الآيات البقرة سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ تفسير قال الطبرسي رحمه الله سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ أي سوف يقول الجهال و هم الكفار الذين هم بعض الناس ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها أي أي شيء حولهم و صرفهم يعني المسلمين عن بيت المقدس الذي كانوا يتوجهون إليه في صلاتهم و اختلف في الذين قالوا ذلك فقال ابن عباس و غيره هم اليهود و قال الحسن هم مشركو العرب فإن رسول الله ص لما تحول إلى الكعبة من بيت المقدس قالوا يا محمد رغبت عن قبلة آبائك ثم رجعت إليها فلترجعن إلى دينهم و قال السدي هم المنافقون قالوا ذلك استهزاء بالإسلام و اختلف في سبب مقالتهم ذلك فقيل إنهم قالوا ذلك على وجه الإنكار للنسخ عن ابن عباس و قيل إنهم قالوا يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها ارجع إلى قبلتنا نتبعك و نؤمن بك أرادوا بذلك فتنته عن ابن عباس أيضا و قيل إنما قال ذلك مشركو العرب ليوهموا أن الحق ما هم عليه قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يتصرف فيها على ما تقتضيه حكمته عن ابن عباس كانت الصلاة إلى بيت المقدس بعد مقدم النبي ص المدينة سبعة عشر شهرا و عن البراء بن عازب قال صليت مع رسول الله ص نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ثم صرفنا نحو الكعبة أورده مسلم في الصحيح و عن أنس إنما كان ذلك تسعة أشهر أو عشرة أشهر و عن معاذ ثلاثة عشر شهرا و رواه علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق ع قال تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلى النبي ص ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس و بعد مهاجره إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر قال ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة و ذلك أن اليهود كانوا يعيرون رسول الله ص و يقولون أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول الله ص من ذلك غما شديدا و خرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله في ذلك أمرا فلما أصبح و حضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين فنزل عليه جبرئيل فأخذ بعضديه و حوله إلى الكعبة و أنزل عليه قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الآية فكان صلى ركعتين إلى بيت المقدس و ركعتين إلى الكعبة فقالت اليهود و السفهاء ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها
قال الزجاج إنما أمر بالصلاة إلى بيت المقدس لأن مكة و بيت الله الحرام كانت العرب آلفة بحجها فأحب الله أن يمتحن القوم بغير ما آلفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها قيل معنى كُنْتَ عَلَيْها صرت عليها و أنت عليها يعني الكعبة و قيل و هو الأصح يعني بيت المقدس أي ما صرفناك عن القبلة التي كنت عليها أو ما جعلنا القبلة التي كنت عليها فصرفناك عنها إِلَّا لِنَعْلَمَ أي ليعلم حزبنا من النبي و المؤمنين أو ليحصل المعلوم موجودا أو لنعاملكم معاملة المختبر أو لأعلم مع غيري مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ أي يؤمن به و يتبعه في أقواله و أفعاله مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أي الذين ارتدوا لما حولت القبلة أو المراد كل مقيم على كفره وَ إِنْ كانَتْ أي القبلة أو التحويلة و مفارقة القبلة الأولى و قيل أي الصلاة لَكَبِيرَةً أي لثقيلة يعني التحويلة إلى بيت المقدس لأن العرب لم تكن قبلة أحب إليهم من الكعبة أو إلى الكعبة. وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ قيل فيه أقوال أحدها أنه لما حولت القبلة قال ناس كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى فنزلت و قيل إنهم قالوا كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك و كان قد مات أسعد بن زرارة و البراء بن معرور و كانا من النقباء فقال وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي صلاتكم إلى بيت المقدس و يمكن حمل الإيمان على أصله. و ثانيها أنه لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويلة أتبعه بذكر ما لهم عنده بذلك من المثوبة و أنه لا يضيع ما عملوه من الكلفة و ثالثها أنه لما ذكر إنعامه عليهم بالتولية إلى الكعبة ذكر السبب الذي استحقوا به ذلك الإنعام و هو إيمانهم بما حملوه أولا فقال وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه إلى الكعبة. قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ قال المفسرون كانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله ص فقال لجبرئيل وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقال له جبرئيل إنما أنا عبد مثلك و أنت كريم على ربك فادع ربك و سله ثم ارتفع جبرئيل و جعل رسول الله ص يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبرئيل بالذي سأل ربه فأنزل الله هذه الآية أي قد نرى تقلب وجهك يا محمد في السماء لانتظار الوحي في أمر القبلة و في سببه وجهان أحدهما أنه كان وعد بتحويل القبلة عن بيت المقدس فكان يفعل ذلك انتظارا و توقعا للموعود و الثاني أنه كان يكره قبلة بيت المقدس و يهوى قبلة الكعبة و كان لا يسأل الله ذلك لأنه لا يجوز للأنبياء أن يسألوا الله شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا تكون فيه مصلحة فلا يجابون إلى ذلك فيكون ذلك فتنة لقومهم و اختلف في سبب إرادته ص تحويل القبلة إلى الكعبة فقيل لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم و قبلة آبائه و قيل لأن اليهود قالوا تخالفنا يا محمد في ديننا و تتبع قبلتنا و قيل إن اليهود قالوا ما درى محمد و أصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم و قيل كانت العرب يحبون الكعبة و يعظمونها غاية التعظيم فكان في التوجه إليها استمالة لقلوبهم ليكونوا أحرص على الصلاة إليها و كان ص حريصا على استدعائهم إلى الدين فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها أي تحبها محبة الطباع لا أنه كان يسخط القبلة الأولى وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي علماء اليهود و النصارى لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي تحويل القبلة حق مأمور به و إنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أنه يكون نبي من صفاته كذا و كذا و كان في صفاته أن يصلي إلى القبلتين و روي أنهم قالوا عند التحويل ما أمرت بهذا يا محمد و إنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك مرة إلى هنا و مرة إلى هنا فأنزل الله هذه الآية و بين أنهم يعلمون خلاف ما يقولون وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ أي ليس الله بغافل عما يعمل هؤلاء من كتمان صفة محمد ص و المعاندة انتهى. أقول سيأتي مزيد توضيح و تفسير للآيات في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى
1- شي، ]تفسير العياشي[ عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله ع قال لما صرف الله نبيه إلى الكعبة عن بيت المقدس قال المسلمون للنبي ص أ رأيت صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس ما حالنا فيها و حال من مضى من أمواتنا و هم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ فسمى الصلاة إيمانا الخبر
2- يب، ]تهذيب الأحكام[ الطاطري عن محمد بن أبي حمزة عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله ع قال قلت له متى صرف رسول الله ص إلى الكعبة فقال بعد رجوعه من بدر
3- يب، ]تهذيب الأحكام[ الطاطري عن محمد بن أبي حمزة عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله ع قال سألته عن قوله تعالى وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أمره به قال نعم إن رسول الله ص كان يقلب وجهه في السماء فعلم الله عز و جل ما في نفسه فقال قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها
بيان قوله أمره لعل غرض السائل أن القبلة الأولى أيضا كانت مأمورا بها قال نعم و شرع في بيان أمر آخر
4- يب، ]تهذيب الأحكام[ الطاطري عن وهيب عن أبي بصير عن أحدهما ع في قوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فقلت له الله أمره أن يصلي إلى بيت المقدس قال نعم أ لا ترى أن الله يقول وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ قال إن بني عبد الأشهل أتوهم و هم في الصلاة قد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس فقيل لهم إن نبيكم قد صرف إلى الكعبة فتحول النساء مكان الرجال و الرجال مكان النساء و جعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين فلذلك سمي مسجدهم مسجد القبلتين
5- كا، ]الكافي[ علي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله ع قال سألته هل كان رسول الله ص يصلي إلى بيت المقدس قال نعم فقلت فكان يجعل الكعبة خلف ظهره فقال أما إذا كان بمكة فلا و أما إذا هاجر إلى المدينة فنعم حتى حول إلى الكعبة
-6 يه، ]من لا يحضر الفقيه[ صلى رسول الله ص إلى البيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة بمكة و تسعة عشر شهرا بالمدينة ثم عيرته اليهود فقالوا له إنك تابع لقبلتنا فاغتم لذلك غما شديدا فلما كان في بعض الليل خرج ص يقلب وجهه في آفاق السماء فلما أصبح صلى الغداة فلما صلى من الظهر ركعتين جاءه جبريل فقال له قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها الآية ثم أخذ بيد النبي ص فحول وجهه إلى الكعبة و حول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء و النساء مقام الرجال فكان أول صلاته إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة فبلغ الخبر مسجدا بالمدينة و قد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو الكعبة فكان أول صلاتهم إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين فقال المسلمون صلاتنا إلى بيت المقدس تضيع يارسول الله فأنزل الله عز و جل وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس و قد أخرجت الخبر في ذلك على وجهه في كتاب النبوة
أقول سيأتي في تفسير النعماني بإسناده إلى الصادق ع قال قال أمير المؤمنين ع إن رسول الله ص لما بعث كانت الصلاة إلى قبلة بيت المقدس سنة بني إسرائيل
و قد أخبرنا الله في كتابه بما قصه في ذكر موسى ع أن يجعل بيته قبلة و هو قوله وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً و كان رسول الله ص في أول مبعثه يصلي إلى بيت المقدس جميع أيام مقامه بمكة و بعد هجرته إلى المدينة بأشهر فعيرته اليهود و قالوا إنك تابع لقبلتنا فأحزن رسول الله ص ذلك منهم فأنزل الله تعالى عليه و هو يقلب وجهه في السماء و ينتظر الأمر قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ إلى قوله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ يعني اليهود في هذا الموضع ثم أخبرنا الله عز و جل ما العلة التي من أجلها لم يحول قبلته من أول مبعثه فقال تبارك و تعالى وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ فسمى سبحانه الصلاة هاهنا إيمانا