. و قيل هو الشقّ الذي في الحبّ. و حضور الحاضر.. أمّا وجود من حضر للبيعة فما بعده كالتفسير له، أو تحقّق البيعة على ما قيل، أو حضوره سبحانه و علمه، أو حضور الوقت الذي وقّته الرسول صلّى اللَّه عليه و آله للقيام بالأمر. و ما أخذ اللَّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم.. كلمة ما مصدريّة، و الجملة في محلّ النصب لكونها مفعولا لأخذ أو موصولة و العائد مقدّر، و الجملة بيان لما أخذه اللَّه بتقدير حرف الجر أو بدل منه أو عطف بيان له. و العلماء إمّا الأئمّة عليهم السلام أو الأعمّ، فيدلّ على وجوب الحكم بين الناس في زمان الغيبة لمن جمع الشرائط. و في الإحتجاج على أولياء الأمر أن لا يقرّوا.. و المقارّة على ما ذكره الجوهري أن تقرّ مع صاحبك و تسكن. و قيل إقرار كلّ واحد صاحبه على الأمر و تراضيهما به. و الكظّة ما يعتري الإنسان من الامتلاء من الطّعام، و السّغب بالتحريك الجوع. لألقيت حبلها على غاربها و لسقيت آخرها بكأس أوّلها.. الضمائر راجعة إلى الخلافة، و الغارب ما بين السّنام و العنق أو مقدّم السّنام، و إلقاء الحبل ترشيح لتشبيه الخلافة بالناقة التي يتركها راعيها لترعى حيث تشاء و لا يبالي من يأخذها و ما يصيبها، و ذكر الحبل تخييل. و الكأس إناء فيه شراب أو مطلقا. و سقيها بكأس أوّلها تركها و الإعراض عنها لعدم الناصر. و قال بعض الشارحين التعبير بالكأس لوقوع الناس بذلك الترك في حيرة تشبه السكر. و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي عن عفطة عنز..
و في الإحتجاج و لألفوا دنياكم أهون عندي..
قوله عليه السلام ألفيتم.. أي وجدتم، و إضافة الدنيا إلى المخاطبين لتمكّنها في ضمائرهم و رغبتهم فيها، و الإشارة للتحقير. و الزّهد خلاف الرّغبة، و الزّهيد القليل، و صيغة التفضيل على الأوّل على خلاف القياس كأشهر و أشغل. و العنز بالفتح أنثى المعز، و عفطتها ما يخرج ما أنفها عند النثرة، و هي منها شبه العطسة، كذا قال بعض الشارحين، و أورد عليه أنّ المعروف في العنز النفطة بالنون و في النّعجة العفطة بالعين صرّح به الجوهري و الخليل في العين. و قال بعض الشارحين العفطة من الشاة كالعطاس من الإنسان، و هو غير معروف، و قال ابن الأثير أي ضرطة عنز.
قالوا و قام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا، فأقبل ينظر فيه، فلمّا فرغ من قراءته، قال له ابن عباس رحمة اللَّه عليه يا أمير المؤمنين عليه السلام لو اطّردت مقالتك من حيث أفضيت. فقال له هيهات يا ابن عباس، تلك شقشقة هدرت ثم قرّت.
أهل السّواد ساكنو القرى، و تسمّى القرى سوادا لخضرتها بالزرع و الأشجار، و العرب تسمّي الأخضر أسود. و ناوله أعطاه. و يحتمل أن يكون اطّردت على صيغة الخطاب من باب الإفعال و نصب المقالة على المفعوليّة أو على صيغة المؤنّث الغائب من باب الافتعال، و رفع المقالة على الفاعليّة، و الجزاء محذوف.. أي كان حسنا، و كلمة لو للتمنّي، و قد مرّ تفسير الشقشقة بالكسر. و هدير الجمل ترديده الصّوت في حنجرته و إسناده إلى الشقشقة تجوّز. و قرّت.. أي سكنت. و قيل في الكلام إشعار بقلّة الاعتناء بمثل هذا الكلام إمّا لعدم التأثير في السامعين كما ينبغي، أو لقلّة الاهتمام بأمر الخلافة من حيث إنّها سلطنة، أو للإشعار بانقضاء مدّته عليه السلام، فإنّها كانت في قرب شهادته عليه السلام، أو لنوع من التقيّة أو لغيرها. قال ابن عباس فو اللَّه ما أسفت على كلام قطّ كأسفي على ذلك الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد.. الأسف بالتحريك أشدّ الحزن، و الفعل كعلم، و قطّ من الظّروف الزمانيّة بمعنى أبدا. و حكى ابن أبي الحديد، عن ابن الخشّاب أنّه قال لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له و هل بقي في نفس ابن عمّك أمر لم يبلغه لتتأسّف و اللَّه ما رجع عن الأوّلين و لا عن الآخرين. أقول إنّما أطنبت الكلام في شرح تلك الخطبة الجليلة لكثرة جدواها و قوّة الاحتجاج بها على المخالفين، و شهرتها بين جميع المسلمين، و إن لم نوف في كلّ فقرة حقّ شرحها حذرا من كثرة الإطناب، و تعويلا على ما بيّنته في سائر الأبواب.
شف من كتاب أحمد بن محمد الطبري المعروف بالخليلي، عن أحمد بن محمد بن ثعلبة الخماني، عن مخول بن إبراهيم، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام قال قال ابن عباس كنت أتتبّع غضب أمير المؤمنين عليه السلام إذا ذكر شيئا أو هاجه خبر، فلمّا كان ذات يوم كتب إليه بعض شيعته من الشام يذكر في كتابه أنّ معاوية و عمرو بن العاص و عتبة بن أبي سفيان و الوليد بن عقبة و مروان اجتمعوا عند معاوية فذكروا أمير المؤمنين فعابوه و ألقوا في أفواه الناس أنّه ينتقص أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و يذكر كلّ واحد منهم ما هو أهله، و ذلك لمّا أمر أصحابه بالانتظار له بالنخيلة فدخلوا الكوفة فتركوه، فغلظ ذلك عليه و جاء هذا الخبر فأتيته بابه في الليل، فقلت يا قنبر أيّ شيء خبر أمير المؤمنين قال هو نائم، فسمع كلامي. فقال )ع( من هذا قال ابن عباس يا أمير المؤمنين. قال ادخل فدخلت، فإذا هو قاعد ناحية عن فراشه في ثوب جالس كهيئة المهموم، فقلت ما لك يا أمير المؤمنين الليلة. فقال ويحك يا ابن عباس و كيف تنام عينا قلب مشغول، يا ابن عباس ملك جوارحك قلبك فإذا أرهبه أمر طار النوم عنه، ها أنا ذا كما ترى مذ أوّل الليل اعتراني الفكر و السهر لما تقدّم من نقض عهد أوّل هذه الأمّة المقدّر عليها نقض عهدها، إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله أمر من أمر من أصحابه بالسلام عليّ في حياته بإمرة المؤمنين فكنت أوكد أن أكون كذلك بعد وفاته. يا ابن عباس أنا أولى الناس بالناس بعده و لكن أمور اجتمعت على رغبة الناس في الدنيا و أمرها و نهيها و صرف قلوب أهلها عنّي، و أصل ذلك ما قال اللَّه تعالى في كتابه أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً، فلو لم يكن ثواب و لا عقاب لكان بتبليغ الرسول صلّى اللَّه عليه و آله فرض على الناس اتّباعه، و اللَّه عزّ و جلّ يقول ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، أ تراهم نهوا عنّي فأطاعوه و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة و غدا بروح أبي القاسم صلّى اللَّه عليه و آله إلى الجنّة لقد قرنت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله حيث يقول عزّ و جلّ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، و لقد طال يا ابن عباس فكري و همّي و تجرّعي غصّة بعد غصّة لأمر أو قوم على معاصي اللَّه و حاجتهم إليّ في حكم الحلال و الحرام حتّى إذا أتاهم من الدنيا أظهروا الغنى عنّي، كأن لم يسمعوا اللَّه عزّ و جلّ يقول وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ. و لقد علموا أنّهم احتاجوا إليّ و لقد غنيت عنهم أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فمضى من مضى قال عليّ بضغن القلوب و أورثها الحقد عليّ، و ما ذاك إلّا من أجل طاعته في قتل الأقارب مشركين فامتلوا غيظا و اعتراضا، و لو صبروا في ذات اللَّه لكان خيرا لهم، قال اللَّه عزّ و جلّ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فأبطنوا من ترك الرضا بأمر اللَّه، ما أورثهم النفاق،
و ألزمهم بقلّة الرضا الشقاء و قال اللَّه عزّ و جلّ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا فالآن يا ابن عباس قرنت بابن آكلة الأكباد و عمرو و عتبة و الوليد و مروان و أتباعهم، فمتى اختلج في صدري و ألقي في روعي أنّ الأمر ينقاد إلى دنيا يكون هؤلاء فيها رؤساء يطاعون فهم في ذكر أولياء الرحمن يثلبونهم و يرمونهم بعظائم الأمور من أنّك مختلف، و حقد قد سبق و قد علم المستحفظون ممّن بقي من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله أنّ عامّة أعدائي ممّن أجاب الشيطان عليّ و زهّد الناس فيّ، و أطاع هواه فيما يضرّه في آخرته و باللَّه عزّ و جلّ الغنى، و هو الموفق للرشاد و السداد. يا ابن عباس ويل لمن ظلمني، و دفع حقّي، و أذهب عظيم منزلتي، أين كانوا أولئك و أنا أصلّي مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله صغيرا لم يكتب عليّ صلاة و هم عبدة الأوثان، و عصاة الرحمن، و بهم توقد النيران فلمّا قرب إصعار الخدود، و إتعاس الجدود، أسلموا كرها، و أبطنوا غير ما أظهروا، طمعا في أن يطفئوا نور اللَّه و تربّصوا انقضاء أمر الرسول و فناء مدّته، لما أطمعوا أنفسهم في قتله، و مشورتهم في دار ندوتهم، قال اللَّه عزّ و جلّ وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ، و قال يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. يا ابن عباس ندبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في حياته بوحي من اللَّه يأمرهم بموالاتي، فحمل القوم ما حملهم ممّا حقد على أبينا آدم من حسد اللعين له، فخرج من روح اللَّه و رضوانه، و ألزم اللعنة لحسده لوليّ اللَّه، و ما ذاك بضارّي إن شاء اللَّه شيئا. يا ابن عباس أراد كلّ امرئ أن يكون رأسا مطاعا يميل إليه الدنيا و إلى أقاربه فحمله هواه و لذّة دنياه و اتّباع الناس إليه أن يغصب ما جعل لي، و لو لا اتّقاي على الثقل الأصغر أن ينبذ فينقطع شجرة العلم و زهرة الدنيا و حبل اللَّه المتين، و حصنه الأمين، ولد رسول ربّ العالمين لكان طلب الموت
و الخروج إلى اللَّه عزّ و جلّ ألذّ عندي من شربة ظمآن و نوم وسنان، و لكنّي صبرت و في الصدر بلابل، و في النفس وساوس، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ، و لقديما ظلم الأنبياء، و قتل الأولياء قديما في الأمم الماضية و القرون الخالية فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، و باللَّه أحلف يا ابن عباس أنّه كما فتح بنا يختم بنا، و ما أقول لك إلّا حقّا. يا ابن عباس إنّ الظلم يتّسق لهذه الأمّة و يطول الظلم، و يظهر الفسق، و تعلو كلمة الظالمين، و لقد أخذ اللَّه على أولياء الدين أن لا يقارّوا أعداءه، بذلك أمر اللَّه في كتابه على لسان الصادق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله فقال تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ. يا ابن عباس ذهب الأنبياء فلا ترى نبيّا، و الأوصياء ورثتهم، عنهم أخذوا علم الكتاب، و تحقيق الأسباب، قال اللَّه عزّ و جلّ وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ، فلا يزال الرسول باقيا ما نفدت أحكامه، و عمل بسنّته، و داروا حول أمره و نهيه، و باللَّه أحلف يا ابن عباس لقد نبذ الكتاب، و ترك قول الرسول إلّا ما لا يطيقون تركه من حلال و حرام، و لم يصبروا على كلّ أمر نبيّهم وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ، فبيننا و بينهم المرجع إلى اللَّه وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. يا ابن عباس عامل اللَّه في سرّه و علانيته تكن من الفائزين، و دع من اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً، و يحسب معاوية ما عمل و ما يعمل به من بعده، و ليمدّه ابن العاص في غيّه، فكأن عمره قد انقضى، و كيده قد هوى، و سيعلم الكافر لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ. و أذّن المؤذّن فقال الصلاة يا ابن عباس لا تفت، أستغفر اللَّه لي و لك و حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ، و لا حول و لا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم. قال ابن عباس فغمّني انقطاع الليل و تلهّفت على ذهابه.
بيان
ثلبه تنقّصه و صرّح بعيبه. قوله عليه السلام و بهم توقد النيران.. أي نيران الفتن و الحروب. و في القاموس صعّر خدّه تصعيرا و صاعره و أصعره أماله عن النّظر إلى النّاس تهاونا من كبر و ربّما يكون خلقة. و قال التّعس الهلاك و العثار و السّقوط و الشّرّ و البعد و الانحطاط و الفعل كمنع و سمع، و تعسه اللَّه و أتعسه. انتهى. و الجدود جمع الجدّ بالفتح و هو الحظّ و البخت، أو بالكسر و هو الاجتهاد في الأمور، فيمكن أن يكون إصعار الخدود من المسلمين كناية عن غلبتهم، و إتعاس الجدود للكافرين، أو كلاهما للكافرين.. أي اجتمع فيهم التكبّر و الاضطرار، و يكون المراد بالإصعار صرف وجوههم عمّا قصدوه على وجه الإجبار، و الأوّل أظهر. و الوسنان عن غلبة النّوم. قوله عليه السلام فلا يزال الرسول.. يدلّ على عدم اختصاص الآية بزمن الرسول صلّى اللَّه عليه و آله. قوله يحسب معاوية.. أي يكفيه، و في بعض النسخ بالباء الموحّدة فتكون زائدة،
قال في النهاية في قوله صلّى اللَّه عليه ]و آله[ يحسبك أن تصوم في كلّ شهر ثلاثة أيّام..
أي يكفيك، و لو روي )بحسبك أن تصوم(.. أي كفايتك أو كافيك كقولهم بحسبك قول السّوء، و الباء زائدة لكان وجها انتهى. و الأمر في قوله و ليمدّه للتهديد.
شا روى العباس بن عبد اللَّه العبدي، عن عمرو بن شمر، عن رجاله قال قالوا سمعنا أمير المؤمنين عليه السلام يقول ما رأيت منذ بعث اللَّه محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله رخاء، و الحمد للَّه، و اللَّه لقد خفت صغيرا و جاهدت كبيرا، أقاتل المشركين و أعادي المنافقين حتى قبض اللَّه نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله فكانت الطامّة الكبرى فلم أزل حذرا رجلا أخاف أن يكون ما لا يسعني معه المقام، فلم أر بحمد اللَّه إلّا خيرا، و اللَّه ما زلت أضرب بسيفي صبيّا حتى صرت شيخا، و إنّه ليصبرني على ما أنا فيه إنّ ذلك كلّه في اللَّه، و أنا أرجو أن يكون الروح عاجلا قريبا، فقد رأيت أسبابه. قالوا فما بقي بعد هذه المقالة إلّا يسيرا حتى أصيب عليه السلام.
شا روى عبد اللَّه بن بكير الغنوي، عن حكيم بن جبير، قال حدّثنا من شهد عليّا بالرحبة يخطب، فقال فيما قال أيّها الناس إنّكم قد أبيتم إلّا أن أقول أما و ربّ السماوات و الأرض لقد عهد إليّ خليلي أنّ الأمّة ستغدر بك.
شا روى نقلة الآثار أنّ رجلا من بني أسد وقف على أمير المؤمنين عليّ عليه السلام فقال يا أمير المؤمنين )ع( العجب منكم يا بني هاشم، كيف عدل هذا الأمر عنكم و أنتم الأعلون نسبا و نوطا بالرسول صلّى اللَّه عليه و آله، و فهما للكتاب. فقال أمير المؤمنين عليه السلام يا ابن دودان إنّك لقلق الوضين، ضيّق المخزم، ترسل من غير ذي مسد، لك ذمامة الصهر و حقّ المسألة، و قد استعلمت فاعلم، كانت أثرة سخت بها نفوس قوم و شحّت عليها نفوس آخرين )فدع عنك نهبا صيح في حجراته( و هلمّ الخطب في أمر ابن أبي سفيان، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه، و لا غرو، بئس القوم و اللَّه من خفّضني و هيّني و حاولوا الإدهان في ذات اللَّه، هيهات ذلك منّي فإن تنحسر عنّا محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه، و إن تكن الأخرى فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ و فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
د في كتاب الإرشاد لكيفيّة الطلب في أئمّة العباد تصنيف محمد ابن الحسن الصفّار، قال و قد كفانا أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليه المئونة في خطبة خطبها، أودعها من البيان و البرهان ما يجلي الغشاوة عن أبصار متأمّليه، و العمى عن عيون متدبّريه، و حلّينا هذا الكتاب بها ليزداد المسترشدون في هذا الأمر بصيرة، و هي منّة اللَّه جل ثناؤه علينا و عليهم يجب شكرها.. خطب صلوات اللَّه عليه فقال ما لنا و لقريش و ما تنكر منّا قريش غير أنّا أهل بيت شيّد اللَّه فوق بنيانهم بنياننا، و أعلى فوق رءوسهم رءوسنا، و اختارنا اللَّه عليهم، فنقموا على اللَّه أن اختارنا عليهم، و سخطوا ما رضي اللَّه، و أحبّوا ما كره اللَّه، فلمّا اختارنا اللَّه عليهم شركناهم في حريمنا، و عرّفناهم الكتاب و النبوّة، و علّمناهم الفرض و الدين، و حفظناهم الصحف و الزبر، و دينّاهم الدين و الإسلام، فوثبوا علينا، و جحدوا فضلنا، و منعونا حقّنا، و ألتونا أسباب أعمالنا و أعلامنا، اللّهمّ فإنّي أستعديك على قريش فخذ لي بحقّي منها، و لا تدع مظلمتي لديها، و طالبهم يا ربّ بحقّي، فإنّك الحكم العدل، فإنّ قريشا صغّرت عظيم أمري، و استحلّت المحارم منّي، و استخفت بعرضي و عشيرتي، و قهرتني على ميراثي من ابن عمّي و أغرّوا بي أعدائي، و وتروا بيني و بين العرب و العجم، و سلبوني ما مهّدت لنفسي من لدن صباي بجهدي و كدّي، و منعوني ما خلفه أخي و جسمي و شقيقي، و قالوا إنّك لحريص متّهم أ ليس بنا اهتدوا من متاه الكفر، و من عمى الضلالة و عيّ الظلماء، أ ليس أنقذتهم من الفتنة الصمّاء، و المحنة العمياء ويلهم أ لم أخلّصهم من نيران الطغاة، و كرة العتاة، و سيوف البغاة، و وطأة الأسد، و مقارعة الطماطمة، و مماحكة القماقمة، الذين كانوا عجم العرب، و غنم الحروب، و قطب الأقدام، و جبال القتال، و سهام الخطوب، و سلّ السيوف، أ ليس بي كان يقطع الدروع الدلاص، و تصطلم الرجال الحراص، و بي كان يفرى جماجم البهم، و هام الأبطال، إذا فزعت تيم إلى الفرار، و عديّ إلى الانتكاص أما و إنّي لو أسلمت قريشا للمنايا و الحتوف، و تركتها فحصدتها سيوف الغوانم، و وطأتها خيول الأعاجم، و كرات الأعادي، و حملات الأعالي، و طحنتهم سنابك الصافنات، و حوافر الصاهلات، في مواقف الأزل و الهزل في ظلال الأعنّة و بريق الأسنّة، ما بقوا لهضمي، و لا عاشوا لظلمي، و لما قالوا إنّك لحريص متّهم اليوم نتواقف على حدود الحقّ و الباطل، اللّهمّ افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، فإنّي مهّدت مهاد نبوّة محمّد صلّى اللَّه عليه و آله، و رفعت أعلام دينك، و أعلنت منار رسولك، فوثبوا عليّ و غالبوني و نالوني و واتروني.. فقام إليه أبو حازم الأنصاري فقال يا أمير المؤمنين )ع( أبو بكر و عمر ظلماك أ حقّك أخذا و على الباطل مضيا أ على حقّ كانا أ على صواب أقاما أم ميراثك غصبا أ فهمنا لنعلم باطلهم من حقّك أو نعلم حقّهما من حقّك أ بزّاك أمرك أم غصباك إمامتك أم غالباك فيها عزّا أم سبقاك إليها عجلا فجرت الفتنة و لم تستطع منها استقلالا فإنّ المهاجرين و الأنصار يظنّان أنّهما كانا على حقّ و على الحجة الواضحة مضيا. فقال صلوات اللَّه عليه يا أخا اليمن لا بحقّ أخذا، و لا على إصابة أقاما، و لا على دين مضيا، و لا على فتنة خشيا، يرحمك اللَّه، اليوم نتواقف على حدود الحقّ و الباطل أ تعلمون يا إخواني أنّ بني يعقوب على حقّ و محجّة كانوا حين باعوا أخاهم، و عقّوا أباهم، و خانوا خالقهم، و ظلموا أنفسهم. فقالوا لا. فقال رحمكم اللَّه، أ يعلم إخوانك هؤلاء أنّ ابن آدم قاتل الأخ كان على حقّ و محجّة و إصابة و أمره من رضى اللَّه. فقالوا لا. فقال أ و ليس كلّ فعل بصاحبه ما فعل لحسده إيّاه و عدوانه و بغضائه له. فقالوا نعم. قال و كذلك فعلا بي ما فعلا حسدا، ثم إنّه لم يتب على ولد يعقوب إلّا بعد استغفار و توبة، و إقلاع و إنابة، و إقرار، و لو أنّ قريشا تابت إليّ و اعتذرت من فعلها لاستغفرت اللَّه لها. ثم قال إنّما أنطق لكم العجماء ذات البيان، و أفصح الخرساء ذات
البرهان، لأنّي فتحت الإسلام، و نصرت الدين، و عززت الرسول، و ثبّت أركان الإسلام، و بيّنت أعلامه، و علّيت مناره، و أعلنت أسراره، و أظهرت آثاره و حاله، و صفّيت الدولة، و وطئت للماشي و الراكب، ثم قدتها صافية، على أنّي بها مستأثرا. ثم قال بعد كلام ثم سبقني إليه التيميّ و العدويّ كسباق الفرس احتيالا و اغتيالا، و خدعة و غلبة. ثم قال بعد كلام اليوم أنطق الخرساء ذات البرهان، و أفصح العجماء ذات البيان، فإنّه شارطني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في كلّ موطن من مواطن الحروب، و صافقني على أن أحارب للَّه و أحامي للَّه، و أنصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله جهدي و طاقتي و كدحي، و كدّي، و أحامي عن حريم الإسلام، و أرفع عن أطناب الدين، و أعزّ الإسلام و أهله، على أنّ ما فتحت و بيّنت عليه دعوة الرسول صلّى اللَّه عليه و آله و قرأت فيه المصاحف، و عبد فيه الرحمن، و فهم به القرآن، فلي إمامته و حلّه و عقده، و إصداره و إيراده، و لفاطمة فدك و ممّا خلّفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله النصف، فسبقاني إلى جميع نهاية الميدان يوم الرهان، و ما شككت في الحقّ منذ رأيته، هلك قوم أرجفوا عنّي أنّه لم يوجس موسى في نفسه خيفة ارتيابا و لا شكّا فيما أتاه من عند اللَّه، و لم أشكّك فيما أتاني من حقّ اللَّه، و لا ارتبت في إمامتي و خلافة ابن عمّي و وصيّة الرسول، و إنّما أشفق أخو موسى من غلبة الجهّال، و دول الضلال، و غلبة الباطل على الحقّ، و لمّا أنزل اللَّه عزّ و جلّ وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله فاطمة فنحلها فدك و أقامني للناس علما و إماما، و عقد لي و عهد إليّ فأنزل اللَّه عزّ و جلّ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فقاتلت حقّ القتال، و صبرت حقّ الصبر، على أنّه أعزّ تيما و عديّا على دين أتت به تيم و عدي، أم على دين أتى به ابن عمّي و صنوي و جسمي، على أن أنصر تيما و عديّا أم أنصر ابن عمّي و حقّي و ديني و إمامتي و إنّما قمت تلك المقامات، و احتملت تلك الشدائد، و تعرّضت للحتوف على أن يصيبني من الآخرة موفّرا، و إنّي صاحب محمّد و خليفته، و إمام أمّته بعده، و صاحب رايته في الدنيا و الآخرة. اليوم أكشف السريرة عن حقّي، و أجلي القذى عن ظلامتي، حتى يظهر لأهل اللّبّ و المعرفة أنّي مذلّل مضطهد مظلوم مغصوب مقهور محقور، و أنّهم ابتزّوا حقّي، و استأثروا بميراثي. اليوم نتواقف على حدود الحقّ و الباطل، من استودع خائنا فقد غشّ نفسه، من استرعى ذئبا فقد ظلم، من ولي غشوما فقد اضطهد، هذا موقف صدق، و مقام أنطق فيه بحقّي، و أكشف الستر و الغمّة عن ظلامتي يا معشر المجاهدين المهاجرين و الأنصار أين كانت سبقة تيم و عدي إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة ألا كانت يوم الأبواء إذ تكانفت الصفوف، و تكاثرت الحتوف، و تقارعت السيوف أم هلّا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد ودّ و قد نفخ بسيفه، و شمخ بأنفه، و طمح بطرفه و لم لم يشفقا على الدين و أهله يوم بواط إذا اسودّ لون الأفق، و اعوجّ عظم العنق، و انحلّ سيل الغرق و لم يشفقا يوم رضوى إذ السهام تطير، و المنايا تسير، و الأسد تزأر و هلا بادرا يوم العشيرة إذا الأسنان تصطكّ، و الآذان تستكّ، و الدروع تهتك و هلّا كانت مبادرتهما يوم بدر، إذ الأرواح في الصعداء ترتقي، و الجياد بالصناديد ترتدي، و الأرض من دماء الأبطال ترتوي و لم لم يشفقا على الدين يوم بدر
الثانية، و الرعابيب ترعب، و الأوداج تشخب، و الصدور تخضب أم هلّا بادرا يوم ذات الليوث، و قد أبيح المتولّب، و اصطلم الشوقب، و أدلهمّ الكوكب و لم لا كانت شفقتهما على الإسلام يوم الكدر، و العيون تدمع، و المنية تلمع، و الصفائح تنزع.. ثم عدّد وقائع النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله كلّها على هذا النسق، و قرعهما بأنّهما في هذه المواقف كلّها كانا مع النظّارة و الخوالف و القاعدين، فكيف بادرا الفتنة بزعمهما يوم السقيفة و قد توطّأ الإسلام بسيفه، و استقرّ قراره، و زال حذاره. ثم قال بعد ذلك كلّه ما هذه الدهماء و الدهياء التي وردت علينا من قريش أنا صاحب هذه المشاهد، و أبو هذه المواقف، و ابن هذه الأفعال. يا معشر المهاجرين و الأنصار إنّي على بصيرة من أمري، و على ثقة من ديني، اليوم أنطقت الخرساء البيان، و فهّمت العجماء الفصاحة، و أتيت العمياء بالبرهان، هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ قد توافقنا على حدود الحقّ و الباطل، و أخرجتكم من الشبهة إلى الحقّ، و من الشكّ إلى اليقين، فتبرّءوا رحمكم اللَّه ممّن نكث البيعتين، و غلب الهوى به فضلّ، و أبعدوا رحمكم اللَّه ممّن أخفى الغدر و طلب الحقّ من غير أهله فتاه، و العنوا رحمكم اللَّه من انهزم الهزيمتين إذ يقول اللَّه إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، و قال وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. و اغضبوا رحمكم اللَّه على من غضب اللَّه عليهم، و تبرّءوا رحمكم اللَّه ممّن يقول فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يرتفع يوم القيامة ريح سوداء تختطف من دوني قوما من أصحابي من عظماء المهاجرين، فأقول أصيحابي. فيقال يا محمّد إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. و تبرّءوا رحمكم اللَّه من النفس الضالّ من قبل أن يأتي يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ فيقولوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ و من قبل أن يقولوا يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أو يقولوا وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أو يقولوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، إنّ قريشا طلبت السعادة فشقيت، و طلبت النجاة فهلكت، و طلبت الهداية فضلّت. إنّ قريشا قد أضلّت أهل دهرها و من يأتي من بعدها من القرون، إنّ اللَّه تبارك اسمه وضع إمامتي في قرآنه فقال وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، و قال الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ.. و هذه خطبة طويلة. و قد قال صلوات اللَّه عليه في بعض مقاماته كلاما لو لم يقل غيره لكفى قوله صلوات اللَّه عليه أنا وليّ هذا الأمر دون قريش، لأنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قال الولاء لمن أعتق، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بعتق الرقاب من النار، و بعتقها من السيف، و هذان لمّا اجتمعا كانا أفضل من عتق الرقاب من الرقّ، فما كان لقريش على العرب برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله كان لبني هاشم على قريش، و ما كان لبني هاشم على قريش برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله كان لي على بني هاشم، لقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يوم غدير خمّ »من كنت مولاه فعليّ مولاه«.
بيان
ديّنّاهم على بناء التفعيل.. أي جعلنا الإسلام دينهم و قرّرناهم عليه. قال الفيروزآبادي دان فلانا حمله على ما يكره و أذلّه، و ديّنه تديينا وكله إلى دينه. و في المناقب و علّمناهم الفرائض و السنن، و حفّظناهم الصدق و اللين، و ورّثناهم الدين. قوله عليه السلام و ألتونا.. أي نقصونا و منعونا ما هو من أسباب قوّتنا و اقتدارنا. و أعلامنا بالفتح.. أي ما هو علامة لإمامتنا و دولتنا، أو بالكسر.. أي ما هو سبب تعليمنا، كما قال تعالى وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ. و في المناقب و التوونا.. من التوى عن الأمر.. أي تثاقل. و ليّ الغريم معروف، و يقال استعديت على فلان الأمير فأعداني.. أي استعنت به عليه فأعانني عليه. قوله و وتروا.. أي ألقوا الجنايات و الدخول بيني و بين العرب و العجم، فإنّهم غصبوا خلافتي و أجروا الناس على الباطل، فصار ذلك سببا للحروب و سفك الدماء، و الوتر بالكسر الجناية، و الموتور الّذي له قتيل فلم يدرك بدمه. و المتاه اسم مكان، أو مصدر ميميّ من التّيه و هو الحيرة و الضّلالة. و قال في النهاية فيه.. »الفتنة الصّمّاء العمياء«.. أي الّتي لا سبيل إلى تسكينها لتناهيها في رهانها، لأنّ الأصمّ لا يسمع الاستغاثة و لا يقلع عمّا يفعله، و قيل هي كالحيّة الصّمّاء الّتي لا تقبل الرّقى. قوله عليه السلام و وطأة الأسد.. قال الجزري الوطء في الأصل الدّوس بالقدم فسمّي به الغزو و القتل، لأنّ من يطأ على الشّيء برجله فقد استقصى في هلاكه و إهانته.. و منه الحديث »اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر«.. أي خذهم أخذا شديدا. و الطّمطام معظم ماء البحر، و قد يستعار لمعظم النّار، و استعير هنا لعظماء أهل الشرّ و الفساد. و قال الجوهري المحك اللّجاج.. و المماحكة الملاجّة. و القمقام البحر و الأمر الشّديد و السّيّد و العدد الكثير. قوله عليه السلام و عجم العرب.. أي كانوا من العرب بمنزلة الحيوانات العجم. قوله عليه السلام و غنم الحرب.. أي أهل غنم الحرب الذين لهم غنائمها أو يغتنمونها، و يمكن أن يقرأ الحرب بالتحريك و هو سلب المال، و في بعض النسخ الحروب. قوله عليه السلام و قطب الإقدام.. لعلّه بكسر الهمزة.. أي كانوا كالقطب للإقدام على الحروب، أو بالفتح أي بهم كانت الأقدام تستقرّ في الحروب، أو كانت أقدامهم بمنزلة القطب لرحا الحرب، و القطب أيضا سيّد القوم و ملاك الشّيء و مداره، ذكره الفيروزآبادي. قوله عليه السلام و سلّ السيوف.. الحمل على المبالغة أي سلّال السّيوف، و لعلّه تصحيف، و في بعض النسخ سيل السيوف. و الدلاص بالكسر الليّن البرّاق، يقال درع دلاص و أدرع دلاص. قوله عليه السلام يفري جماجم البهم.. و في بعض النسخ يبرئ بالباء الفري الشّقّ و البري النّحت، و البهم كصرد جمع بهمة، و هو الفارس الّذي لا يدرى من أين يؤتى من شدّة بأسه، و الجمجمة بالضم القحف أو العظم فيه الدّماغ، و الهام جمع هامة و هو رأس كلّ شيء، و الأبطال الشّجعان، و النّكص الإحجام عن الأمر و الرّجوع عنه، و الحتوف بالضم جمع الحتف بالفتح و هو الموت، و الغوانم الجيوش الغانمة، و في بعض النسخ العرازم جمع عرزم و هو الشّديد و الأسد، و في
بعضها الغراة، و السّنبك بالضم طرف الحافر، و صفن الفرس قام على ثلاثة قوائم و طرف حافر الرّابعة، و الأذل الضّيق و الشّدّة. قوله عليه السلام و الهزل.. لعلّ المراد أنّهم لم يكونوا يثبتون في مقام الهزل فكيف في مقام الجدّ، و في بعض النسخ و الزلزال. قوله عليه السلام في ظلال الأعنّة و في بعض النسخ في طلاب الأعنّة.. أي مطالبتها، و في بعضها في إطلاق الأعنّة، و هو أصوب. قوله عليه السلام نتواقف.. أي وقفت على حدّ الحقّ و وقفتم على حدّ الباطل. قوله عليه السلام و نالوني.. أي أصابوني بالمكاره، و في بعض النسخ قالوني.. من القلاء و هو البغض، و يقال بزّه ثيابه و ابتزّه إذا سلبه إيّاها. قوله عليه السلام العجماء ذات البيان.. قيل كنّى عليه السلام بها عن العبر الواضحة و ما حلّ بقوم فسقوا عن أمر ربّهم، و عمّا هو واضح من كمال فضله عليه السلام، و عن حال الدين، و مقتضى أوامر اللَّه تعالى، فإنّ هذه الأمور عجماء لا نطق لها. بيانا.. ذات البيان حالا ]كذا[، و لمّا بيّنها عليه السلام فكأنّه أنطقها لهم. و قيل العجماء صفة لمحذوف.. أي الكلمات العجماء، و المراد ما في هذه الخطبة من الرموز التي لا نطق لها مع أنّها ذات بيان عند أولي الألباب. قوله عليه السلام على أنّي بها مستأثر.. على بناء المفعول، و الاستئثار الاستبداد و الانفراد بالشّيء، و الكلام مسوق على المجاز.. أي ثم تصرفوا في الخلافة على وجه كأنّي فعلت جميع ذلك ليأخذوها منّي مستبدّين بها، و يحتمل الاستفهام الإنكاري، و يمكن أن يقرأ على بناء اسم الفاعل. و الكدح العمل و السّعي. و الغشم الظّلم. و اكتنفه أحاط به، و كانفه عاونه. و قال الجوهري نفحه بالسّيف تناوله من بعيد. قوله عليه السلام تزأر.. الزّرء و الزّئير صوت الأسد من صدره، و الفعل كضرب و منع و سمع، و في بعض النسخ بالياء، و لعلّه على التخفيف بالقلب لرعاية السجع. و الاستكاك الصّمم. و الصّعدا المشقّة، أو هو بالمدّ بمعنى ما يصعد عليه. قوله عليه السلام ترتدي.. لعلّه عليه السلام شبّه وقوعهم بعد القتل على أعناق الجياد بارتدائها بهم، أو هو افتعال من الردى و هو الهلاك و إن لم يأت فيما عندنا من كتب اللغة، و في بعض النسخ تردى، فالباء زائدة أو بمعنى مع، أو للتعدية إذا قرئ على بناء المجرّد، و يقال ردى الفرس كرمى إذا رجمت الأرض بحوافرها، أو بين العدو و المشي، و الشيء كسره، و فلانا صدمه و ردى ردى هلك. قوله عليه السلام و الرعابيب ترعب.. قال الفيروزآبادي الرّعبوب الضّعيف الجبان، و جارية رعبوبة و رعبوب و رعبيب بالكسر شطبة تارّة أو بيضاء حسنة رطبة حلوة أو ناعمة، و من النّوق طيّاشة. و في المناقب و الدعاس ترعب.. من الدّعس و هو الطّعن، و المداعسة المطاعنة. قوله عليه السلام و قد أبيح التّولب.. التّولب ولد الحمار، و هو كناية عن كثرة الغنائم أو الأسارى على الاستعارة. و في المناقب و قد أمج التّولب.. أمّا بتشديد الجيم من أمجّ الفرس إذا بدأ بالجري قبل أن يضطرم، و أمجّ الرّجل إذا ذهب في البلاد، أو بالتخفيف من أمج كفرح إذا سار شديدا، و لعلّه على الوجهين كناية عن الفرار، و النسخة الأولى أظهر و أنسب. و الاصطلام الاستئصال. و الشّوقب الرّجل الطّويل، و الواسع من الحوافر. و خشبتا القتب اللّتان تعلّق فيهما الحبال. قوله عليه السلام و الصفائح تنزع.. في بعض النسخ تربع.. من ربع الإبل إذا سرحت في المرعى و أكلت حيث شاءت و شربت، و كذلك الرّجل بالمكان. ثم إنّ غزوة الأبواء وقعت بعد اثني عشر شهرا من الهجرة، خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله من المدينة يريد قريشا و بني ضمرة، قالوا ثم رجع و لم يلق كيدا، و غزوة بواط كانت في السنة الثانية في ربيع الأوّل و بعدها في جمادى الآخرة كانت غزوة العشيرة، و الرّضوى جبل بالمدينة، و لا يبعد كونه إشارة إلى
غزوة أحد، و ذات الليوث إلى غزوة حنين، و الكدو و في بعض النسخ الأكيدر إلى غزوة دومة الجندل، و قد مرّ تفصيلها في المجلد السادس. و في القاموس وطّأه هيّأه و دمّثه و سهّله.. فاتّطأ.. و واطأه على الأمر وافقه كتواطأه و توطّأه.. و ايتطأ كافتعل استقام و بلغ نهايته و تهيّأ. و الدّهماء الفتنة المظلمة، و الدّهياء الدّاهية الشّديدة. أقول أورد ابن شهرآشوب في المناقب الخطبة الأولى إلى قوله و أين هذه الأفعال الحميدة.. مع اختصار في بعض المواضع.
فس قال أمير المؤمنين عليه السلام أيّها النّاس إنّ أوّل من بغى على اللَّه عزّ و جلّ على وجه الأرض عناق بنت آدم عليه السلام، خلق اللَّه لها عشرين إصبعا، في كلّ إصبع منها ظفران طويلان كالمنجلين العظيمين، و كان مجلسها في الأرض موضع جريب، فلمّا بغت بعث اللَّه لها أسدا كالفيل و ذئبا كالبعير و نسرا كالحمار و كان ذلك في الخلق الأوّل، فسلّطهم اللَّه عليها فقتلوها، ألا و قد قتل اللَّه فرعون و هامان و خسف بقارون، و إنّما هذا مثل لأعدائه الذين غصبوا حقّه فأهلكهم اللَّه. ثم قال عليّ صلوات اللَّه عليه على إثر هذا المثل الذي ضربه و قد كان لي حقّ حازه دوني من لم يكن له، و لم أكن أشركه فيه، و لا توبة له إلّا بكتاب منزل، أو برسول مرسل، و أنّى له بالرسالة بعد محمّد صلّى اللَّه عليه و آله، و لا نبيّ بعد محمّد صلّى اللَّه عليه و آله، و أنّى يتوب و هم في برزخ القيامة غرّته الأماني و غرّه باللَّه الغرور، قد أشفى عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
ما أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت، عن ابن عقدة، عن أحمد بن القاسم، عن عباد، عن عبد اللَّه بن الزبير، عن عبد اللَّه بن شريك، عن أبيه، قال صعد عليّ عليه السلام المنبر يوم الجمعة فقال أنا عبد اللَّه و أخو رسول اللَّه لا يقولها بعدي إلّا كذّاب، ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله، أمرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بقتال الناكثين طلحة و الزبير، و القاسطين معاوية و أهل الشام، و المارقين و هم أهل النهروان، و لو أمرني بقتال الرابعة لقاتلتهم.
قب البخاري و مسلم بالإسناد، قال قيس بن سعد قال عليّ )ع( إنّ أوّل من يحثو للحكومة بين يدي اللَّه.
جا الكاتب، عن الزعفراني، عن الثقفي، عن المسعودي، عن الحسن بن حمّاد، عن أبيه، عن رزين بيّاع الأنماط، قال سمعت زيد بن عليّ بن الحسين عليهما السلام يقول حدّثني أبي، عن أبيه، قال سمعت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام يخطب الناس قال في خطبته و اللَّه لقد بايع الناس أبا بكر و أنا أولى الناس بهم منّي بقميصي هذا، فكظمت غيظي، و انتظرت أمر ربّي، و ألصقت كلكلي بالأرض، ثم إنّ أبا بكر هلك و استخلف عمر، و قد علم و اللَّه أنّي أولى النّاس بهم منّي بقميصي هذا، فكظمت غيظي، و انتظرت أمر ربّي، ثم إنّ عمر هلك و قد جعلها شورى، فجعلني سادس ستة، كسهم الجدة و قال اقتلوا الأقلّ و ما أراد غيري، فكظمت غيظي، و انتظرت أمر ربّي، و ألصقت كلكلي بالأرض، ثم كان من أمر القوم بعد بيعتهم لي ما كان، ثم لم أجد إلّا قتالهم أو الكفر باللَّه.
بيان الكلكل الصّدر. جا ابن قولويه، عن أبيه، عن سعد، عن أحمد بن علوية، عن الثقفي، عن محمد بن عمرو الرازي، عن الحسن بن المبارك، عن الحسن بن سلمة، قال لمّا بلغ أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليه مسير طلحة و الزبير و عائشة من مكة إلى البصرة نادى الصلاة جامعة، فلمّا اجتمع الناس حمد اللَّه و أثنى عليه ثم قال أمّا بعد، فإنّ اللَّه تبارك و تعالى لمّا قبض نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله قلنا نحن أهل بيته و عصبته و ورثته و أولياؤه و أحقّ خلائق اللَّه به، لا ننازع حقّه و سلطانه، فبينما نحن إذ نفر المنافقون فانتزعوا سلطان نبيّنا صلّى اللَّه عليه و آله منّا و ولوه غيرنا، فبكت لذلك و اللَّه العيون و القلوب منّا جميعا، و خشنت و اللَّه الصدور، و ايم اللَّه لو لا مخافة الفرقة من المسلمين أن يعودوا إلى الكفر، و يعود الدين، لكنّا قد غيّرنا ذلك ما استطعنا، و قد ولي ذلك ولاة و مضوا لسبيلهم و ردّ اللَّه الأمر إليّ، و قد بايعاني و قد نهضا إلى البصرة ليفرّقا جماعتكم، و يلقيا بأسكم بينكم، اللّهمّ فخذهما لغشّهما لهذه الأمّة، و سوء نظرهما للعامّة. فقام أبو الهيثم ابن التيهان رحمه اللَّه فقال يا أمير المؤمنين إنّ حسد قريش إيّاك على وجهين، أمّا خيارهم فحسدوك منافسة في الفضل و ارتفاعا في الدرجة، و أمّا شرارهم فحسدوك حسدا أحبط اللَّه به أعمالهم و أثقل به أوزارهم، و ما رضوا أن يساووك حتى أرادوا أن يتقدّموك، فبعدت عليهم الغاية، و أسقطهم المضمار، و كنت أحقّ قريش بقريش، نصرت نبيّهم حيّا، و قضيت عنه الحقوق ميّتا، و اللَّه ما بغيهم إلّا على أنفسهم، و نحن أنصارك و أعوانك، فمرنا بأمرك، ثم أنشأ يقول
إنّ قوما بغوا عليك و كادوك و عابوك بالأمور القباحليس من عيبها جناح بعوض فيك حقّا و لا كعشر جناحأبصروا نعمة عليك من اللَّه و قوما يدقّ قرن النطاحو إماما تأوي الأمور إليه و لجاما لمن غرب الجماحكلّما تجمع الإمامة فيه هاشميّا لها عراض البطاححسدا للّذي أتاك من اللَّه و عادوا إلى قلوب قراحو نفوس هناك أوعية البغض على الخير للشقاء شحاحمن مسير يكنّه حجب الغيب و من مظهر العداوة لاحيا وصيّ النبيّ نحن من الحقّ على مثل بهجة الأصباح
فخذ الأوس و القبيل من الخزرج بالطعن في الوغا و الكفاحليس منّا من لم يكن لك في اللَّه وليّا على الهدى و الفلاح
فجزّاه أمير المؤمنين عليه السلام خيرا، ثم قام الناس بعده فتكلّم كلّ واحد بمثل مقاله.
بيان
القرم السّيد. و النّطاح بالكسر الكباش النّاطحة بالقرن، استعيرت هذا للشجعان. و جماح الفرس امتناعه من راكبه. قوله قراح.. أي مقروحة بالحسد. قوله على الخير متعلّق بالشحاح كقوله تعالى أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ، و اللاحي اللائم، و الملاحي المنازع، و يقال كافحوهم إذا استقبلوهم في الحرب بوجوههم ليس دونها ترس و لا غيره.
جا الكاتب، عن الزعفراني، عن الثقفي، عن المسعودي، عن محمد بن كثير، عن يحيى بن حمّاد القطّان، عن أبي محمد الحضرمي، عن أبي عليّ الهمداني أنّ عبد الرحمن بن أبي ليلى قام إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال يا أمير المؤمنين إنّي سائلك لآخذ عنك، و قد انتظرنا أن تقول من أمرك شيئا فلم تقله، أ لا تحدّثنا عن أمرك هذا.. أ كان بعهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله أو شيء رأيته فأمّا قد أكثرنا فيك الأقاويل و أوثقه عندنا ما قبلناه عنك و سمعناه من فيك، إنّا كنّا نقول لو رجعت إليكم بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله لم ينازعكم فيها أحد، و اللَّه ما أدري إذا سئلت ما أقول أزعم أنّ القوم كانوا أولى بما كانوا فيه منك فإن قلت ذلك فعلام نصّبك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بعد حجّة الوداع، فقال أيّها الناس من كنت مولاه فعليّ مولاه. و إن تك أولى منهم بما كانوا فيه فعلام نتولّاهم. فقال أمير المؤمنين عليه السلام يا عبد الرحمن إنّ اللَّه تعالى قبض نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أنا يوم قبضه أولى بالناس منّي بقميصي هذا، و قد كان من نبيّ اللَّه )ص( إليّ عهد لو خزمتموني بأنفي لأقررت سمعا للَّه و طاعة، و إنّ أوّل ما انتقصناه بعده إبطال حقّنا في الخمس، فلمّا رقّ أمرنا طمعت رعيان البهم من قريش فينا، و قد كان لي على الناس حقّ لو ردّوه إليّ عفوا قبلته و قمت به، فكان إلى أجل معلوم، و كنت كرجل له على الناس حقّ إلى أجل، فإن عجّلوا له ماله أخذه و حمدهم عليه، و إن أخّروه أخذه غير محمود، و كنت كرجل يأخذ السهولة و هو عند الناس محزون، و إنّما يعرف الهدى بقلّة من يأخذه من الناس، فإذا سكت فاعفوني، فإنّه لو جاء أمر تحتاجون فيه إلى الجواب أجبتكم، فكفّوا عنّي ما كففت عنكم. فقال عبد الرحمن يا أمير المؤمنين فأنت لعمرك كما قال الأوّل
لعمري لقد أيقظت من كان نائما و أسمعت من كانت له أذنان
بيان
خزمت البعير بالخزامة و هي حلقة من شعر تجعل في وترة أنفه يشدّ فيها الزمام. قوله عليه السلام رعيان البهم.. أي رعاة البهائم و الأنعام. و قال الجوهري يقال أعطيته عفو المال يعني بغير مسألة. و قال في النهاية في حديث المغيرة محزون اللّهزمة.. أي خشنها.. و منه الحديث أحزن بنا المنزل.. أي صار ذا حزونة.. و يجوز أن يكون من قولهم أحزن الرّجل و أسهل إذا ركب الحزن و السّهل.
كا في الروضة، عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عليّ بن رئاب و يعقوب السرّاج، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا بويع بعد مقتل عثمان صعد المنبر فقال الحمد للَّه الذي علا فاستعلى، و دنا فتعالى، و ارتفع فوق كلّ منظر، و أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله خاتم النبيّين، و حجّة اللَّه على العالمين، مصدّقا للرسل الأوّلين، و كان بالمؤمنين رءوفا رحيما، فصلّى اللَّه و ملائكته عليه و على آله. أمّا بعد، أيّها الناس فإنّ البغي يقود أصحابه إلى النار، و إنّ أوّل من بغى على اللَّه جلّ ذكره عناق بنت آدم، و أوّل قتيل قتله اللَّه عناق، و كان مجلسها جريبا من الأرض في جريب، و كان لها عشرون إصبعا في كلّ إصبع ظفران مثل المنجلين، فسلّط اللَّه عزّ و جلّ عليها أسدا كالفيل و ذئبا كالبعير و نسرا مثل البغل فقتلوها، و قد قتل اللَّه الجبابرة على أفضل أحوالهم، و آمن ما كانوا، و أمات هامان، و أهلك فرعون، و قد قتل عثمان، ألا و إن بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللَّه نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله، و الذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة و لتغربلنّ غربلة، و لتساطنّ سوطة القدر حتّى يعود أسفلكم أعلاكم و أعلاكم أسفلكم، و ليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا، و ليقصرنّ سابقون كانوا سبقوا، و اللَّه ما كتمت وشمة، و لا كذبت كذبة، و لقد نبّئت بهذا المقام و هذا اليوم، ألا و إنّ الخطايا خيل شمس حمل أهلها عليها، و خلعت لجمها فتقحّمت بهم في النار، ألا و إنّ التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها و أعطوا أزمّتها، فأوردتهم الجنّة، و فتحت لهم أبوابها، وجدوا ريحها و طيبها، و قيل لهم ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ، ألا و قد سبقني إلى هذا الأمر من لم أشركه فيه، و من لم أهبه له، و من ليست له منه نوبة إلّا نبيّ يبعث، ألا و لا نبيّ بعد محمّد صلّى اللَّه عليه و آله، أشرف منه عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ حقّ و باطل، و لكلّ أهل، فلئن أمر الباطل لقديما ما فعل، و لئن قلّ الحقّ فلربّما و لعلّ و لقلّما أدبر شيء فأقبل، و لئن ردّ عليكم أمركم إنّكم سعداء، و ما عليّ إلّا الجهد، و إنّي لأخشى أن تكونوا على فترة ملتم عنّي ميلة كنتم فيها عندي غير محمودي الرأي، و لو أشاء لقلت عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، سبق فيه الرجلان و قام الثالث كالغراب همّه بطنه، ويله لو قصّ جناحاه و قطع رأسه كان خيرا له، شغل عن الجنّة و النار أمامه، ثلاثة و اثنان، خمسة ليس لهم سادس، ملك يطير بجناحيه، و نبيّ أخذ اللَّه بضبعيه، و ساع مجتهد، و طالب يرجو، و مقصّر في النار، اليمين و الشمال مضلّة و الطريق الوسطى هي الجادّة، عليها يأتي الكتاب و آثار النبوّة، هلك من ادّعى، و خابَ مَنِ افْتَرى، إنّ اللَّه أدّب هذه الأمّة بالسيف و السوط و ليس لأحد عند الإمام فيهما هوادة، فاستتروا في بيوتكم و أصلحوا ذات بينكم، و التوبة من ورائكم، من أبدى صفحته للحقّ هلك.
بيان
قوله عليه السلام علا فاستعلى.. الاستعلاء هنا مبالغة في العلو، أي علا عن رتبة المخلوقين فاستعلى عن التشبّه بصفاتهم، أو كان عاليا بالذات و الصفات فأظهر و بيّن علوّه بالإيجاد، أو طلب علوّه من العباد بأن يخضعوا عنده و يعبدوه، و على الأخيرين يكون الاستفعال للطلب بتقدير أو تجوّز. قوله عليه السلام و دنا فتعالى.. أي دنا من كلّ شيء فتعالى أن يكون في مكان، إذ لا يمكن أن يكون للمكاني الدنّو من كلّ شيء، أو دنوّه دنوّ علم و قدرة و إيجاد و تربية، و هو عين علوّه و شرافته و رفعته، فليس دنوّه دنوّا منافيا للعلوّ، بل مؤيّد له، و يحتمل في الفقرتين أن يكون الفاء بمعنى الواو.. أي علا و كثر علاؤه، و دنا و تعالى أن يكون دنوّه كدنوّ المخلوقين. قوله عليه السلام و ارتفع فوق كلّ منظر.. المنظر النّظر و الموضع المرتفع و كلّ ما نظرت إليه فسرّك أو ساءك، فالمراد أنّه تعالى ارتفع عن كلّ محلّ يمكن أن ينظر إليه، أي ليس بمرئيّ و لا مكاني، أو ارتفع عن كلّ نظر فلا يمكن لبصر الخلق النظر إليه، أو ارتفع عن محالّ النظر و الفكر فلا يحصل في وهم و لا خيال و لا عقل، و يحتمل معنى دقيقا بأن يكون المراد بالارتفاع فوقه الكون عليه و التمكّن فيه مجازا.. أي ظهر لك في كلّ ما نظرت إليه بقدرته و صنعه و حكمته. قوله عليه السلام خاتم النبيّين.. بفتح التاء و كسرها.. أي آخرهم. قوله عليه السلام فإنّ البغي.. أي الظّلم و الفساد و الاستطالة. قوله عليه السلام و إنّ أوّل من بغى.. كأنّها كانت مقدّمة على قابيل. قوله عليه السلام و أوّل قتيل قتله اللَّه.. أي بالعذاب. قوله عليه السلام في جريب.. لعلّ المراد أنّها كانت تملأ مجموع الجريب بعرضها و ثخنها. و في تفسير عليّ بن إبراهيم و كان مجلسها في الأرض موضع جريب، و فيما رواه ابن ميثم بتغيير ما كان مجلسها من الأرض جريبا. قوله عليه السلام مثل المنجلين.. المنجل كمنبر ما يحصد به. قوله عليه السلام و أمات هامان.. أي ]رمع[، و أهلك فرعون.. يعني أبا ]فصيل[، و يحتمل العكس. و يدلّ على أنّ المراد هذان الأشقيان قوله عليه السلام و قد قتل عثمان.. و يمكن أن يقرأ قتل على بناء المعلوم و المجهول، و الأوّل أنسب بما تقدّم. قوله عليه السلام ألا و إن بليّتكم.. أي ابتلاءكم و امتحانكم بالفتن. قوله عليه السلام لتبلبلنّ بلبلة.. البلبلة الاختلاط، و تبلبلت الألسن.. أي اختلطت. و قال ابن ميثم و كنّى بها عمّا يوقع بهم بنو أميّة و غيرهم من أمراء الجور من الهموم المزعجة، و خلط بعضهم ببعض، و رفع أراذلهم، و حطّ أكابرهم عمّا يستحقّ كلّ من المراتب. و قال الجزري فيه دنت الزلازل، و البلابل هي الهموم و الأحزان، و بلبلة الصّدور وسواسه..،
و منه الحديث »إنّما عذابها في الدّنيا البلابل و الفتن«
يعني هذه الأمّة، و منه خطبة عليّ )ع( »لتبلبلنّ بلبلة و لتغربلنّ غربلة«
انتهى. و الأظهر أنّ المراد اختلاطهم و اختلاف أحوالهم و درجاتهم في الدين بحسب ما يعرض لهم من الفتن. قوله عليه السلام لتغربلنّ غربلة.. الظاهر أنّها مأخوذة من الغربال الّذي يغربل به الدّقيق، و يجوز أن تكون من قولهم غربلت اللّحم.. أي قطعته، فعلى الأول الظاهر أنّ المراد تمييز جيّدهم من رديّهم، و مؤمنهم من منافقهم، و صالحهم من طالحهم، بالفتن التي تعرض لهم، كما أنّ في الغربال يتميّز اللبّ من النخالة، و قيل المراد خلطهم، لأنّ غربلة الدقيق تستلزم خلط بعضه ببعض. و قال ابن ميثم هو كناية عن التقاط آحادهم و قصدهم بالأذى و القتل، كما فعل بكثير من الصحابة و التابعين، و لا يخفى ما فيه. و على الثاني، فلعلّ المراد تفريقهم و قطع بعضهم عن بعض. قوله عليه السلام و لتساطنّ سوط القدر.. قال الجزري ساط القدر بالمسوط و المسواط بسوط، و هو خشبة يحرّك بها ما فيها ليختلط، و منه حديث عليّ )ع( لتساطنّ سوط القدر. قوله عليه السلام حتى يعود أسفلكم أعلاكم.. أي كفّاركم مؤمنين، و فجّاركم متّقين، و بالعكس، أو ذليلكم عزيزا و عزيزكم ذليلا، موافقا لبعض الاحتمالات السابقة. قوله عليه السلام و ليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا.. يعنى عليه السلام به قوما قصّروا في أوّل الأمر في نصرته ثم نصروه و اتّبعوه، أو قوما قصّروا في نصرة الرسول صلّى اللَّه عليه و آله و أعانوه صلوات اللَّه عليه. قوله عليه السلام و ليقصّرنّ سابقون كانوا سبقوا.. يجري فيه الاحتمالان السابقان، و الأول فيهما أظهر كطلحة و الزبير و أضرابهما، حيث كانوا عند غصب الخلافة يدّعون أنّهم من أعوانه صلوات اللَّه عليه، و عند البيعة أيضا ابتدوا بالبيعة و كان مطلوبهم الدنيا، فلمّا لم يتيسّر لهم كانوا أوّل من خالفه و حاربه. قوله عليه السلام و اللَّه ما كتمت وشمة.. أي كلمة ممّا أخبرني به الرسول صلّى اللَّه عليه و آله في هذه الواقعة، أو ممّا أمرت بإخباره مطلقا، و يمكن أن يقرأ على البناء للمجهول، أي لم يكتم عنّي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله شيئا، و الأول أظهر. قال الجزري في حديث عليّ )ع( و اللَّه ما كتمت وشمة.. أي كلمة انتهى. و في بعض الروايات وسمة بالسين المهملة، أي ما كتمت علامة
تدلّ على سبيل الحقّ، و لكن عميتم عنها، و لا يخفى لطف ضمّ الكتم مع الوسمة، إذ الكتم بالتحريك نبت يخلط بالوسمة يختضب به. قوله عليه السلام و لقد نبّئت بهذا المقام.. أي أنبأني الرسول صلّى اللَّه عليه و آله بهذه البيعة و بنقض هؤلاء بيعتي. قوله عليه السلام شمس.. هو بالضّمّ جمع شموس، و هي الدّابة تمنع ظهرها و لا تطيع راكبها، و هو مقابل الذّلول، فشبّه عليه السلام الخطايا بخيل صعاب إذا ركبها الناس لا يستطيعون منعها عن أن توردهم المهالك، و التقوى بمطايا زلل مطيعة منقادة أزمّتها بيد ركّابها يوجّهونها حيث ما يريدون. و قوله عليه السلام و أعطوا أزمّتها.. على البناء المفعول ]كذا[.. أي أعطاهم من أركبهم أزمّتها، و يمكن أن يقرأ على البناء للفاعل.. أي أعطي الركّاب أزمّة المطايا إليها، فهنّ لكونهنّ ذللا لا يخرجن عن طريق الحقّ إلى أن يوصلن ركّابهن إلى الجنّة. و التّقحّم الدّخول في الشّيء مبادرة من غير تأمّل. قوله عليه السلام بسلام.. أي سالمين من العذاب، أو مسلّما عليكم، آمنين من الآفة و الزوال. قوله عليه السلام لم أشركه فيه.. أي في الخلافة، و لم أهب كلّه له، أو لم أهب جرم هذا الغصب له. قوله عليه السلام و من ليست له توبة إلّا بنبيّ يبعث.. أي لا يعلم قبول توبة من فعل مثل هذا الأمر القبيح، و أضلّ هذه الجماعات الكثيرة إلّا بنبيّ يبعث فيخبره بقبول توبته. و في بعض النسخ نوبة.. أي ليست له نوبة في الخلافة إلّا بنبيّ يبعث فيخبر عن اللَّه أنّ له حصّة في الخلافة. و في أكثر النسخ إلّا نبيّ بدون الباء فالمراد بالتوبة ما يوجب قبولها، أي ليس له سبب قبول توبة إلّا بنبيّ، و لعلّه من تصحيف النسّاخ. قوله عليه السلام أشرف منه.. أي بسبب غصبه الخلافة. قوله عليه السلام على شفا جرف.. قال الجوهري شفا كلّ شيء حرفه، قال اللَّه تعالى وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ. و قال و الجرف و الجرف مثل عسر و عسر ما تجرّفته السّيول و أكلته من الأرض، و منه قوله تعالى عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ. و قال هار الجرف يهور هورا و هئورا فهو هائر، و يقال أيضا جرف هار خفضوه في موضع الرّفع و أرادوا هائر، و هو مقلوب من الثّلاثيّ إلى الرّباعيّ كما قلبوا شائك السّلاح إلى شاكي السّلاح، و هوّرته فتهوّر و انهار.. أي انهدم. قوله عليه السلام حقّ و باطل.. أي في الدنيا، أو هنا، أو بين الناس حقّ و باطل. قوله عليه السلام فلئن أمر الباطل.. أي كثر، قال الفيروزآبادي أمر كفرح أمرا و إمرة كثر. قوله عليه السلام فلقديما فعل.. أي فو اللَّه لقد فعل الباطل ذلك في قديم الأيّام، أي ليس كثرة الباطل ببديع حتى تستغرب أو يستدلّ بها على حقيّة أهله. قوله عليه السلام و لئن قلّ الحقّ فلربّما.. أي فو اللَّه كثيرا ما يكون الحقّ كذلك، و لعلّ، أي لا ينبغي أن يؤيس من الحقّ لقلّته، فلعلّه يعود كثيرا بعد قلّته، و عزيزا بعد ذلّته. قوله عليه السلام و لقلّما أدبر شيء فأقبل.. لعلّ المراد أنّه إذا أقبل الحقّ و أدبر الباطل فهو لا يرجع، إذ رجوع الباطل بعد إدباره قليل، أو المراد بيان أنّ رجوع الحقّ إلينا بعد الإدبار أمر غريب يفعله اللَّه بفضله و لطفه و حكمته، أو المراد بيان أنّه لا يرجع عن قريب، بل إنّما يكون في زمن القائم عليه السلام. قوله عليه السلام و لئن ردّ إليكم أمركم.. أي في هذا الزمان. قوله عليه السلام و ما عليّ إلّا الجهد.. أي بذل الطاقة، قال الجوهري الجهد و الجهد الطّاقة، و قرئ وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ و )جهدهم(.
قال الفرّاء الجهد بالضم الطّاقة، و الجهد بالفتح من قولك اجهد جهدك في هذا الأمر.. أي ابلغ غايتك، و لا يقال اجهد جهدك. و الجهد المشقّة. قوله عليه السلام أن تكونوا على فترة.. قال في النهاية في حديث ابن مسعود أنّه مرض فبكى، فقال إنّما أبكي لأنّه أصابني على حال فترة و لم يصبني في حال اجتهاد.. أي في حال سكون و تقليل من العبادات و المجاهدات، و الفترة في غير هذا ما بين الرّسولين من رسل اللَّه تعالى من الزّمان الّذي انقطعت فيه الرّسالة انتهى، فالمعنى أخشى أن تكونوا على فترة و سكون و فتور عن نصرة الحقّ، أو أن تكونوا كأناس كانوا بين النبيّين لا يظهر فيهم الحقّ و يشتبه عليهم الأمور. قوله عليه السلام ملتم عنّي ميلة.. أي في أوّل الأمر بعد الرسول صلّى اللَّه عليه و آله. قوله عليه السلام و لو أشاء لقلت.. أي بيّنت بطلان الرجلين اللذين اتّبعتموهما و كفرهما، لكن لا تقتضيه مصلحة الحال. قوله عليه السلام عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ.. أي لمن تاب في هذا الزمان. قوله عليه السلام كان خيرا له، قصّ الجناحين.. كناية عن منعه و رفع استيلائه و قبض يده عن أموال المسلمين و دمائهم و فروجهم، و قطع رأسه كناية عن قطع ما هو بمنزلة رأسه من الخلافة، أو المراد قتله ابتداء قبل ارتكاب هذه الأمور. قوله عليه السلام شغل.. أي بالدنيا عن تحصيل الجنّة و الحال أنّ النار كانت أمامه، فكان ينبغي أن لا يشتغل مع هذا بشيء آخر سوى تحصيل الجنّة و التخلّص من النار. قوله عليه السلام ثلاثة و اثنان.. الحاصل أنّ أحوال المخلوقين المكلّفين تدور على خمسة، و إنّما فصل الثلاثة عن الاثنين لأنّهم من المقرّبين المعصومين الناجين من غير شكّ، فلم يخلطهم بمن سواهم. الأوّل ملك أعطاه اللَّه جناحين يطير بهما في درجات الكمال صورة و معنى. و الثاني نبيّ أخذ اللَّه بضبعيه.. الضّبع بسكون الباء وسط العضد، و قيل هو ما تحت الإبط.. أي رفعه اللَّه بقدرته و عصمته من بين الخلق و اختاره و قرّبه كأنّه أخذ بعضده و قرّبه إليه، و يحتمل أن يكون كناية عن رفع يده و أخذها عن المعاصي بعصمته، و أن يكون كناية عن تقويته، و الأول أظهر. و الثالث ساع مجتهد في الطاعات غاية جهده.. و المراد إمّا الأوصياء عليهم السلام أو أتباعهم الخلّص، فالأوصياء داخلون في الثاني على سبيل التغليب، أو المراد بالثالث أعمّ منهما. و الرابع عابد طالب للآخرة بشيء من السعي مع صحّة إيمانه، و بذلك يرجو فضل ربّه. و الخامس مقصّر ضالّ عن الحقّ كافر، فهو في النار. قوله عليه السلام اليمين و الشمال مضلّة.. أي كلّ ما خرج عن الحقّ فهو ضلال، أو المراد باليمين ما يكون بسبب الطاعات و البدع فيها، و باليسار ما يكون بسبب المعاصي. قوله عليه السلام عليها يأتي الكتاب.. أي على هذه الجادّة أتى كتاب اللَّه و حثّ على سلوكها، و في بعض النسخ ما في الكتاب، و في نسخ نهج البلاغة باقي الكتاب، و لعلّ المراد ما بقي من الكتاب في أيدي الناس. قوله عليه السلام هلك من ادّعى.. أي من ادّعى مرتبة ليس بأهل لها كالإمامة. قوله عليه السلام و ليس لأحد عند الإمام فيها هوادة.. قال الجزريّ فيه »لا تأخذه في اللَّه هوادة« أي لا يسكن عند وجوب حدود اللَّه و لا يحابي فيه أحدا، و الهوادة السّكون و الرّخصة و المحاباة انتهى. قوله عليه السلام و التوبة من ورائكم.. قال ابن ميثم تنبيه للعصاة على الرجوع إلى التوبة عن الجري في ميدان المعصية و اقتفاء أثر الشيطان، و كونها وراء، لأنّ الجواذب الإلهيّة إذا أخذت بقلب العبد فجذبته عن المعصية حتى أعرض عنها و التفت بوجه نفسه إلى ما كان معرضا عنه من الندم على المعصية، و التوجّه إلى القبلة الحقيقيّة، فإنّه يصدق عليه إذن أنّ التوبة وراءه، أي وراء عقليّا، و هو أولى من قول من قال من المفسّرين إنّ وراءكم بمعنى أمامكم. قوله عليه السلام من أبدى صفحته للحقّ هلك.. قال في النهاية صفحة كلّ شيء وجهه و ناصيته. أقول المراد و مواجهة الحقّ و مقابلته و معارضته، فالمراد بالهلاك الهلاك في الدنيا و الآخرة، أو المراد إبداء الوجه للخصوم و معارضتهم لإظهار الحقّ في كلّ
مكان و موطن من غير تقيّة و رعاية مصلحة فيكون مذموما، و الهلاك بالمعنى الذي سبق، و يؤيّد هذا قوله عليه السلام استتروا في بيوتكم.. أو المراد معارضته أهل الباطل على الوجه المأمور به، و المراد بالهلاك مقاساة المشاق و المفاسد و المضارّ من جهّال الناس، و يؤيّده ما في نسخ نهج البلاغة هلك عند جهلة الناس.
نهج و من خطبة له عليه السّلام لا يشغله شأن، و لا يغيّره زمان، و لا يحويه مكان، و لا يصفه لسان، و لا يعزب عنه عدد قطر الماء، و لا نجوم السّماء، و لا سوافي الرّيح في الهواء، و لا دبيب النّمل على الصّفا، و لا مقيل الذّرّ في اللّيلة الظّلماء، يعلم مساقط الأوراق، و خفيّ طرف الأحداق، و أشهد أن لا إله إلّا اللَّه غير معدول به و لا مشكوك فيه و لا مكفور دينه، و لا مجحود تكوينه، شهادة من صدقت نيّته، و صفت دخلته، و خلص يقينه، و ثقلت موازينه، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، المجتبى من خلائقه، و المعتام لشرح حقائقه، و المختصّ بعقائل كراماته، و المصطفى لكرائم رسالاته، و الموضّحة به أشراط الهدى، و المجلوّ به غربيب العمى. أيّها النّاس إنّ الدّنيا تغرّ المؤمّل لها و المخلد إليها، و لا تنفس بمن نافس فيها، و تغلب من غلب عليها، و ايم اللَّه ما كان قوم قطّ في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم إلّا بذنوب اجترحوها، لأنّ اللَّه تعالى لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، و لو أنّ النّاس حين تنزل بهم النّقم و تزول عنهم النّعم، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم، و وله من قلوبهم، لردّ عليهم كلّ شارد، و أصلح لهم كلّ فاسد، و إنّي لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة و قد كانت أمور عندي مضت، ملتم فيها ميلة كنتم فيها عندي غير محمودين، و لئن ردّ عليكم أمركم إنّكم لسعداء، و ما عليّ إلّا الجهد، و لو أشاء أن أقول لقلت عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ.
بيان
قد مرّ شرح صدر الخطبة في كتاب التوحيد. قوله عليه السلام غير معدول به.. أي لا يعادل و يساوي به أحد، كما قال تعالى بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. و الدّخلة بالكسر و الضّم باطن الأمر. و المعتام أي المختار، و التّاء تاء الافتعال، ذكره في النهاية، و العقائل جمع عقيلة و هي كريمة كلّ شيء. و الأشراط العلامات جمع شرط بالتحريك. و الغربيب بالكسر الأسود الشّديد السّواد.. أي المكشوف به ظلم الظلام. و أخلد إليه مال. قوله عليه السلام و لا تنفس.. أي لا ترغب إلى من يرغب إليها بل ترميه بالنّوائب. قوله عليه السلام من غلب عليها.. أي من غلب إليها و أخذها قهرا فسوف تغلب الدنيا عليه، أو المراد بمن غلب عليها من أراد الغلبة عليها. قوله عليه السلام في غضّ نعمة.. أي في نعمة غضّة طريّة. قوله عليه السلام ليس بظلّام.. أي لو فعله اللَّه بقوم لفعله بالجميع، لأنّ حكمه في الجميع واحد، فيكون ظلّاما، أو المعنى إنّ ذلك ظلم شديد، و يقال فزعت إليه فأفزعني.. أي استغثت إليه فأغاثني. و الوله الحزن و الحيرة و الخوف و ذهاب العقل حزنا. و الشّارد النّافر. قوله عليه السلام في فترة.. الفترة الانكسار و الضّعف و ما بين الرّسولين، و كنّى عليه السلام بها هنا عن أمر الجاهليّة.. أي إنّي لأخشى أن يكون أحوالكم في التعصّبات الباطلة و الأهواء المختلفة كأحوال أهل الجاهليّة. قوله عليه السلام ملتم فيها ميلة.. إشارة إلى ميلهم عنه عليه السلام إلى الخلفاء الثلاثة. و قول ابن أبي الحديد إشارة إلى اختيارهم عثمان يوم الشورى يبطله قوله عليه السلام أمور و غير ذلك. قوله عليه السلام و لئن ردّ عليكم.. أي أحوالكم التي كانت أيّام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله. قوله عليه السلام و لو أشاء.. أي لو أشاء أن أقول فيما ملتم عن الحقّ و نبذتم الآخرة وراء ظهوركم بلفظ صريح لقلت، لكنّي طويت عن ذكره و أعرضت عنه لعدم المصلحة فيه، و لم أصرّح بكفركم و ما يكون إليه مصير أمركم و ما أكننتم و أخفيتم في ضمائركم لذلك. و قوله عليه السلام عفا اللَّه عمّا سلف... أي عفا عمّن تاب و أناب و رجع، و يحتمل أن يكون من الدعاء الشائع في أواخر الخطب، كقوله عليه السلام غفر اللَّه لنا و لكم.. و أمثاله، و هذه الأدعية مشروطة بشرائط، و قيل يحتمل أن يكون المعنى لو أشاء أن أقول قولا يتضمّن العفو عنكم لقلت، لكنّي لا أقول ذلك، إذ لا مجال للعفو هنا، و لا يخفى بعده.
نهج قال عليه السلام لنا حقّ فإن أعطيناه و إلّا ركبنا أعجاز الإبل و إن طال السّرى.
و هذا القول من لطيف الكلام و فصيحه، و معناه إنّا إن لم نعط حقّنا كنّا أذلّاء، و ذلك إنّ الرّديف يركب عجز البعير، كالعبد و الأسير و من يجري مجراهما.
نهج و من خطبة له عليه السلام و ناظر قلب اللّبيب به يبصر أمده، و يعرف غوره و نجده. داع دعا، و راع رعى، فاستجيبوا للدّاعي، و اتّبعوا الرّاعي، قد خاضوا بحار الفتن، و أخذوا بالبدع دون السّنن، و أرز المؤمنون، و نطق الضّالّون المكذّبون، نحن الشّعار و الأصحاب، و الخزنة و الأبواب، و لا تؤتى البيوت إلّا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقا. منها فيهم كرائم القرآن و هم كنز الرّحمن، إن نطقوا صدقوا، و إن صمتوا لم يسبقوا، فليصدق رائد أهله، و ليحضر عقله، و ليكن من أبناء الآخرة، فإنّه منها قدم و إليها ينقلب، فالنّاظر بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله عليه أم له فإن كان له مضى فيه، و إن كان عليه وقف عنه، فإنّ العامل بغير علم كالسّائر على غير طريق فلا يزيده بعده عن الطّريق إلّا بعدا من حاجته، و العامل بالعلم كالسّائر على الطّريق الواضح، فلينظر ناظر أ سائر هو أم راجع و اعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، و ما خبث ظاهره خبث باطنه، و قد قال الرّسول الصّادق صلّى اللَّه عليه و آله إنّ اللَّه يحبّ العبد و يبغض عمله، و يحبّ العمل و يبغض بدنه. و اعلم أنّ كلّ عمل نبات، و كلّ نبات لا غنى به عن الماء، و المياه مختلفة، فما طاب سقيه طاب غرسه، و حلت ثمرته، و ما خبث سقيه خبث غرسه، و أمرّت ثمرته.
توضيح
قال الجوهري النّاظر من المقلة السّواد الأصغر الّذي فيه إنسان العين.. أي أنّ قلب اللبيب له عين يبصر بها غايته التي تجري إليها و يعرف من أحواله المستقبلة ما كان مرتفعا شريفا أو منخفضا ساقطا. و النّجد المرتفع من الأرض، و لعلّ المراد بالداعي الرسول صلّى اللَّه عليه و آله، و بالراعي نفسه عليه السلام. و قوله عليه السلام قد خاضوا.. كلام منقطع عمّا قبله و متّصل بكلام أسقطه السيّد رضي اللَّه عنه تقيّة للتصريح بذمّ الخلفاء الثلاثة فيه. و أرز بالفتح و الكسر انقبض. و المؤمنون هو عليه السلام و شيعته، و الضالون خلفاء الجور و أتباعهم. و قال ابن أبي الحديد في قوله عليه السلام و الخزنة و الأبواب.. أي خزنة العلم و أبوابه، أو خزنة الجنّة و أبوابها. قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله أنا مدينة العلم و عليّ بابها، و من أراد الحكمة فليأت الباب. و قال فيه خازن علمي. و تارة أخرى عيبة علمي. و قال صلّى اللَّه عليه و آله في الخبر المستفيض إنّه قسيم الجنّة و النار، يقول للنار هذا لي فدعيه، و هذا لك فخذيه. ثم ذكر أربعة و عشرين حديثا من فضائله صلوات اللَّه عليه من طرق المخالفين. قوله عليه السلام فيهم كرائم القرآن.. ضمير الجمع راجع إلى آل محمّد عليهم السلام الذين عناهم عليه السلام بقوله نحن الشعار، و المراد بكرائم القرآن مدائحهم التي ذكرها اللَّه فيه، أو علومه المخزونة عندهم، و هم كنوز الرحمن.. أي خزائن علومه و حكمه و قربه. قوله عليه السلام لم يسبقوا.. أي ليس صمتهم عن عيّ و عجز حتى يسبقهم أحد، بل لمحض الحكمة. قوله عليه السلام فليصدق رائد أهله.. يحتمل أن يكون المراد بالرائد الإنسان نفسه، فإنّه كالرائد لنفسه في الدنيا يطلب فيه لآخرته ماء و مرعى.. أي لينصح نفسه و لا يغشّها بالتسويف و التعليل، أو المعنى ليصدق كلّ منكم أهله و عشيرته و من يعنيه أمره، و ليبلّغهم ما عرف من فضلنا و علوّ درجتنا. قوله فإنّه منها قدم.. لخلق روحه قبل بدنه من عالم الملكوت، أو لخروج أبيهم من الجنّة. و قيل الآخرة الحضرة الإلهيّة التي منها مبدأ الخلق و إليها معادهم. فالناظر بالقلب.. أي من لا يقتصر في نظره على ظواهر الأمور. العامل بالبصر.. أي من يعمل بما يبصر بعين بصيرة.. أي إذا علم الحقّ لا يتعدّاه. و يروى العالم بالبصر.. أي من كان إبصاره سببا لعلمه. قوله عليه السلام و اعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا.
أقول قد يتوهّم التنافي بين هاتين الكلمتين و بين الخبر المرويّ ظاهرا، و يخطر بالبال دفعه بوجوه
الأوّل أن يكون الخبر في قوّة الاستثناء لبيان أنّ المقدّمتين ليستا كليّتين، بل هما لبيان الغالب، و قد يتخلّف كما ورد في الخبر.
الثاني أن يكون الخبر استشهادا للمقدّمتين، و بيانه إنّ العمل ظاهرا و باطنا، و للشخص ظاهرا و باطنا، و ظاهر الشخص مطابق لباطنه، و لذا يحبّ اللَّه ظاهر الشخص لما يعلم من حسن باطنه و عاقبته، و يبغض ظاهر الشخص إذا علم سوء باطنه و رداءة عاقبته.
الثالث أن يكون المراد أنّه لا يمكن أن لا يظهر سوء الباطن من الأخلاق الرديّة و الاعتقادات الباطلة و الطينات الفاسدة و إن كان في آخر العمر، و لا حسن الباطن من الأخلاق الحسنة و الاعتقادات الحقّة و الطينات الطيّبة، فالذي يحبّه اللَّه و يبغض عمله ينقلب حاله في آخر العمر و يظهر منه حسن العقائد و الأعمال، و كذا العكس، فظهر أنّ حسن الباطن و الظاهر متطابقان و كذا سوؤهما، و لعلّ ما يذكر بعده يؤيّد هذا الوجه في الجملة.
الرابع ما ذكره ابن أبي الحديد، حيث قال هو مشتقّ من قوله تعالى وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، و المعنى إنّ لكلتا حالتي الإنسان الظاهرة أمرا باطنا يناسبها من أحواله، و الحالتان الظاهرتان ميله إلى العقل و ميله إلى الهوى، فالمتّبع لعقله يرزق السعادة و الفوز، فهذا هو الذي طاب ظاهره و طاب باطنه، و المتّبع لمقتضى هواه.. يرزق الشقاوة و العطب، و هذا هو الذي خبث ظاهره و خبث باطنه.
الخامس ما قيل إنّ المراد بطيب الظاهر حسن الصورة و الهيئة و بخبثه قبحهما، و قال هما يدلّان على حسن الباطن و قبحه، و حمل خبث العبد مع قبح الفعل على ما إذا كان مع حسن الصورة و الآخر على ما إذا كان مع قبح الصورة. و لا يخفى بعد و لعلّ الأوّل أظهر الوجوه. و أمرّت.. أي صارت مرّا.
نهج من كلام له عليه السلام و قد قال لي قائل إنّك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص فقلت بل أنتم و اللَّه أحرص و أبعد، و أنا أخصّ و أقرب، و إنّما طلبت حقّا لي و أنتم تحولون بيني و بينه، و تضربون وجهي دونه. فلمّا قرعته بالحجّة في الملإ الحاضرين بهت لا يدري ما يجيبني به. اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش و من أعانهم فإنّهم قطعوا رحمي، و صغّروا عظيم منزلتي، و أجمعوا على منازعتي أمرا هو لي، ثمّ قالوا ألا إنّ في الحقّ أن نأخذه و في الحقّ أن تتركه.
بيان
قال ابن أبي الحديد هذا الفصل من خطبة يذكر فيها أمر الشورى، و الذي قال له إنّك على هذا الأمر لحريص هو سعد بن أبي وقّاص مع روايته فيه )أنت منّي بمنزلة هارون من موسى(، و هذا عجيب، و قد رواه الناس كافّة. و قالت الإماميّة هذا الكلام كان يوم السقيفة، و القائل أبو عبيدة بن الجرّاح. و قرعته بالحجّة صدمته بها. قوله عليه السلام بهت.. في بعض النسخ هبّ.. أي استيقظ. و قال الجوهري العدوى طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك.. أي ينتقم منه، يقال استعديت على فلان الأمير فأعداني استعنت به فأعانني عليه. فإنّهم قطعوا رحمي.. لأنّهم لم يراعوا قربه عليه السلام من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله أو منهم، أو الأعمّ. ألا إنّ في الحقّ أن نأخذه بالنون و في الحقّ أن تتركه بالتاء.. أي إنّهم لم يقصّروا على أخذ حقّي ساكتين عن دعوى كونه حقّا لهم، و لكنّهم أخذوه مع دعواهم أنّ الحقّ لهم، و أنّه يجب عليّ أن أترك المنازعة فيه، فليتهم أخذوا معترفين بأنّه حقّ لي، فكانت المصيبة أهون. و روي بالنون فيهما، فالمعنى إنّا نتصرّف فيه كما نشاء بالأخذ و الترك دونك. و في بعض النسخ فيهما بالتاء.. أي يعترفون أنّ الحقّ لي ثم يدّعون أنّ الغاصب أيضا على الحقّ، أو يقولون لك الاختيار في الأخذ و الترك، و كذا في الرواية الأخرى قرئ بالنون و بالتاء. و قال القطب الراوندي إنّها في خطّ الرضي رضي اللَّه عنه بالتاء.. أي إن وليت كانت ولايتك حقّا، و إن ولي غيرك كانت حقّا على مذهب أهل الاجتهاد.
نهج و من كلام له عليه السّلام اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش فإنّهم قد قطعوا رحمي، و أكفئوا إنائي، و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به من غيري، و قالوا ألا إنّ في الحقّ أن نأخذه و في الحقّ أن نمنعه، فاصبر مغموما أو مت متأسّفا، فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذابّ و لا مساعد إلّا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنيّة، فأغضيت على القذى، و جرعت ريقي على الشّجا، و صبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم، و ألم للقلب من حزّ الشّفار.
بيان
قال الجوهري كفأت الإناء كببته و قلبته، فهو مكفوء. و زعم ابن الأعرابي أنّ أكفأته لغة، و يروى كفّوا بدون الهمزة و هو أفصح. و قال الجوهري رفدته أرفده رفدا.. إذا أعنته..، و الإرفاد... الإعانة. و قال الذّبّ الدّفع و المنع. و قال ضننت بالشّيء.. بخلت به... و قال الفرّاء ضننت بالفتح.. لغة فيه. و الإغضاء أدناء الجفون، و القذى في العين ما يسقط فيها فيؤذيها. و الشّجا ما ينشب في الحلق من عظم و غيره. و العلقم شجر مرّ، و يقال للحنظل، و كلّ شيء مرّ علقم. و الحزّ القطع، حزّه و احتزّه قطعه. و الشّفرة بالفتح السّكّين العظيم، و الجمع شفار.
نهج من كلامه عليه السلام وا عجباه أ تكون الخلافة بالصّحابة و لا تكون بالصّحابة و القرابة.
قال السيّد رضي اللَّه عنه و روي له عليه السّلام شعر في هذا المعنى، و هو قوله
فإن كنت بالشّورى ملكت أمورهم فكيف بهذا و المشيرون غيّبو إن كنت بالقربى حججت خصيمهم فغيرك أولى بالنّبيّ و أقرب
بيان قوله عليه السلام فكيف بهذا.. أي كيف تملكها بهذا. قوله عليه السلام خصيمهم.. أي من كان خصما لك منهم في دعوى الخلافة.
و قال ابن أبي الحديد حديثه عليه السلام في النثر و النظم المذكورين مع أبي بكر و عمر، أمّا النثر فموجّه إلى عمر لأنّ أبا بكر لمّا قال لعمر امدد يدك. قال له عمر أنت صاحب رسول اللَّه )ص( في المواطن كلّها شدّتها و رخاؤها فامدد أنت يدك. فقال عليّ عليه السلام إذا احتججت لاستحقاقه الأمر بصحبته إيّاه في المواطن.. فهلّا سلّمت الأمر إلى من قد شركه في ذلك، و قد زاد عليه بالقرابة. و أمّا النظم فموجّه إلى أبي بكر، لأنّه حاجّ الأنصار في السقيفة فقال نحن عترة رسول اللَّه )ص( و بيضته التي تفقّأت عنه، فلمّا بويع احتجّ على الناس بالبيعة، و أنّها صدرت عن أهل الحلّ و العقد، فقال عليّ عليه السلام أمّا احتجاجك على الأنصار بأنّك من بيضة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و من قومه فغيرك أقرب نسبا منك إليه، و أمّا احتجاجك بالاختيار و رضى الجماعة، فقد كان قوم من أجلّة الصحابة غائبين لم يحضروا العقد، فكيف ثبت.
نهج قال عليه السلام فو اللَّه ما زلت مدفوعا عن حقّي مستأثرا عليّ، منذ قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله إلى يوم النّاس هذا.
نهج من كلامه عليه السلام فنظرت فإذا ليس معين إلّا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، و أغضيت على القذى، و شربت على الشّجا، و صبرت على أخذ الكظم و على أمرّ من طعم العلقم.
و قال رضي اللَّه عنه في موضع آخر قالوا لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنباء السّقيفة بعد وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله، قال عليه السّلام ما قالت الأنصار قالوا قالت منّا أمير و منكم أمير. قال عليه السّلام فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله وصّى بأن يحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم قالوا و ما في هذا من الحجّة عليهم. قال عليه السّلام لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم. ثمّ قال عليه السّلام فما ذا قالت قريش. قالوا احتجّت بأنّها شجرة الرّسول )ص(. فقال عليه السّلام احتجّوا بالشّجرة و أضاعوا الثّمرة.
بيان الكظم بفتح الظاء مخرج النّفس. قوله عليه السلام احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة.. المراد بالثمرة إمّا الرسول صلّى اللَّه عليه و آله و الإضاعة عدم اتّباع نصبه، أو أمير المؤمنين و أهل البيت عليهم السلام تشبيها له صلّى اللَّه عليه و آله بالأغصان، أو اتّباع الحقّ الموجب للتمسّك به دون غيره كما قيل، و الغرض إلزام قريش بما تمسّكوا به من قرابته صلّى اللَّه عليه و آله، فإن تمّ فالحقّ لمن هو أقرب و أخصّ، و إلّا فالأنصار على دعواهم.
نهج من كلامه عليه السلام لمّا عزموا على بيعة عثمان لقد علمتم أنّي أحقّ بها من غيري، و و اللَّه لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين و لم يكن فيها جور إلّا عليّ خاصّة، التماسا لأجر ذلك و فضله، و زهدا فيما تنافستموه من زخرفه و زبرجه.
بيان قوله عليه السلام أنّي أحقّ بها.. أي بالخلافة و التفضيل، كما في قوله تعالى قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ، و الجور عليه عليه السلام خاصّة غصب حقّه، و فيه دلالة على أنّ خلافة غيره جور مطلقا، و التسليم على التقدير المفروض و هو سلامة أمور المسلمين و إن لم يتحقّق الفرض لرعاية مصالح الإسلام و التقيّة. و التماسا مفعولا له للتسليم. و التّنافس الرّغبة في النّفيس المرغوب للانفراد به. و الزّخرف بالضم الذّهب و كمال حسن الشّيء. و الزّبرج بالكسر الزّينة.
نهج و من خطبة له عليه السلام.. بعث رسله بما خصّهم به من وحيه، و جعلهم حجّة له على خلقه، لئلّا تجب الحجّة لهم بترك الإعذار إليهم، فدعاهم بلسان الصّدق إلى سبيل الحقّ، ألا إنّ اللَّه قد كشف الحقّ كشفة، لا أنّه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم و مكنون ضمائرهم، و لكن ليبلوهم أيّهم أحسن عملا، فيكون الثّواب جزاء، و العقاب بواء. أين الّذين زعموا أنّهم الرّاسخون في العلم دوننا كذبا و بغيا علينا أن رفعنا اللَّه و وضعهم، و أعطانا و حرمهم، و أدخلنا و أخرجهم، بنا يستعطى الهدى و يستجلى العمى إنّ الأئمّة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، و لا تصلح الولاة من غيرهم. منها آثروا عاجلا، و أخّروا آجلا، و تركوا صافيا، و شربوا آجنا، كأنّي أنظر إلى فاسقهم و قد صحب المنكر فألفه، و بسئ به و وافقه حتّى شابت عليه مفارقه، و صبغت به خلائقه، ثمّ أقبل مزبدا كالتّيّار لا يبالي ما غرّق، أو كوقع النّار في الهشيم لا يحفل ما حرّق، أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، و الأبصار اللّامحة إلى منار التّقوى أين القلوب الّتي وهبت للَّه و عوقدت على طاعة اللَّه ازدحموا على الحطام، و تشاحّوا على الحرام، و رفع لهم علم الجنّة و النّار فصرفوا عن الجنّة وجوههم، و أقبلوا إلى النّار بأعمالهم، دعاهم ربّهم فنفروا و ولّوا، و دعاهم الشّيطان فاستجابوا و أقبلوا.
إيضاح
الكشف.. أريد به هنا الابتلاء الذي هو سببه. و قال في النهاية الجراحات بواء.. أي سواء في القصاص.. و منه
حديث عليّ عليه السّلام، و العقاب بواء
و أصل البواء اللّزوم. أين الذين زعموا.. أي الخلفاء الجائرون المتقدّمون. قوله عليه السلام إن رفعنا اللَّه.. تعليل لدعوتهم الكاذبة.. أي كانت العلّة الحاملة لهم على هذا الكذب أنّ اللَّه رفع قدرنا في الدنيا و الآخرة و أعطانا.. أي الملك و النبوّة، و أدخلنا.. أي في دار قربه و عناياته الخاصّة. و إنّ هاهنا للتعليل.. أي لأن، فحذف اللام، و يحتمل أن يكون المعنى أين الذين زعموا عن أن يروا أن رفعنا اللَّه و أورثنا الخلافة و وضعهم بأخذهم بأعمالهم السيّئة. و البطن ما دون القبيلة و فوق الفخذ. قوله عليه السلام لا تصلح على سواهم.. أي لا يكون لها صلاح على يد غيرهم، و لا يكون الولاة من غيرهم صالحين. و الآجن الماء المتغيّر. قوله عليه السلام كأنّي أنظر.. قال ابن أبي الحديد هو إشارة إلى قوم يأتي من الخلف بعد السلف. قيل و الأظهر أنّ المراد بهم من تقدّم ذكرهم من الخلفاء و غيرهم من ملاعين الصحابة، كما قال عليه السلام في الفصل السابق أين الذين زعموا فيكون قوله عليه السلام كأنّي أنظر.. إشارة إلى ظهور اتّصافهم بالصفات حتى كأنّه يراه عيانا. و قال في النهاية بسأت بفتح السين و كسرها أي اعتادت و استأنست. شابت عليه مفارقه.. أي ابيضّ شعره و فنى عمره في صحبة المنكر. و صبغت به خلائقه.. أي صار المنكر عادته حتّى تلوّنت خلائقه به. و التّيّار موج البحر و لجّته. و كلمة ثمّ للترتيب الحقيقي أو الذكرى، و لعلّ المراد بالفاسق عمر. و قوله عليه السلام لا يحفل.. أي لا يبالي، و اللّامحة النّاظرة.
نهج من خطبة له عليه السلام في الملاحم و أخذوا يمينا و شمالا ظعنا في مسالك الغيّ، و تركا لمذاهب الرّشد، فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد، و لا تستبطئوا ما يجيء به الغد، فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ أنّه لم يدركه، و ما أقرب اليوم من تباشير غد. يا قوم هذا إبّان ورود كلّ موعود، و دنوّ من طلعة ما لا تعرفون، ألا و إنّ من أدركها منّا يسري فيها بسراج منير، و يحذوا فيها على مثال الصّالحين، ليحلّ فيها ربقا، و يعتق رقّا، و يصدع شعبا، و يشعب صدعا، في سترة عن النّاس، لا يبصر القائف أثره و لو تابع نظره، ثمّ ليشحذنّ فيها قوم شحذ القين النّصل، تجلى بالتّنزيل أبصارهم، و يرمى بالتّفسير في مسامعهم، و يغبقون كأس الحكمة بعد الصّبوح. منها و طال الأمد بهم ليستكملوا الخزي و يستوجب الغير، حتّى إذا اخلولق الأجل، و استراح قوم إلى الفتن، و اشتالوا عن لقاح حربهم، لم يمنّوا على اللَّه بالصّبر، و لم يستعظموا بذل أنفسهم في الحقّ، حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء، حملوا بصائرهم على أسيافهم، و دانوا لربّهم بأمر واعظهم، حتّى إذا قبض اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم رجع قوم على الأعقاب، و غالتهم السّبل، و اتّكلوا على الولائج، و وصلوا غير الرّحم، و هجروا السّبب الّذي أمروا بمودّته، و نقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه، معادن كلّ خطيئة، و أبواب كلّ ضارب في غمرة. قد ماروا في الحيرة، و ذهلوا عن السّكرة على سنّة من آل فرعون من منقطع إلى الدّنيا راكن، أو مفارق للدّين مباين.
بيان
نصب )ظعنا( و )تركا( على المصدر و العامل فيهما من غير لفظهما، أو مصدران قاما مقام الفاعل. قوله عليه السلام مرصد.. على المفعول.. أي مترقّب معدّ لا بدّ من كونه. و تباشير كلّ شيء أوائله. و إبّان الشّيء بالكسر و التشديد وقته و زمانه، و لعلّه إشارة إلى ظهور القائم عليه السلام. قوله عليه السلام إنّ من أدركها منّا.. أي قائم آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله. و سرى كضرب و أسرى.. أي سار باللّيل. و الرّبق بالفتح شدّ الشّاة بالربق و هو الخيط. و الصّدع التّفريق و الشّقّ. و الشّعب الجمع. قوله عليه السلام في سترة.. أشار عليه السلام به إلى غيبة القائم عليه السلام. و القائف الّذي يتّبع الآثار و يعرفها. و شحذت السّكّين حددته.. أي ليحرصنّ في تلك الملاحم قوم على الحرب، و يشحذ عزائمهم في قتل أهل الضلال كما يشحذ القين و هو الحدّاد النّصل كالسّيف و غيره. و يجلى بالتّنزيل.. أي يكشف الرين و الغطاء عن قلوبهم بتلاوة القرآن و إلهامهم تفسيره و معرفة أسراره، و كشف الغطاء عن مسامع قلوبهم. و الغبوق الشّرب بالعشيّ، تقول منه غبقت الرّجل أغبقه بالضم فاغتبق هو.. أي تفاض عليهم المعارف صباحا و مساء، و القوم أصحاب القائم عليه السلام. قوله عليه السلام و طال الأمد بهم.. هذا متّصل بكلام قبله لم يذكره. السيّد رضي اللَّه عنه، و الأمد الغاية. و الغير اسم من قولك غيّرت الشّيء فتغيّر.. أي تغيّر الحال و انتقالها من الصّلاح إلى الفساد. و اخلولق الأجل.. أي قرب انقضاء أمرهم، من اخلولق السّحاب.. أي استوى و صار خليقا بأن يمطر، و اخلولق الرّسم استوى بالأرض. و استراح قوم.. أي مال قوم من شيعتنا إلى هذه الفئة الضالّة و اتّبعوها تقيّة أو لشبهة دخلت عليهم. و اشتالوا.. أي رفعوا أيديهم و سيوفهم، و استعار اللّقاح بفتح اللام لإثارة الحرب لشبهها بالناقة. و قوله عليه السلام حتّى إذا قبض اللَّه.. لعلّه منقطع عمّا قبله إلّا أن يحمل )من طال الأمد بهم( في الكلام المتقدّم على من كان من أهل الضلال قبل الإسلام، و لا يخفى بعده. و بالجملة، الكلام صريح في شكايته عليه السلام عن ]كذا[ الذين غصبوا الخلافة منه. و غالتهم السّبل.. أي أهلكتهم. و وصلوا غير الرحم.. أي غير رحم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله. و السبب الذي أمروا بمودّته أهل البيت عليهم السلام كما
قال النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله خلّفت فيكم الثقلين كتاب اللَّه و أهل بيتي حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.
كلّ ضارب في غمرة.. أي سائر في غمرة الضلالة و الجهالة. قد ماروا في الحيرة.. أي تردّدوا و اضطربوا فيها. و المنقطع إلى الدّنيا هو المنهمك في لذاتها و المفارق للدين هو الزاهد الذي يترك الدنيا للدنيا، أو يعمل على الضلالة و الردى، و سيأتي فيما سنورده من كتبه عليه السلام و غيرها ما هو صريح في الشكاية.
منها ما كتب عليه السلام في كتاب له إلى معاوية و كتاب اللَّه يجمع لنا ما شذّ عنّا و هو قوله سبحانه وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، و قوله تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ فنحن مرّة أولى بالقرابة و تارة بالطّاعة، و لمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، و إن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم. و قلت إنّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع، و لعمر اللَّه لقد أردت أن تذمّ فمدحت، و أن تفضح فافتضحت، و ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه و لا مرتابا بيقينه..
و منها ما كتب عليه السلام في جواب عقيل.. فدع عنك قريشا و تركاضهم في الضّلال، و تجوالهم في الشّقاق، و جماحهم في التّيه، فإنّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قبلي فجزت قريشا عنّي الجوازي، فقد قطعوا رحمي، و سلّبوني سلطان ابن أمّي. و في كتاب الإمامة و السياسة لابن قتيبة فإنّ قريشا قد اجتمعت على حرب أخيك اجتماعها على حرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه ]و آله[ قبل اليوم.
و منها ما كتب عليه السلام في كتاب له إلى أهل مصر و هم العمدة في قتل عثمان من عبد اللَّه عليّ أمير المؤمنين إلى القوم الّذين غضبوا للَّه حين عصي في أرضه و ذهب بحقّه و ضرّب الجور سرادقه على البرّ و الفاجر و المقيم و الظّاعن، فلا معروف يستراح إليه و لا منكر يتناهى عنه.
و منها ما كتب عليه السلام في كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.. بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السّماء فشحّت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس آخرين، و نعم الحكم اللَّه..
و منها ما كتب عليه السلام في كتاب له إلى أهل مصر.. فلمّا مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده، فو اللَّه ما كان يلقى في روعي و لا يخطر على بالي أنّ العرب تعرج هذا الأمر من بعده )ص( عن أهل بيته، و لا أنّهم منحّوه عنّي من بعده..
ثمّ كتب عليه السلام بعد ما ذكر بيعة الناس له.. فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل و زهق، و اطمأنّ الدّين و تنهنه..
و منها قوله عليه السلام قد طلع طالع و لمع لامع و لاح لائح، و اعتدل مائل، و استبدل اللَّه بقوم قوما و بيوم يوما و انتظرنا الغير انتظار المجدب المطر، و إنّما الأئمّة قوّام اللَّه على خلقه و عرفاؤه على عباده، لا يدخل. الجنّة إلّا من عرفهم و عرفوه، و لا يدخل النّار إلّا من أنكرهم و أنكروه..
و منها قوله عليه السلام في البيعة.. فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، و إذا الميثاق في عنقي لغيري.
و قد مرّ في هذا الكتاب و سيأتي من تظلّمه عليه السلام منهم و شكايته عليه السلام عنهم، و قدحه فيهم، لا سيّما ما أوردناه في باب غصب الخلافة، و باب مثالب الثلاثة، و باب ما جرى بينه و بين عثمان، و ما ذكره في الإحتجاج على من يطلب ثاره، و ما ذكره لأبي ذرّ عند إخراجه.. ما لو أعدناه لكان أكثر ممّا أوردنا بكثير، لكن الأمر على الطالب يسير، و الجرعة تدلّ على الغدير، و الحبّة على البيدر الكبير. و قد
قال ابن أبي الحديد في شرح قوله عليه السلام اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش.. قد روى كثير من المحدّثين أنّه عقيب يوم السّقيفة تألّم و تظلّم و استنجد و استصرخ حتى سأموه الحضور و البيعة، و أنّه قال و هو يشير إلى القبر ي ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي و أنّه قال وا جعفراه و لا جعفر لي اليوم، وا حمزتاه و لا حمزة لي اليوم.
و قال في شرح قوله عليه السلام و قد قال لي قائل إنّك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص، و هو قوله عليه السلام إنّ لنا حقّا، إن نعطه نأخذه و إلّا نركب له أعجاز الإبل و إن طال السرى.
و قد ذكره الهروي في الغريبين، و فسّره بوجهين. و قال الجزري في النهاية منه حديث عليّ عليه السلام لنا حقّ.. و ذكر الخبر ثم قال الرّكوب على أعجاز الإبل شاقّ.. أي منعنا حقّنا ركبنا مركب المشقّة صابرين عليها و إن طال الأمد. و قال ضرب أعجاز الإبل مثلا لتأخّره عن حقّه الّذي كان يراه له، و تقدّم غيره عليه، و أنّه يصير على ذلك و إن طال أمده.. أي إن قدّمنا للإمامة تقدّمنا و إن أخّرنا صبرنا على الأثرة و إن طالت الأيّام. و قيل يجوز أن يريدوا إن تمنعه ببذل الجهد في طلبه فعل من يضرب في طلبته أكباد الإبل و لا يبالي باحتمال طول السّرى، و الأوّلان أوجه، لأنّه سلّم و صبر على التّأخّر و لم يقاتل، و إنّما قاتل بعد انعقاد الإمامة له. انتهى. و رواه ابن قتيبة، و قال معناه ركبنا مركب الضيم و الذلّ، لأنّ راكب عجز البعير يجد مشقّة، لا سيّما إذا تطاول به الركوب على تلك الحال، و يجوز أن يكون أراد نصبر على أن نكون أتباعا لغيرنا، لأنّ راكب عجز البعير يكون ردفا لغيره.
و روى ابن أبي الحديد أيضا أنّ فاطمة صلوات اللَّه عليها حرّضته يوما على النهوض و الوثوب، فسمع صوت المؤذّن أشهد أنّ محمّدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله، فقال لها أ يسرّك زوال هذا النداء من الأرض قالت لا. قال فإنّه ما أقول لك.
و روى أيضا، عن جابر الجعفي، عن محمد بن عليّ عليهما السلام قال قال عليّ عليه السلام ما رأيت منذ بعث اللَّه محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله رخاء، لقد أخافتني قريش صغيرا و أنصبتني كبيرا حتى قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و كانت الطامّة الكبرى، وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
و روى ابن قتيبة و هو من أعاظم رواة المخالفين في كتاب الإمامة و السياسة أنّ عليّا عليه السلام أتي به أبو بكر و هو يقول أنا عبد اللَّه و أخو رسوله فقيل له بايع أبا بكر، فقال أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، و لا أبايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله تأخذونه منّا أهل البيت غصبا، أ لستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمكان محمّد )ص( منكم فأعطوكم المقادة، و سلّموا إليكم الإمارة، فأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول اللَّه )ص( حيّا و ميّتا فأنصفونا إن كنتم تخافون اللَّه من أنفسكم، و إلّا فبوءوا بالظلم و أنتم تعلمون. فقال له عمر إنّك لست متروكا حتى تبايع. فقال له عليّ )ع( احلب حلبا لك شطره اشدده له اليوم يردده عليك غدا، ثم قال و اللَّه يا عمر لا أقبل قولك، و لا أبايعه. فقال له أبو بكر فإن لم تبايعني فلا أكرهك. فقال عليّ عليه السلام يا معشر المهاجرين اللَّه.. اللَّه لا تخرجوا سلطان محمّد صلّى اللَّه عليه و آله في العرب من داره و قعر بيته إلى دوركم و قعور بيوتكم، و تدفعوا أهله عن مقامه من الناس و حقّه، فو اللَّه يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان فيها القارئ لكتاب اللَّه، الفقيه في دين اللَّه، العالم بسنن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله.
ثم قال ابن قتيبة و في رواية أخرى أخرجوا عليّا عليه السلام فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له بايع. فقال إن أنا لم أفعل فمه. فقالوا إذا و اللَّه الذي لا إله إلّا هو نضرب عنقك. قال إذا تقتلون عبد اللَّه و أخا رسوله. فقال عمر أمّا عبد اللَّه فنعم، و أمّا أخا رسول اللَّه فلا، و أبو بكر ساكت لا يتكلّم، فقال له عمر أ لا تأمر فيه بأمرك. فقال لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق عليّ عليه السلام بقبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يصيح و يبكي و ينادي ي ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي.. ثم ذكر ابن قتيبة أنّهما جاءا إلى فاطمة عليها السلام معتذرين، فقالت نشدتكما باللَّه أ لم تسمعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يقول رضا فاطمة من رضاي و سخط فاطمة ابنتي من سخطي. و من أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني. قالا نعم، سمعناه. قالت فإنّي أشهد اللَّه و ملائكته أنّكما أسخطتماني و ما أرضيتماني، و لئن لقيت النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله لأشكونّكما إليه. فقال أبو بكر أنا عائذ باللَّه من سخطه و سخطك يا فاطمة. ثم انتحب أبو بكر باكيا تكاد نفسه أن تزهق، و هي تقول و اللَّه لأدعونّ اللَّه عليك في كلّ صلاة، و أبو بكر يبكي و يقول و اللَّه لأدعونّ اللَّه لك في كلّ صلاة أصلّيها.. ثم خرج باكيا.
و روى أيضا ابن قتيبة أنّ عليّا عليه السلام قال فاجز قريشا عنّي بفعالها، فقد قطعت رحمي، و ظاهرت عليّ، و سلبتني سلطان ابن عمّي، و سلّمت ذلك منها لمن ليس في قرابتي و حقّي في الإسلام، و سابقتي التي لا يدّعي مثلها مدّع إلّا أن يدّعي ما لا أعرفه، و لا أظنّ اللَّه يعرفه.
و روى أيضا أنّه قال للحسن عليهما السلام و ايم اللَّه يا بني ما زلت مظلوما مبغيّا عليّ منذ هلك جدّك صلّى اللَّه عليه و آله.
و روى ابن أبي الحديد أنّ عليّا عليه السلام قال و قد سمع صارخا ينادي أنا مظلوم، فقال هلمّ فلنصرخ معا، فإنّي ما زلت مظلوما.
و قال قال عليّ عليه السلام ما زلت مستأثرا عليّ مدفوعا عمّا أستحقّه و أستوجبه.
و قال عليه السلام اللّهمّ اجز قريشا فإنّها منعتني حقّي و غصبتني أمري.
و روى أيضا، عن جابر، عن أبي الطفيل، قال سمعت عليّا عليه السلام يقول اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش فإنّهم قطعوا رحمي، و غصبوني حقّي، و أجمعوا على منازعتي أمرا كنت أولى به.
و عن الشعبي، عن شريح بن هاني، قال قال عليّ عليه السلام اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش فإنّهم قطعوا رحمي و وضعوا إنائي، و صغّروا عظيم منزلتي، و أجمعوا على منازعتي.
و روى السيّد ابن طاوس في كتاب الطرائف من الصحيحين و الجمع بينهما للحميدي بإسنادهم عن مالك بن أوس قال قال عمر للعباس و عليّ عليه السلام ما هذا لفظه فلمّا توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قال أبو بكر أنا وليّ رسول اللَّه.. فجئتما، أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك، و يطلب هذا ميراث امرأته من أبيها.. فقال أبو بكر قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا، و اللَّه يعلم أنّه لصادق بارّ راشد تابع للحقّ ثم توفي أبو بكر فقلت أنا وليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و وليّ أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا و اللَّه يعلم أنّي لصادق بارّ تابع للحقّ فوليتها، ثم جئت أنت و هذا و أنتما جميع و أمركما واحد فقلتما ادفعها إلينا.
أقول قد رأيت هذا الخبر في الصحيحين و حكاه في جامع الأصول عنهما و عن الترمذي و النسائي و أبي داود، عن الحميدي بألفاظ مختلفة.. من أراد الاطّلاع عليه فليراجعه.
و قال السيّد المرتضى علم الهدى رضي اللَّه عنه في الشافي قد روى جميع أهل السير أنّ أمير المؤمنين عليه السلام و العباس لمّا تنازعا في الميراث و تخاصما إلى عمر، قال عمر من يعذرني من هذين، ولّي أبو بكر. فقالا عقّ و ظلم، و اللَّه يعلم أنّه كان برّا تقيّا، ثم وليت فقالا عقّ و ظلم. و غير خاف عليهم و إنّما كانوا يجاملونه و يجاملهم.
و روى أحمد بن أعثم الكوفي في تاريخه، قال كتب معاوية إلى عليّ عليه السلام أمّا بعد، فإنّ الحسد عشرة أجزاء تسعة منها فيك و واحد منها في سائر الناس، و ذلك إنّه لم يل أمور هذه الأمّة أحد بعد النبيّ صلّى اللَّه عليه ]و آله[ إلّا و له قد حسدت، و عليه تعدّيت، و عرفنا ذلك منك في النظر الشزر، و قولك الهجر، و تنفسّك الصعداء، و إبطائك عن الخلفاء، تقاد إلى البيعة كما يقاد الجمل المخشوش حتى تبايع و أنت كاره، ثم إنّي لا أنسى فعلك بعثمان بن عفّان على قلّة الشرح و البيان، و و اللَّه الذي لا إله إلّا هو لنطلبنّ قتلة عثمان في البرّ و البحر و الجبال و الرمال حتى نقتلهم أو لنلحقنّ أرواحنا باللَّه، و السلام. فكتب إليه عليّ عليه السلام أمّا بعد، فإنّه أتاني كتابك تذكر فيه حسدي للخلفاء، و إبطائي عليهم، و النكير لأمرهم فلست أعتذر من ذلك إليك و لا إلى غيرك، و ذلك أنّه لمّا قبض النبيّ صلّى اللَّه عليه ]و آله[ و اختلف الأمّة، قالت قريش منّا الأمير، و قالت الأنصار بل منّا الأمير، فقالت قريش محمّد صلّى اللَّه عليه ]و آله[ منّا، و نحن أحقّ بالأمر منكم، فسلّمت الأنصار لقريش الولاية و السلطان، فإنّما تستحقّها قريش بمحمّد صلّى اللَّه عليه ]و آله[ دون الأنصار، فنحن أهل البيت أحقّ بهذا من غيرنا.. إلى قوله عليه السلام و قد كان أبوك أبو سفيان جاءني في الوقت الذي بايع الناس فيه أبا بكر، فقال لي أنت أحقّ بهذا الأمر من غيرك، و أنا يدك على من خالفك، و إن شئت لأملأنّ المدينة خيلا و رجلا على ابن أبي قحافة، فلم أقبل ذلك، و اللَّه يعلم أنّ أباك قد فعل ذلك فكنت أنا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين أهل الإسلام، فإن تعرف من حقّي ما كان أبوك يعرفه لي فقد أصبت رشدك، و إن أبيت فها أنا قاصد إليك، و السلام.
و روى ابن أبي الحديد، عن الكلبي قال لمّا أراد عليّ عليه السلام المسير إلى البصرة، قام فخطب النّاس، فقال بعد أن حمد اللَّه و صلّى على رسوله صلّى اللَّه عليه و آله.. إنّ اللَّه لمّا قبض نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله استأثرت علينا قريش بالأمر، و دفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من الناس كافّة، فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، و سفك دمائهم، و الناس حديثو عهد بالإسلام، و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن، و يعتكه أقلّ خلف، فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء، و اللَّه وليّ تمحيص سيّئاتهم، و العفو عن هفواتهم.
و روى أيضا، عن عليّ بن محمد المدائني، عن عبد اللَّه بن جنادة، قال قدمت من الحجاز أريد العراق في أوّل إمارة عليّ عليه السلام، فمررت بمكّة فاعتمرت، ثم قدمت المدينة، فدخلت مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله إذا نودي الصّلاة جامعة، فاجتمع الناس، و خرج عليّ عليه السلام متقلّدا سيفه، فشخصت الأبصار نحوه، فحمد اللَّه و صلّى على رسوله صلّى اللَّه عليه و آله، ثم قال أمّا بعد، فإنّه لمّا قبض اللَّه نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله قلنا نحن أهله و ورثته و عترته و أولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، و لا يطمع في حقّنا طامع، إذ انتزى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا، فصارت الإمرة لغيرنا، و صرنا سوقة يطمع فينا الضعيف و يتغزّر علينا الذّليل، فبكت الأعين منّا لذلك، و خشنت الصدور، و جزعت النّفوس، و ايم اللَّه لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين، و أن يعود الكفر، و يبور الدين، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه، فولي الناس ولاة لم يألوا الناس خيرا، ثم استخرجتموني أيّها الناس من بيتي فبايعتموني..
و قال السيّد الجليل ابن طاوس في كتاب الطرائف روى أبو بكر أحمد بن مردويه في كتابه و هو من أعيان أئمّتهم، و رواه أيضا المسمّى عندهم صدر الأئمّة أخطب خطباء خوارزم موفّق بن أحمد المكّي ثم الخوارزمي في كتاب الأربعين، قال عن الإمام الطبراني، عن سعيد الرازي، عن محمد بن حميد، عن زافر بن سليمان، عن الحارث بن محمد، عن أبي الطفيل، قال كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم، فسمعت عليّا عليه السلام يقول بايع الناس أبا بكر و أنا و اللَّه أولى بالأمر منه و أحقّ به منه، فسمعت و أطعت مخافة أن يرجع القوم كفّارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثم بايع أبا بكر لعمر و أنا أولى بالأمر منه، فسمعت و أطعت مخافة أن يرجع القوم كفّارا، ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذن لا أسمع و لا أطيع.
و في رواية أخرى رواها ابن مردويه أيضا.. و ساق قول عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن مبايعتهم لأبي بكر و عمر كما ذكره في الرواية المتقدّمة سواء، إلّا أنّه قال في عثمان ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذن لا أسمع و لا أطيع، إنّ عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلا في الصلاح و لا يعرفونه لي، كأنّما نحن فيه شرع سواء، و ايم اللَّه لو أشاء أن أتكلّم لتكلّمت ثم لا يستطيع عربيّكم و لا عجميّكم و لا المعاهد منكم و لا المشرك ردّ خصلة منها، ثم قال أنشدكم اللَّه أيّها الخمسة أ منكم أخو رسول اللَّه غيري قالوا لا..
ثم ساق الحديث في ذكر مناقبه عليه السلام إلى آخر ما سيأتي في باب الشورى بأسانيد جمّة و طرق مختلفة. ثم قال السيّد رضي اللَّه عنه و من طرائف ما نقلوه في كتبهم المعتبرة برواية رؤسائهم من إظهار عليّ بن أبي طالب عليه السلام الكراهيّة من تقدّم أبي بكر و عمر و عثمان في الخلافة، و أنّه كان أحقّ بها منهم بمحضر الخلق الكثير على المنابر و على رءوس الأشهاد ما ذكره جماعة من أهل التواريخ و العلماء.
و ذكر ابن عبد ربّه في الجزء الرابع من كتاب العقد، و أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل في الخطبة التي خطب بها عليّ بن أبي طالب عليه السلام عقيب مبايعة الناس له و هي أوّل خطبة خطبها فقال، بعد إشارات ظاهرة و باطنة إلى التألّم ممّن تقدّمه و ممّن وافقهم ما هذا لفظه و قد كانت أمور ملتم فيها عن الحقّ ميلا كثيرا كنتم فيها غير محمودين.
و قال ابن عبد ربّه لم تكونوا فيها محمودين، أما إنّي لو أشاء أن أقول لقلت عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، سبق الرجلان و قام الثالث كالغراب همّته بطنه، ويله لو قصّ جناحاه و قطع رأسه لكان خيرا له، انظروا فإن أنكرتم فأنكروا و إن عرفتم فاعرفوا..
ثم يقول في آخرها ما هذا لفظه على ما حكاه صاحب كتاب العقد ألا إنّ الأبرار من عترتي و أطائب أرومتي أحلم الناس صغارا و أعلمهم كبارا، ألا و إنّا أهل بيت من علم اللَّه علمنا، و بحكم اللَّه حكمنا، و من قول صادق سمعنا، فإن تتّبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، معنا راية الحقّ من تبعها لحق و من تأخّر عنها غرق، ألا و بنا يرد ترة كلّ مؤمن، و بنا تخلع ربقة الذلّ من أعناقهم، و بنا فتح، و بنا يختم.
أقول و ممّا يؤيّد شكايته عليه السلام عنهم ما سيأتي من سوء معاشرتهم له عليه السلام و سعيهم في إطفاء نوره و إضمار ذكره.
و روى ابن أبي الحديد، عن ابن عباس أنّه قال دخلت يوما على عمر، فقال لي يا ابن عباس لقد أجهد هذا الرّجل نفسه في العبادة حتى نحلت رياء. قلت من هو. قال عمر الأجلح يعني عليّا عليه السلام. قلت و ما يقصد بالرياء يا أمير المؤمنين. قال يرشّح نفسه بين الناس للخلافة. قلت و ما يصنع بالتّرشيح قد رشّحه لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله فصرفت عنه. قال إنّه كان شابّا حدثا فاستصغرت العرب سنّه، و قد كمل الآن، أ لم تعلم أنّ اللَّه لم يبعث نبيّا إلّا بعد الأربعين. قلت يا أمير المؤمنين أمّا أهل الحجى و النّهى فإنّهم ما زالوا يعدّونه كاملا منذ رفع اللَّه منار الإسلام، و لكنّهم يعدّونه محروما محدودا. فقال أما إنّه سيليها بعد هياط و مياط، ثم تزلّ فيها قدمه، و لا يقضي فيها إربه، و لتكوننّ شاهدا ذلك يا عبد اللّه، ثم يتبيّن الصّبح لذي عينين، و يعلم العرب صحّة رأي المهاجرين الأوّلين الّذين صرفوها عنه بادئ بدء، فليتني أراكم بعدي يا عبد اللّه إنّ الحرص محرّمة، و إنّ الدنيا كظلّك كلّما هممت به ازداد عنك بعدا. قال و نقلت هذا الخبر من أمالي محمّد بن حبيب.
و روى أيضا عن ابن عباس أنّه قال خرجت مع عمر إلى الشّام فانفرد يوما يسير على بعيره فاتّبعته، فقال لي يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمّك، سألته أن يخرج معي فلم يفعل، و لا أزال أراه واجدا، فبما تظنّ موجدته. قلت يا أمير المؤمنين إنّك لتعلم. قال أظنّه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة. قلت هو ذاك، إنّه يزعم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أراد الأمر له. فقال يا ابن عباس و أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكان ما ذا إذا لم يرد اللّه تعالى ذلك إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد أمر و أراد اللّه غيره، نفذ مراد اللّه و لم ينفذ مراد رسول اللّه، أو كلّما أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان إنّه أراد إسلام عمّه و لم يرده اللّه فلم يسلّم.
قال و قد روى معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ، و هو قوله إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددته عنه خوفا من الفتنة و انتشار أمر الإسلام، فعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما في نفسي و أمسك، و أبي اللّه إلّا إمضاء ما حتم.
أقول قد سبق و سيأتي في أخبار فدك و غيرها ما يؤيّد ذلك.
توضيح
قوله عليه السلام وضعوا إنائي.. الظاهر أكفئوا كما مرّ، و على تقديره لعلّ المعنى وضعوا عندهم للأكل أو ضيّعوه و حقّروه، و الأصوب أصغوا كما في بعض النسخ.. أي أمالوه لينصبّ ما فيه، و هذا مثل شائع. قال الجوهري أصغيت إلى فلان إذا ملت بسمعك نحوه، و أصغيت الإناء أملته، يقال فلان مصغى إناؤه إذا نقص حقّه. و قال في النهاية الوطب الزّق الّذي يكون فيه السّمن و اللّبن.. و منه الحديث و الأوطاب تمخض ليخرج زبدها. و عتك اللّبن كضرب اشتدّت حموضته. و الانتزاء تسرّع الإنسان إلى الشّرّ، افتعال من النّزو، و هو الوثوب. و السوقة بالضّمّ الرّعيّة، و من دون الملك من النّاس، و ما يظنّ أنّهم أهل الأسواق فهو وهم. و قال الفيروزآبادي ما زال في هياط و مياط بكسرهما دنوّ و تباعد. و قال تهايطوا اجتمعوا و أصلحوا أمرهم. و قال المياط ككتاب الدّفع و الزّجر و الميل و الإدبار، و أشدّ الشّوق في الصّدر.
تذييل
أقول لا يخفى على المنصف بعد ما أوردناه من الأخبار
بطلان خلافة الغاصبين زائدا على ما قدّمناه، و لنوضّح ذلك بوجوه
الأوّل
إنّ الجمهور تمسّكوا في ذلك بما ادّعوه من الإجماع و اعترفوا بعدم النصّ، فإذا ثبت تألّمه و تظلّمه عليه السلام قبل البيعة و بعدها ثبت عدم انعقاد الإجماع على خلافة أبي بكر، و كيف يدّعي عاقل بعد الإطّلاع على تظلّماته عليه السلام و إنكاره لخلافتهم قبل البيعة و بعدها كونها على وجه الرضا دون الإجبار و الإكراه.
الثاني
إنّ إجباره صلوات اللّه عليه و آله على البيعة على الوجه الشنيع الذي رويناه من طريق المؤالف و المخالف و تهديده بالقتل، و تشبيهه عليه السلام بثعلب يشهد له ذنبه، و بأمّ طحال، و إسناد ملازمة كلّ فتنة إليه على رءوس الأشهاد و.. غير ذلك من غصب حقّ فاطمة عليها السلام و ما جرى من المشاجرات بينه عليه السلام و بينهم كما مرّ و سيأتي، و أشباه ذلك إيذاء له عليه السلام و إعلان لبغضه و عداوته و شتم له. و سيأتي أخبار متواترة من طرق الخاصّ و العامّ تدلّ على كفر من سبّه و نفاق من أبغضه و عاداه، و أنّه عدوّ اللّه و عدوّ رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و لا ريب أنّ الهمّ بدفع أحد عن مقامه اللّائق به و حطّه عن درجته و إتيان ما ينافي احترامه من أشنع المعاداة، مع أنّه قال عمر إذن نضرب عنقك، و كذّبه عليه السلام في دعوى المؤاخاة.. و لا ريب ذو مسكة من العقل في أنّ الكافر و المنافق و من يحذو حذوهما لا يصلحان لخلافة سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله.
و قد روى في المشكاة الذي هو من أصولهم المتداولة اليوم عن زرّ بن حبيش قال قال لي عليّ رضي اللّه عنه و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة إنّه لعهد إليّ النبيّ الأميّ صلّى اللّه عليه و آله أن لا يحبّني إلّا مؤمن و لا يبغضني إلّا منافق.
و روى أيضا بأسانيد، عن أمّ سلمة، قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يحبّ عليّا عليه السلام منافق و لا يبغضه مؤمن.
قال رواه أحمد و الترمذي عنها رضي اللّه عنها أيضا قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سبّ عليّا عليه السلام فقد سبّني
قال رواه أحمد. و روى ابن شيرويه الدّيلمي و هو من مشاهير محدّثيهم في كتاب الفردوس في باب الميم، عن ابن عباس، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سبّ عليّا عليه السلام فقد سبّني و من سبّني فقد سبّ اللّه، و من سبّ اللّه أدخله نار جهنّم، و له عذاب عظيم.
و عن سلمان، قال قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يا عليّ محبّك محبّي و مبغضك مبغضي.
و عن عليّ عليه السلام، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا علي ما يبغضك من الرجال إلّا منافق و من حملته أمّه و هي حائض.
و روى أيضا في باب الثاء، عن جابر بن عبد اللّه، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاث من كنّ فيه فليس منّي و لا أنا منه من أبغض عليّا و نصب لأهل بيتي، و من قال الإيمان كلام.
و روى في جامع الأصول، عن أبي سلمة، قال إنّا كنّا لنعرف المنافقين نحن معاشر الأنصار ببغضهم عليّ بن أبي طالب ]عليه السلام[،
قال أخرجه الترمذي. و عن أبي سعيد، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يحبّ عليّا ]عليه السلام[ منافق و لا يبغضه مؤمن
قال أخرجه الترمذي. و عن زر بن حبيش، قال سمعت عليّا ]عليه السلام[ يقول و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة إنّه لعهد النبيّ الأميّ إليّ أنّه لا يحبّني إلّا مؤمن و لا يبغضني إلّا منافق.
قال أخرجه مسلم و الترمذي و النسائي.
و قال ابن عبد البرّ في الإستيعاب و هو من كتبهم المعتبرة المتداولة التي عليها اعتمادهم روت طائفة من الصحابة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم قال لعليّ عليه السلام لا يحبّك إلّا مؤمن و لا يبغضك إلّا منافق.
قال و كان عليّ عليه السلام يقول و اللّه إنّه لعهد النبيّ الأميّ إليّ أنّه لا يحبّني إلّا مؤمن و لا يبغضني إلّا منافق.
و قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم من أحبّ عليّا فقد أحبّني و من أبغض عليّا فقد أبغضني، و من آذى عليّا فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه.
و قال روى عمّار الدهنّي، عن الزبير، عن جابر، قال ما كنّا نعرف المنافقين إلّا ببغض عليّ بن أبي طالب
ثم قال بعد ذكر أخبار كثيرة أخرى في فضائله عليه السلام و لهذه الأخبار طرق صحاح قد ذكرناها في موضعها.
روى ابن أبي الحديد في شرح النهج، عن شيخه أبي القاسم البلخي، أنّه قال قد اتّفقت الأخبار الصحيحة التي لا ريب عند المحدّثين فيها أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السلام لا يبغضك إلّا منافق و لا يحبّك إلّا مؤمن.
أقول سنورد في المجلد التاسع في أبواب فضائل أمير المؤمنين عليه السلام و مناقبه تلك الأخبار و غيرها ممّا يدلّ على ما نحن بصدده من طريق الخاصّة و العامّة، و إنّما أوردت هاهنا قليلا منها من كتبهم المعتبرة المتداولة لئلّا يحتاج الناظر في هذا المجلد إلى الرجوع إلى غيره، و كفى في ذلك
ممّا ذكروه متواترا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال يوم غدير خمّ اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه.
الثالث
إنّه عليه السلام صرّح في كثير من الروايات السالفة بأنّ الخلافة كانت حقّا له، و إنّه كان مظلوما فيها، فلو كان عليه السلام يرى إمامتهم حقّا و خلافتهم صحيحة و مع ذلك يتألّم و يتظلّم و يقول إنّما طلبت حقّا لي و أنتم تحولون بيني و بينه، و يصرّح بأنّه لو كان له أعوان لقاتلهم و لم يقعد عن طلب حقّه، لزمه إنكار الحقّ و الردّ على اللّه و على رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و الحسد عليهم بما آتاهم اللّه من فضله، و الجمهور مع علوّ درجتهم في النصب لا يمكنهم التزام ذلك، فبعد ثبوت التألّم و التظلّم لا تبقى لأحد شبهة في أنّه عليه السلام كان معتقدا لبطلان خلافتهم، و قد تواترت الأخبار بيننا و بينهم في أنّه عليه السلام لم يفارق الحقّ و لم يفارقه كما سيأتي في أبواب فضائله عليه السلام و قد اعترف ابن أبي الحديد و غيره بصحّة هذا الخبر بل تواتره. و قال الشهرستاني في جواب استدلال العلّامة رحمه اللّه
بقوله صلّى اللّه عليه و آله اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث ما دار..
و غيره ممّا سبق ما هذا لفظه إنّ هذا شيء لا يرتاب فيه حتى يحتاج إلى دليل. و حديث الثقلين أيضا متواتر كما ستعرف في بابه، و هو كاف في هذا الباب. و هل كان غصبهم الخلافة و صرفها عن أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل دفنه، و همّهم بإحراق بيتهم، و سوقهم لأمير المؤمنين عليه السلام بأعنف العنف إلى البيعة، و تكذيبه في شهادته، و دعوى المؤاخاة، و تهديده بالقتل و إيذاءه في جميع المواطن، و غصب حقّ فاطمة عليها السلام و تكذيبها و قتل ولدها، و قتل الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهما.. من مقتضيات وصيّة نبيّهم صلّى اللّه عليه و آله فيهم. و لعمري ما أظنّ عاقلا يرتاب بعد التأمّل فيما جرى في ذلك الزمان في أنّ القول بخلافتهم و خلافته عليه السلام متناقضان، و كيف يرضى عاقل بإمامة إمامين يحكم كلّ منهما بضلال الآخر.
و قد روى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أنّ عمر بن الخطّاب كان يقول يوم السقيفة أيّها الناس بايعوا خليفة اللّه، فإنّ من بات ليلة بغير إمام كان عاصيا
و لا ريب في تخلّفه عليه السلام عن بيعتهم مدّة طويلة كما عرفت.
حكاية ظريفة تناسب المقام
روى في كتاب الصراط المستقيم و غيره أنّ ابن الجوزي قال يوما على منبره سلوني قبل أن تفقدوني، فسألته امرأة عمّار روي أنّ عليّا عليه السلام سار في ليلة إلى سلمان فجهّزه و رجع فقال روي ذلك، قالت فعثمان ثم ثلاثة أيّام منبوذا في المزابل و عليّ عليه السلام حاضر. قال نعم. قالت فقد لزم الخطأ لأحدهما. فقال إن كنت خرجت من بيتك بغير إذن زوجك فعليك لعنة اللّه، و إلّا فعليه. فقالت خرجت عائشة إلى حرب عليّ عليه السلام بإذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو لا فانقطع و لم يحر جوابا.
حكاية أخرى
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج حدّثني يحيى بن سعيد بن عليّ الحنبلي المعروف بابن عالية، قال كنت حاضرا عند إسماعيل بن عليّ الحنبلي الفقيه و كان مقدّم الحنابلة ببغداد إذ دخل رجل من الحنابلة قد كان له دين على بعض أهل الكوفة، فانحدر إليه يطالبه فيه، و اتّفق أن حضر يوم زيارة الغدير و الحنبليّ المذكور بالكوفة و يجتمع بمشهد أمير المؤمنين عليه السلام من الخلائق جموع عظيمة تتجاوز حدّ الإحصاء. قال ابن عالية فجعل الشيخ إسماعيل يسائل ذلك الرجل ما فعلت.. ما رأيت.. هل وصل مالك إليك.. هل بقي منه بقيّة عند غريمك.. و ذلك الرجل يجاوبه، حتى قال له يا سيّدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير، و ما يجري عند قبر عليّ بن أبي طالب من الفضائح و الأقوال الشنيعة، و سبّ الصحابة جهارا من غير مراقبة و لا خيفة. فقال له إسماعيل أي ذنب لهم، و اللّه ما جرّأهم على ذلك و لا فتح لهم هذا الباب إلّا صاحب ذلك القبر. فقال ذلك الرجل و من هو صاحب القبر. قال عليّ بن أبي طالب. قال يا سيّدي هو الذي سنّ لهم ذلك و علّمهم إيّاه و طرّقهم إليه. قال نعم و اللّه. قال يا سيّدي فإن كان محقّا فما لنا نتولّى فلانا و فلانا، و إن كان مبطلا فما لنا نتولّاه ينبغي أن نبرأ إمّا منه أو منهما. قال ابن عالية فقام إسماعيل مسرعا فلبس نعليه و قال لعن اللّه إسماعيل الفاعل بن الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة، و دخل دار حرمه، و قمنا نحن فانصرفنا.
الرابع
أنّ إيذاءه و غصب حقّه عليه السلام على الوجه الذي يكشف تظّلماته عنه لا ريب في أنّه تخلّف عن أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، و الروايات من الجانبين متواطئة على أنّ المتخلّف عنهم هالك، و أنّهم سفينة النجاة، و سيأتي في بابه نقلا من كتبهم المعتبرة كالمشكاة و فضائل السمعاني و غيرهما.
68- و قال العلّامة قدّس سرّه في كشف الحقّ روى الزمخشري و كان من أشدّ الناس عنادا لأهل البيت )ع( و هو الثقة المأمون عند الجمهور بإسناده قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ فاطمة مهجة قلبي و ابناها ثمرة فؤادي، و بعلها نور بصري، و الأئمّة من ولدها أمناء ربّي، و حبل ممدود بينه و بين خلقه، من اعتصم بهم نجا، و من تخلّف عنهم هوى.
تتميم
ينبغي أن يعلم أنّ من أقوى الحجج على خلفائهم الثلاثة إنكار أئمّتنا عليهم السلام لهم، و قولهم فيهم بأنّهم على الباطل، لاعتراف جمهور علماء أهل الخلاف بفضلهم و علوّ درجتهم، و لو وجدوا سبيلا إلى القدح فيهم و الطعن عليهم لسارعوا إلى ذلك مكافاة الطعن الشيعة في أئمّتهم، و ذلك من فضل اللّه تعالى على أئمّتنا صلوات اللّه عليهم، حيث أذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، حتى أنّ الناصب المعاند اللغوي الشهرستاني قال في مفتتح شرح كتاب كشف الحق بعد ما بالغ في ذمّ المصنّف قدّس اللّه روحه و من الغرائب أنّ ذلك الرجل و أمثاله ينسبون مذهبهم إلى الأئمّة الاثني عشر رضوان اللّه عليهم أجمعين و هم صدور إيوان الاصطفاء، و بدور سماء الاجتباء، و مفاتيح أبواب الكرم، و مجاريح هواطل النعم، و ليوث غياض البسالة، و غيوث رياض الأيالة، و سبّاق مضامير السماحة، و خزّان نفوذ الرجاحة، و الأعلام الشوامخ في الإرشاد و الهداية، و الجبال الرواسخ في الفهم و الدراية.. ثم ذكر. أبياتا أنشدها في مدحهم، ثم ذكر أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يثنون على الصحابة، و استشهد برواية نقلها من كتاب كشف الغمّة، و زعم أنّ الباقر عليه السلام سمى فيها أبا بكر صدّيقا.
و قال صاحب إحقاق الحقّ رحمه اللّه تعالى إنّ الحكاية عن كشف الغمّة افتراء على صاحبه، و ليس فيه من الرواية عين و لا أثر... ثم نقل عن الكتاب المذكور قول الصادق عليه السلام ولدني أبو بكر مرّتين، و زاد فيه لفظا الصدّيق.
و لا يرتاب عاقل في أنّ القول بأنّ أئمّتنا سلام اللّه عليهم كانوا يرون خلافتهم حقّا من الخرافات الواهية التي لا يقبلها و لا يصغي إليها من له أدنى حظّ من العقل و الإنصاف، و لو أمكن القول بذلك لأمكن إنكار جميع المتواترات و الضروريات، و لجاز لليهودي أن يدّعي أنّ عيسى عليه السلام لم يدع النبوّة بل كان يأمر الناس بالتهوّد، و للنصرانيّ أن يقول مثل ذلك في نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله، و بعد ثبوت كون أهل البيت عليهم السلام ذاهبين إلى بطلان خلافتهم، و إلى أنّهم كانوا ضالّين مضلّين، ثبت بطلان خلافتهم بالإجماع منّا و من الجمهور، إذ لم يقل أحد من الفريقين بضلال أهل البيت عليهم السلام سيّما في مسألة الإمامة، و إذا ثبت بطلانهم ثبت خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بالإجماع أيضا منّا و منهم، بل باتّفاق جميع المسلمين. و أمّا ما حكي من القول بخلافة العباس فقد صرّح جماعة من أهل السير بأنّه ممّا وضعه الجاحظ تقرّبا إلى العباسيّين و لم يقل به أحد قبل زمانهم، و مع ذلك فقد انقرض القائلون به و لم يبق منهم أحد، فتحقّق الإجماع على ما ادّعيناه بعدهم. و يدلّ على بطلانه
أيضا ما وعده اللّه على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله من بقاء الحقّ إلى يوم الدين، كما هو المسلّم بيننا و بين المخالفين.
قال جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام..... في حديث فقال له رجل يا ابن رسول اللّه إنّي عاجز ببدني عن نصرتكم و لست أملك إلّا البراءة من أعدائكم و اللعن ]عليهم[، فكيف حالي فقال الصادق عليه السّلام حدّثني أبي عن أبيه عن جده عن رسول اللّه صلوات اللّه عليهم أنّه قال من ضعف عن نصرتنا أهل البيت فلعن في خلواته أعداءنا بلّغ اللّه صوته جميع الأملاك من الثرى إلى العرش، فكلّما لعن هذا الرجل أعداءنا لعنا ساعوه و لعنوا من يلعنه ثم ثنّوا، فقالوا اللّهم صلّ على عبدك هذا الذي قد بذل ما في وسعه و لو قدر على أكثر منه لفعل، فإذا النداء من قبل اللّه عزّ و جلّ قد أجبت دعاءكم و سمعت نداءكم، و صلّيت على روحه في الأرواح، و جعلته عندي من الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ.
عن الصادق عليه السّلام من خالفكم و إن عبد و اجتهد منسوب إلى هذه الآية وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً.